أرشيف المقالات

حب الدنيا في القرآن الكريم

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
2حب الدنيا في القرآن الكريم
حبُّ مَلذَّات الدُّنيا هو الوسيلةُ المؤثِّرة التي يستخدمها الشيطانُ لإيقاع بني آدم في شَرَكه؛ وذلك بتزيينها لهم، وقد حذَّرنا القرآن الكريم من الدنيا وما فيها كثيرًا، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، يقول الرازي رحمه الله: "الغرور مصدرٌ من قولك: غررتُ فلانًا غرورًا، شبَّه الله الدنيا بالمتاع الذي يُدَلَّسُ به على المُستام، ويغرُّ عليه حتى يشتريَه، ثم يَظْهَرُ له فسادُه ورداءته، والشيطانُ هو المدلِّس الغَرور، وعن سعيد بن جبير: أنَّ هذا في حق من آثَر الدنيا على الآخرة، وأما من طلب الآخرة بها، فإنها نِعْم المتاع، والله أعلم"[1]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 32].   ومن أَجل أن نضعَ معيارًا واضحًا لنحكم على هذه الدنيا التي نعيشُها؛ لا بدَّ من تفسيرها أولاً، فالفعل الماضي للدنيا هو "دنا"، وللمؤنث "دنَتْ"، فيُطلق على حياتنا التي نعيشها "الحياة الدُّنيا"، ولقد جاء في معاجم اللغة العربية عن مصطلح الدنيا المعاني الآتية: • دَنَا يَدْنو؛ فهو دانٍ: قَرُبَ، وسُمِّيتِ الدنيا لأنَّها دَنَتْ، والنِّسْبَةُ إليها دُنْيَاوِي ودُنْيي ودُنْيَوِي، والدَّنَاوَةُ: القَرَابَةُ، ودانَيْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: قارَبْت بينهما[2].   • َدنُؤَ يَدْنُؤُ دَناءةً فهو دَنيءٌ؛ أي: حقيرٌ قريبٌ من اللُّؤْم، والدُّنُوُّ، غير مهموز، دَنَا فهو دانٍ ودَنيٌّ، وسُمِّيَت الدُّنيا لأنَّها دَنَتْ وتأخَّرَتِ الآخِرةُ، وكذلك السَّماءُ الدُّنيا هي القُرْبَى إلينا، والآجلة: الآخرة، والعاجلة: الدُّنيا[3].   • ويقال للرجل إذا طلب أمرًا خسيسًا: قد دنَّى يُدَنِّي تَدْنِيَةً، وقال الليث: الدُّنُوُّ غير مهموز مصدر دنَا يَدْنو، فهو دانٍ، وسمِّيت الدنيا لأنها دَنَتْ وتأخَّرَت الآخرةُ، وكذلك السماء الدنيا هي القُرْبى إلينا[4].   فالدنيا إذًا: إما أنها القريبةُ الأجل؛ أي: إنها قصيرةُ الأمد ستنتهي بسرعة، أو أنها قريبة منَّا قربًا مكانيًّا؛ على أساس أننا نعيش فيها وعلى أرضها، أو أنها قريبةٌ في متناول اليد، أو هي واطئة المكانة "دنية" أو "دنيئة"؛ بمعنى حقيرة خسيسة لا قيمة لها، وأيًّا كان المعنى فالأمرُ واضحٌ فيها وجَلِي، فهي أمد وليس أبدًا، نحن نعيشُها لنقدم ما نستطيع وصولاً إلى الحياة "الآخرة"؛ التي هي أبديَّة، وإنَّ أحقَّ ما قيل في وصف هذه الحياة الدنيا، هو قول بديعها[5] الله جل جلاله: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 32].   ومع كل هذه التحذيرات، وغيرِها، فإنَّ الناس يقعون في حبائلَ كثيرة في هذه الدنيا، والقرآنُ الكريم صنَّف من يحب الدنيا من الناس أنهم قومٌ كافرون، وزيادة على ذلك جاء اللَّفظ القرآنيُّ:﴿ اسْتَحَبُّوا ﴾، وليس أحَبوا، ومن المعلوم أن صيغةَ استفعل أشدُّ من صيغة أفعل، وتدلُّ على عمق الفعل وشدتِه والاجتهاد فيه، مثلما نقولُ: أخرَج واستخرَج؛ فالثاني يدلُّ على الإخراج من عُمق بعد الجهد، قال تعالى في هؤلاء النوع: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [النحل: 107]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴾ [إبراهيم: 3]، يقول ابن الجوزي رحمه الله: "الدنيا فخ، والجاهل بأول نظرة يقع، فأمَّا العاقل المتَّقي فهو يُصابر المجاعةَ، ويدور حول الحبِّ، والسلامةُ بعيدةٌ، فكم من صابرٍ اجتهد سِنين، ثم في آخر الأمر وقع، فالحذرَ الحذر، فقد رأينا من كان على سَنَنِ الصواب، ثم زلَّ على شفير القبر"[6]، ثم إنَّ الله تعالى قد أمر المؤمنين بالابتعادِ عن طاعة طالب الدنيا؛ لأنه يجرُّ العبدَ المؤمن للسوء والشـر، ويبعدهُ عن ذكر الله جل جلاله، فقال تعالى: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [النجم: 29]، ولعلَّ أساسَ المشكلة هنا هي مشكلةٌ اعتقادية؛ حيث إنَّ هؤلاء الكفار يعتقدون أنه لا آخرة، وإنما ما أنْ تنقضـي هذه الحياةُ الدنيا سينتهي معها دورُ الإنسان، وليس هناك حسابٌ ولا عذابٌ ولا جزاء - بزعمهم - قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [الأنعام: 29]، وهذا هو السرُّ الذي جعلهم يحبونها، ويحبون معها كلَّ إغراءاتها وشهواتها، ولما كان حبُّ الدنيا بالنسبة للكفار فوق كلِّ حبٍّ؛ فقد كان شُغلَهم الشاغل، واتَّصف حبهم للدنيا بمجموعةٍ من الصفات، هي: 1- أنَّ هذا الحبَّ قد فاق حُبَّهم للنعيم المقيم الذي في الآخرة، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [النحل: 107]، وإنَّ هذا القياس قياسٌ فاسد، وإنَّ سببه هو ضعف الإيمان في الأصل؛ لأنَّ أقل نعيمٍ في الآخرة لا يمكن أنْ يُقارَن بأعظم ما في الدنيا، وإنَّ القرآن الكريم وصفَ ما في الدنيا بأنه متاعٌ بالنسبة لما في الآخرة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38].   ولأنَّ متاع الدنيا الخادع مادِّي؛ تلمسه اليد، وتراه العين، وتسمعه الأُذُن، فمع ضعف الإيمان وغياب التقوى يراه المرءُ جميلاً جمالاً حقيقيًّا فيتمسك به، ويبذل الجهد لنَيله، فإنْ نالَه تمسَّك به حتى الموت، في حين يرى المؤمنون أنها متاع مزيَّف زائلٌ، وأنَّ النعيم الحقيقيَّ هو في الجنة، ويتفاوت هذا الشعورُ بحسَب الإيمان؛ حيث يزداد مع ازدياده، وينقص بنقصانه؛ لأنَّ الإيمان يزيدُ وينقص، كما ذكرنا في مقامٍ سابقٍ، وهنا يتمايز الناس بمرتبتهم الإيمانية؛ بمعنى تكون منزلتهم في الآخرة وَفق هذا.   2- أنَّ من حبِّهم للحياة الدنيا أنهم رَضُوا واطمئنُّوا بها، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴾ [يونس: 7]، والرضا هو قبولُ المرء بما أُعطي من غير اعتراض، فوصفَ القرآنُ الكريم هؤلاء بأنهم غافلون عن حقيقة المنح في الآخرة؛ لذلك فقد رَضُوا بما في الحياةِ الدنيا حظًّا وقِسْمًا، وحين يرضى المرءُ عن شـيءٍ فلا يرى منه إلا أجودَه، قال الشاعر: وعينُ الرِّضا عنْ كُلِّ عَيبٍ كَليلةٌ ولكنَّ عَينَ السُّخطِ تُبدي المساوِيَا   3- أنَّ الحياة الدنيا وبالرغم من أنَّها متاعٌ قليل زائل، وأنها لا تساوي شيئًا لقلَّة شأنها قياسًا بالآخرة، فإنها زُيِّـنت لهؤلاء الذين أحَبوها، قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [البقرة: 212]، وهذا التزيينُ يجعل مُحِبَّ الدنيا يراها غايةَ مناه، ومنتهى هواه، وعِزَّ طلبِه، قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8].   4- أنَّ الحياةَ الدُّنيا تغرُّهم من شدَّة حُبِّهم لها، قال تعالى: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 130].   قال الأنباري في الزاهر: "غرَّ فلانٌ فلانًا؛ قال بعضهم: معناه قد عَرَّضه للهلكة والبوار؛ من قول العرب: ناقة مُغارٌّ؛ إذا قلَّ لبنها وذهب؛ إمّا لجدبٍ، وإمّا لعِلَّةٍ لحقتْها وبَلِيَّة، ويقال: غرَّ فلانٌ فلانًا: معناه نقصه وظلمه بغشِّه إيَّاه، وسَتْره عنه ما هو حظٌّ له؛ من الغرار، وهو النُّقصان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا غِرارَ في صلاةٍ ولا تسليم))[7]؛ أي: لا نقصان فيها من تضييع حدودها وركوعها وسجودها"[8]، والغَرُور مشتقٌّ من نفس المعنى، وهو الشيطان، وقال تعالى: ﴿ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ [الأنعام: 70].   5- شبَّههم القرآنُ الكريم بأنهم كمن يشتري شيئًا حقيرًا بثمنٍ غالٍ؛ فقد باعوا آخرتهم بدنياهم، فيا لها من صفقةٍ خاسـرةٍ! قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 86]، فلأنهم أحبُّوا ملذَّات الحياة الدنيا؛ فقد دَفعوا فيها أغلى ما يمكن أن يملِكه إنسانٌ؛ فلقد باعوا الحياةَ الآخرة الغالية من أجل الظَّفر بالحياة الدنيا الرخيصة، وهي صفقة خاسـرة ولا شك في ذلك.   6- الذين يحبون الحياة الدنيا تبقى قلوبُهم متعلقة بها وبأهلها، فكلَّما رأوا عبدًا من عباد الله في نعمة تمنَّوا لو أنَّ لهم مِثلَها، ويرون أنَّ حظَّه في الدنيا أفضل منهم، قال تعالى: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [القصص: 79].   7- ظاهر مَن يُحب الدنيا أنه مُنعَّم بما لديه من الأموال والأولاد والجاه، وأنه يعيش حياةً هنيئةً رغيدةً، والأمرُ عكس ذلك تمامًا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 85].   8- أنه يحب العاجلة، قال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ﴾ [القيامة: 20]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴾ [الإنسان: 27]، وسمِّيت الحياةُ الدنيا بالعاجلة؛ لأنها تمر سـريعةً كأنها على عَجل، "وصيغة المضارع في ﴿ يحبُّون ﴾ تدلُّ على تكرُّر ذلك؛ أي: إنَّ ذلك دأبُهم وديدنُهم؛ لا يشاركون مع حبِّ العاجلة حبَّ الآخرة، و﴿ العاجلة ﴾: صفة لموصوفٍ محذوفٍ معلومٍ من المقام، تقديرُه: الحياة العاجلة، أو الدار العاجلة، والمراد بها مدة الحياة الدنيا، وكثُر في القرآن إطلاقُ العاجلة على الدنيا كقوله: ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ * كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ﴾ [القيامة: 19، 20]، فشاع بين المسلمين تسمية الدنيا بالعاجلة، ومتعلق "يحبُّون" مضافٌ محذوف، تقديره: نعيم أو منافع؛ لأن الحُبَّ لا يتعلَّق بذات الدنيا"[9].   9- وأما المؤمنون فلم يذكر القرآنُ أنهم يحبون الدنيا؛ لأنه حُبٌّ مُزيف؛ حب ليس بحقيقي ولا واقعي، ولكنهم ربما طلبوا بعضَ الأمور في الدنيا، التي تعينهم على العمل للآخرة، قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، وقال تعالى: ﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 156]، قال البيضاوي: "﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾؛ يعني: الصِّحة والكَفاف، والتوفيق للخير، ﴿ وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ [البقرة: 201] يعني الثواب والرحمة"[10].   10- ومن شدَّة ما يحب غير المؤمنين شهوات الدنيا وملذاتها، فإنهم لا يحبون كلَّ من ينصحهم ويذكِّرهم بواجباتهم، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فمن ذلك أنهم لا يحبون الناصحين، قال تعالى: ﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 79]، قال ابن عاشور: "﴿ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾؛ أي: تكرهون الناصحين، فلا تطيعونهم في نصحهم؛ لأنَّ المحب لمن يحب مُطيع، فأراد بذلك الكنايةَ عن رفضهم النصيحةَ، واستعمال المضارع في قوله: ﴿ لا تُحِبُّونَ ﴾ إنْ كان في حال سماعهم قولَه، فهو للدلالة على التجديد والتكرير؛ أي: لم يزل هذا دأبكم، فيكون ذلك آخرَ علاجٍ لإقلاعهم، إنْ كانت فيهم بقية للإقلاع عمَّا هم فيه، وإن كان بعد انقضاء سماعِهم، فالمضارعُ لحكاية الحال الماضية"[11].   لقد جاء ذكر الدُّنيا في القرآن العظيم في أكثر من مائة موضعٍ، وليس من بين هذه المواضع ما تُمدح فيه الدنيا؛ وإنما هو التحذير منها، وإظهار حقيقتها بقلة شأنِها، وحتى في مواضع أنَّ الله جل جلاله يُعطي الدنيا أو ثوابَها، فهي ليست مواضع مدح لها؛ بل هو مدحٌ لمقام إنسان كرَّمه الله جل جلاله أنْ أُعطي نصيبًا من الدنيا؛ كما قال تعالى في حق نبيِّه إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النحل: 120 - 122]، وفي حق نبيه عيسى عليه السلام قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45]، ويصف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الدنيا بقوله: ((ما لي وللدُّنيا، ما أنا والدُّنيا، إنما أنا والدنيا كَراكبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ ثُمَّ راحَ وتركها))[12].


[1] تفسير الفخر الرازي، الرازي، ج1، ص 1325. 2 المحيط في اللغة، الصاحب بن عباد، ج9، ص362. 3 العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، ج8، ص75. [4] تهذيب اللغة، محمد بن أحمد الأزهري، ج14، ص133. [5] البديع: الخالقُ من العَدَم . [6] صيد الخاطر، ابن الجوزي، ص 190. [7] أخرجه أبو داود في سننه، 1/ 928، وصححه الألباني. [8] الزاهر في معاني كلمات الناس، أبو بكر الأنباري، ج2، ص299. [9] التحرير والتنوير من التفسير، محمد الطاهر بن عاشور، ج29، ص378. تفسير البيضاوي، البيضاوي، ج1، ص 48910 [11] التحرير والتنوير من التفسير، محمد الطاهر بن عاشور، ج8، ص 177. [12] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، ج2، ص102.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١