أرشيف المقالات

تعليق على كلام للإمام الجويني في مسألة التفويض

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2تعليق على كلام للإمام الجويني في مسألة التفويض   كثيرون هم علماء الكلام الذين اعترفوا بالحسرة والندم، وتحسروا على ما فات منهم، ورجعوا إلى الاعتقاد الصحيح، وسلوك منهج السلف، والتبرؤ من الكلام وأهله، بعد أن كان حالهم كما وصف الإمام الشهرستاني رحمه الله تعالى: لعمري لقد طُفْتُ المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أرَ إلا واضعًا كفَّ حائرٍ على ذَقَنٍ أو قارعًا سنَّ نادم[1]   ومن هؤلاء: الإمام أبو المعالي الجويني رحمه الله تعالى؛ فقد كان من أئمة الكلام، ومدافعًا عن التأويل؛ كما في كتابه الإرشاد، لكنه تاب إلى عقيدة السلف، وبيَّن الحق في كتابه: العقيدة النظامية، وهذا مقطع من كلامه في هذا الكتاب: "اختلف مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما تبرزه أفهام أرباب اللسان منها.   فرأى بعضهم تأويلها، والتزام هذا المنهج في آي الكتاب، وفيما صحَّ من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه.   والذي نرتضيه رأيًا، ونَدين الله به عقدًا: اتباعُ سلف الأمة؛ فالأَوْلى الاتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها، ودرك ما فيها، وهم صفوةُ الإسلام، والمشتغلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألُون جُهدًا في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها.   فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغًا أو محتومًا، لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، فإذا انصرم عصرُهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك قاطعًا بأنه الوجهُ المتَّبَع بحق.   فعلى ذِي الدِّينِ أن يعتقد تنزُّهَ الرب تعالى عن صفات المحدَثات، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكِل معناها إلى الرب، ومما استحسن من إمام دار الهجرة مالكِ بن أنس: أنه سُئِل عن قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، فقال: الاستواءُ معلوم، والكيفُ مجهول، والسؤال عنه بدعةٌ.   فلتجر آية الاستواء والمجيء وقوله: ﴿ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]، ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ﴾ [الرحمن: 27]، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وما صح عن الرسول عليه السلام - كخبر النزول وغيره - على ما ذكَرْنا؛ فهذا بيانُ ما يجِبُ لله تعالى"[2]؛ اهـ.   لكن هذا الكلام من الإمام الجويني - رحمه الله تعالى - يحتاج إلى بيان، وأخص بالذكر العبارات التالية: 1- وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه.   2- وقد درج صَحْب الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك التعرُّض لمعانيها.   3- فعلى ذِي الدِّين أن يعتقد تنزُّهَ الرب تعالى عن صفات المحدَثات، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكِل معناها إلى الرب.   فكل هذه العبارات تحتاج إلى تعليق؛ فالأمر ليس بالهين؛ إذ إنه يتعلق بأصل مهمٍّ من أصول الاعتقاد، ونوع عظيم من أنواع التوحيد، ألا وهو بابُ الصِّفات الذي زلَّتْ فيه أقدام، وغلِطَتْ فيه أفهام، وانقسم الناس فيه إلى فِرَق وفئام.   فتفويض المعاني الذي ذكره الإمام الجويني - رحمه الله تعالى - لم يكن مذهبَ السلف ألبتة، ولم يقُلْ به واحد من الصحابة الكرام، ولا واحد ممن تبِعهم بإحسان، بل كانوا يُجْرون نصوصَ الصفات على ظواهرها، معتقدين معانيها، وإنما كانوا يفوِّضون في الكيفيات؛ فهم كانوا يفهمون معنى الاستواء، والنزول، والرضا، والغضب، والمحبة، وغيرها من الصفات الفعلية، ويفهمون معنى الوجه، واليد، والعين، والقدرة، والعظمة، وغيرها من صفات الذات؛ فكلُّ ذلك كان معلوم المعنى لديهم، ولم يثبُتْ عن أحد من الصحابة الكرام - عليهم أفضل الرضوان - أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى صفةٍ مِن صفات الله تعالى، ولم يثبُتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بيَّن لهم معنى صفةٍ من تلك الصفات، فدلَّ ذلك على أن المعنى معلومٌ غيرُ مجهول.   وإنما التفويض كان في الكيفيات، فإذا ذُكر التفويض منسوبًا إلى السلف، فإنما هو تفويض الكيف لا المعنى[3]، فكانوا يعتقدون معانيَ الصفات ويكِلون كيفياتها - لا معانيها - إلى الله تعالى، وهذا مرادُ إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله تعالى - من قوله: "الاستواء معلومٌ، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة"؛ أي: الاستواء معلوم المعنى، مجهول الكيف.   "فالسلف فوَّضوا العِلم بالكيفية الغيبية إلى الله، أو ردُّوا العلم بكيفيةِ الصفات إلى الله، أما المعنى فهو معلومٌ واضحٌ من دلالة اللغة العربية التي نزل بها القرآن"[4].   وعلى هذا المفهوم جاءت أقوالُ السلف الصالح في نصوص الصفات وسائر الغيبيات: (أمِرُّوها كما جاءت بلا كيفٍ).   قال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله - معقِّبًا: (فقولهم: "أمِرُّوها كما جاءت" يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه؛ فإنها جاءت ألفاظًا دالة على معانٍ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمِرُّوا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غيرُ مراد، أو أمِرُّوا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أُمِرَّتْ كما جاءت"[5].   وكيف يكون التفويض - أي تفويض المعنى - من منهج السلفِ وأصحابُه شرُّ أهل البدع؟! يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متَّبِعون للسنَّة والسلف من شرِّ أقوال أهل البدع والإلحاد"[6]؛ اهـ.   ولا ريب أن للتفويض لوازم غاية في البطلان، منها: 1- أن الله تعالى أمرنا بتدبر كتاب لا يعلم معانيه إلا هو سبحانه، فيكون الأمر بالتدبر من باب اللغو؛ لأنه لا قدرةَ لأحد عليه، تعالى الله علوًّا عما يقول الظالمون؛ "فإن من المعلوم أن الله تعالى أمَرنا أن نتدبر القرآن، وحضَّنا على عَقْله وفَهْمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟"[7].   2- أن كل الأوصاف التي وُصِفَ بها القرآنُ الكريم من أنه بيانٌ وهدًى وشفاء ورحمة ونور وذكرى ورُوحٌ وغير ذلك من الصفات، كل ذلك لا حقيقة له؛ إذ كيف يكون القرآن هدًى ورحمةً ونورًا...
وهو مجرد ألفاظ لا يعلم معانيها إلا المتكلم بها، تعالى الله علوًّا عما يعتقده الزائغون.   يقول شيخ الإسلام - عليه رحمة المنان -: "ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء؛ إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدًى وبيانًا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نُزِّل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعَقْله"[8].   3- أن الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان يعلم معاني القرآن ومع ذلك يفوض، فهذا يعني أنه لم يتمَّ البيان حيث كان يكتفي بتبليغ الألفاظ دون المعاني، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك.   4- أن الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تعبَّدَنا اللهُ بها، لا يعلم معانيَها إلا المتسمِّي والمتصف بها، وهذا يعني أننا نتعبَّدُ بمجرد ألفاظ لا معاني لها في عقولنا، وبطلان هذا في غاية البيان.   5- أن نسبة التفويض للسلف يجعلهم كالأعاجم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ، فيكون حالهم كما قال تعالى في وصف بعض أهل الكتاب: ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [البقرة: 78]؛ أي: إلا تلاوة دون العلم بالمعنى، فعلى هذا فالسلف لم يكن لهم من القرآن إلا قراءة الألفاظ دون أي فهم لمعانيها، وهذا في غاية القدح والتنقص من سلفنا الصالح.   ومن لوازم التفويض الباطلة ما ذكره الدكتور محمود بن عبدالرزاق في كتابه: قضية المحكم والمتشابه: 6- أن القرآن مليء بالحشوِ الذي لا فائدة منه؛ مما يحتم حذفه ليوصف بالكمال، وهذا باطل؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].   7- أن الله خاطب عباده بالألغاز والأحاجي، وهو قادر على عكس ذلك، وهذا باطل؛ لأنه يؤدِّي إلى القول بأن كلام الله بلا معنى، فقال تعالى:﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103]، وقال سبحانه:﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23]، فوصف كلامه بأنه أحسن الحديث.   8- أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلَّغ ما لا يعلم، ولم يفهم ما جاء في التنزيل، وهذا باطل؛ لقوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [إبراهيم: 4].   9- أن الصحابة خدَعوا أنفسهم بادعائهم الفهم، وموافقة النبي صلى الله عليه وسلم في إيمان لا يعلمون حقيقته، وهذا باطل؛ لقوله تعالى عنهم: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 74]، ولقوله: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، فكيف يزدادون إيمانًا بتلاوة ما ليس له معنى؟!   10- أن القول بالتفويض يلزم منه أن ظاهر النصوص يحمل معنى مستهجنًا يخاف المفوِّض من مواجهته، وهذا باطل؛ لأن الله عز وجل أمَرنا بتدبر آياته وفهمها في حدود مدركاتنا، فقال جل ذكره: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]"[9].   وهناك لوازم أخرى للتفويض في غاية البطلان كما أسلفت، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم كما هو معلوم. والله أعلم وأحكم.


[1] مجموع الفتاوى: 4/73. [2] العقيدة النظامية. [3] فالتفويض نوعان: أ - تفويض المعاني: وهذا مذمومٌ، ويلزم منه لوازمُ فاسدةٌ، كما سيأتي بيانه. ب - تفويض الكيفيات: وهذا محمود، وهو من صفات المؤمنين، ونتيجة الإيمان بالغيب، والتسليم لشرع الله. [4] قضية المحكَم والمتشابه: 18. [5] العقيدة الحموية الكبرى: 30. [6] درء تعارض العقل والنقل: 1/115. [7] المرجع السابق. [8] المرجع السابق. [9] قضية المحكَم والمشابه: 1/ 50 - 51.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢