أرشيف المقالات

التشرذم والتجمع

مدة قراءة المادة : 28 دقائق .
2التشرذم والتجمع
يَكثر اليوم الحديث عن الكراهية للإسلام، هو أمر يستحق الاهتمام حقًّا، والأهم الاختلاف والنزاع بين المسلمين أنفسهم على مستوى الفرد والجماعة، ترافق أو لم يترافق بكراهية (أو تباغض كما في اللفظ النبوي)، وبعد أن تناولنا في مقال سابق[1] الأخلاق البينيَّة، نتحدَّث في هذا المقال عن التشرذم والتقاطع كأسوأ وأهمِّ محصلة لوجهها الآخر "الإساءات البينيَّة" والوقاية منها وعلاجها، والتي أوجزها الحبيب بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تباغَضوا، ولا تحاسَدوا، ولا تدابَروا، ولا تقاطَعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)).   مقدمة الانشطار: سورة الحاقة تذكرني بنا؛ السماء الآن متينة متماسكة، وعندما تنشق يوم القيامة فهي ضعيفة واهية، وكذلك كل شيء ينشق في حياتنا..
يضعف إذ ينشطر، ثم...
قد يتمزق، وكذلك أمَّتنا!   ومما عرفت أن حديث "اختلاف أمتي رحمة" موضوع مكذوب، بل إنه نُقل عن السبكي قوله: "ليس بمعروف عند المحدِّثين، ولم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع"، وأقرَّه الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على تفسير البيضاوي، وقال الألباني: "لا أصل له، وقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند، فلم يوفَّقوا"[2]!   والثابت أن الاعتصام بالله تعالى منجاة، ثم إنه لا ينفع أن تعتصم بالله وحيدًا، بل نعتصم به مجتمعين، نعتصم بحبله المتين ولا نتفرَّق؛ ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ﴾ [آل عمران: 103]، ومع كل شقاق وفتنة اسأل نفسك: من المستفيد؟! ثم تذكر: مع مَن الشيطان؟! فعن ابن عمر رضي الله عنه: أن عمر رضي الله عنه خطب بالجَابية فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم خطيبًا فقال: ((مَن أراد منكم بُحْبُوحة الجنة، فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو مِن الاثنين أبعد))؛ أخرجه الترمذي وصحَّحه الألباني.   مشكلة..
وحلول: الداء: وباء فساد النفوس! عندما تنتشر الفُرقة، تشعر وكأنه وباء، وتصنِّف منظمة الصحة العالميَّة مرضًا جديدًا على أنه وباء إذا بلغ عدد المصابين رقمًا محددًا في زمن محدد، ويدهشك في مجال الروح والنفس النسبةُ العالية للعداوة بين النفوس التي كانت تدَّعي المحبة، وكأنهم يَستبِقون الزمن للقيامة، يقول الله تعالى: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67]، والخلاف خارجَ نطاق الثوابت وما فيه نصٌّ هو أمر لا "خلاف" أنه يَحدُث، ولكن المشكلة في التشبث بالخلاف، ثم تحوُّله لاختلاف، وما يجر له ذلك من فرقة وتقاطع في العلائق الاجتماعية وأواصر القربى، وبعضها يصل لأعمق العمق فيَجرحنا بشدة حين ينال الحب في الله والأخوة في الله!   ويؤلمنا بقسوة ويكاد يُذْهب خيريتنا حين يكون تبادليًّا بينيًّا؛ لذلك جاء النهي النبوي عن هذه السلوكيات بألفاظ دالة على التفاعل: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تباغَضوا، ولا تحاسَدوا، ولا تدابَروا، ولا تقاطَعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحلُّ لمُسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث))، قال المفسرون: "لا تباغَضوا؛ أي: لا يكره بعضكم بعضًا".   وأنت اليوم محاط بوسائل للهدم وأخرى للبناء في البنيان الذي يفترض به أن يشدَّ بعضه بعضًا، ونبدأ بالأولى: خصال تُنبت حنظل التشرذم والتقاطع، وتحوِّل الحفرة إلى خندق؛ أهمها: النفاق: وهو يتضمن الحسد، ثمَّ إنَّ العلامة التي تكشف النفاق هي: الشحُّ بالخير وبأي عون للمؤمنين كما أخبرنا الرحمن، لا سيما في النوازل - كالحرب - قال تعالى في وصفهم: ﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ﴾ [الأحزاب: 19]، جاء في تفسيرها: بُخَلاء عليكم بما ينفعكم؛ ولكنهم مهرة في نشر السوء والخبث فوق تخذيلهم، بل المنافق هذا دأبه في السلم والحرب: منع وصول الخير لغيره على أي وجه؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ﴾ [الأحزاب: 19]، وإنَّ شحَّ المنافقين هذا هو كاشف لهم، مثل كواشف الكيمياء.   ومن أبسطها ظاهريًّا قسوة القلب: وهي ترتبط غالبًا بالإغراق بالماديات والمُتع؛ ويكاد يَبلغ الأمر بنا، كما بلغ بأمم خَلَتْ، أن الحجارةَ "العاقلة" التي تَهبِط من خشية الله، والتي تتفجَّر أنهارًا وينابيعَ، والتي تتشقَّق فيُخرِج منها الله للناس ماءً ونباتًا، تقول للإنسان: أنا حجر، وأنت بشر ..
تحجُّري أرقُّ من بشريَّتك!   قال تعالى: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 74]، وصدق الحجر..
يا إنسان!   والنفاق يترعرع بيننا كلما قسَت قلوبنا وبعدنا عن الرحمن وتمتدُّ جذوره على غفلة منا، ولا سيما قسوة بني جلدتنا وناسِنا!   وبينهما الغرور بالعلم: التفرُّق والاختلاف عن علم من أعظم القواصم، وجمعه الله تعالى مع الكفر بعد الإيمان، علمًا أن الاختلاف في القرآن الكريم مذموم وهو غير الخلاف الذي صنف علماؤنا فيه وألفوا تحت اسم: "أدب الخلاف"؛ وهنا يجب ألا نتنطَّع كبني إسرائيل وقد نهانا تعالى أن نقع فيما وقعوا فيه عندما اختلفوا عن علم واستحقوا الوعيد بالعذاب العظيم، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105]، وها نحن بدأنا نفعل "ومعظم النارِ مِن مُستصغَر الشرر": كلما كثرت "الداتا" وتشعَّبت، مع البعد عن المنابع وأمَّهات الكتب، وإعجاب كلٍّ برأيه، استحكم الخلاف وتعاظم الاختلاف! هدانا الله!   وبينهما كذلك طاعة هوى النفس في الخلاف الفكري، وفي الشراكات المادية، وفي العلاقات الإنسانية العاطفية؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ [يوسف: 53]، سبحان الله! هي آية جعلتني وأنا أقرؤها في هدأة أقول: فلنعنها على الأمر بالحسن...، وكأني بالآية تبين زيغ النفس، وتحثُّنا على علاجه، ذلك الزيغ الذي تجد قلَّة يتذكرونه في الأوقات المناسبة، والأسوأ أن هناك من يستحضر الآية لتبرير معصية (كالتقاطُع)، ولا يقلع عنها بحجة أن هذا هو الوضع مع نفوسنا، وقد غاب عنه قوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23]، وهنا "دوَّامة" فاغرة، تنتظر من يترك لهواه الحبل على الغارب، مُستسلمًا لقياده فيتردَّى فيها، وسبحان الله كيف يُربِّينا ويعلمنا من نحن!   الدواء: ويتضمن: أولاً - ثوابت للانطلاق منها: فهو ليس دواء مفردًا، ولا يملك وصفته أحد بالمُطلق، هناك مَن يفشل ويَعترف، وهناك من يصر أنه لم يُخطئ السبيل، ولكنه لا يستطيع رأب الصدع فهذا فوق طاقته؛ لذلك لا بدَّ للبشر من اللجوء إلى كتاب الله تعالى رب البشر الأعلم بحالهم، وسنة رسوله، مُنطلقين من علاج ما سبق من خصال وسلوكيات تعمِّق الشقاق: وإن مفردات العلاج - التي سنَذكر بعضها - منها ما يبلغ بنا الحد الأدنى لمنع غضب الله عنا، ومنها ما يرتقي بأخلاقنا ونفوسنا، (والحمد لله على نعمة الإسلام)، وكلٌّ واجدٌ بُغيته حسب جهده: فكرًا وقولاً وعملاً، ولكل مجتهد نصيب!   ونذكر من هذه الثوابت المَعروفة لأكثرنا: • مسؤولية المسلم..
كل مسلم: في أداء دور الوازع الأخلاقي الاجتماعي، وصولاً إلى دور "الناس" في المجتمع في أداء ذلك الوازع الذي يقلص الخلاف، ويَردم الشقاق.   • صدق النية في التصالُح والإصلاح، وتوجيهها لإرضاء الله تعالى؛ قال رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)).   • والحب في الله: وهذه خصلة تعدِّل هوى النفس الذي أشرنا لدوره في الشقاق؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه))؛ رواه البخاري.   والتقوى التي تقوِّي الإرادة بالإصلاح؛ قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ [الأنفال: 1][3].   ولكن أهي المعرفة التي لا تُجدي نفعًا؟ وهذا يذهب بنا لمنعرجات النفس البشرية، فليست تلك الثوابت فقط هي المعروفة، بل إن معظم ما سنَبحثه من سلوكيات والبواعث النظرية والأخلاقية لها، يعرفها الإنسان بفِطرته وبذكائه الاجتماعي، بل ويُطبِّقها سواء كفرد نحو فرد، أو كمجموعة بشرية نحو أخرى.   يُطبِّقها؟! فما المشكلة إذًا؟ المشكلة أنه يطبقها ولا يُطبقها؛ فهو ينتقي وهو يبعِّض ويتبع هواه، ويلتوي مع مصالحِه، ولا يعترف بخطأ التطبيق، بل يرى نفسه على خُلُق عظيم، والبَعض يَفعل بمكر سلوكيٍّ، والبعض بعشوائية وعاطفية مُنحازة، بين موقفه من هذا وموقفه من ذاك، في ذات الشأن، ينقلب سلوكه: (180) درجة، وهو يُحْسن أدب الحوار والاعتذار، والتلطُّف، والابتسام لهؤلاء، وينقلب بيسرٍ للعبوس والسخرية، والتشدُّق والتفيهُق، والسخط، والجهر بالسوء من القول مع أولئك، تطبيق هوائي ومجزوء، وفوق ذلك يعطي فاعِلِيهِ طُمَأْنينة كاذبة أنهم بخير أخلاقيًّا، وهو أمر تعلمناه وعلمناه من خبراتنا الحياتية، وليس هذا المُناط بالإنسان المسلم ولا الأسرة ولا المجتمع المسلم؛ لذلك تأتي النتائج سلبية.   ثانيًا - خصال وسلوكيات تمنَع تعميق الخلاف ووسائل تعين على ردم الشقاق: في كل مشكلة فردية أو جماعية تتراجع فيها الأخلاق البينية الحميدة لمصلحة الأسوأ، توجد خطوط عريضة، وتفاصيل دقيقة تتفرع عنها، تتعلق بمكانك من المشهد كالتالي: 1- أنت ونفسك. 2- أنت والآخرون.   أنت طرف منخرط في الخلاف، أو أنك طرف ثالث (محايد). 1 - أنت ونفسك: ابدأ بنفسك مع كل شقاق؛ اجلس معها، حاورها وراجعها، مُنطلقًا من أهم الخطوط العريضة التالية: • أقلل من تضخم أناك، والتذلُّل لهواك؛ فأكثر ما يعمق الهوَّة، ويصعِّب ردمَها: الأنا، وعدم التواضع!   • تذكر وذكِّر نفسك بكل شأن، (ومنها شأن موضوعِنا): أنك مسلم عبد للَّه تعالى وحده وأنه معك، وأنت تبغي رضاه، وأنك من أمة الحبيب تتبعه وتحبه، وتأمل شدة قرب رب السماء لأهل الأرض من خلال قول اللهِ سبحانه: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، وانظر رحابة آفاق ديننا، بينما نحن نضيق على أنفسنا في ظلمة الشقاق وكرب النزاع؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تدع شيئًا لله - عز وجل - إلا بدَّلك الله به ما هو خير لك منه))، وهذا الحديث الشريف ينطبق على أمور كثيرة، مِن أهمِّها تركك التقاطع والخلاف لله تعالى، إنه التعويض الرباني..
ومَن لي بمثله؟!   • أخيرًا وليس آخرًا: تأمل ميزان الأرباح والخسائر، تفحصه بدقة وأحْسِن الحساب.   على سبيل المثال: صلة الرحم (وهي أحد مفردات موضوعنا)، التي نتَّقي الله بها كما مرَّ؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ننال أجرها في الدنيا قبل الآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سرَّه أن يُبسَط له في رِزقه، ويُنسأ له في أثره، فليَصِل رحمه))؛ متفق عليه، وفي رواية الترمذي زاد: ((...
فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مَثراة في المال، منسأة في الأثر)
)
، قال علماء الحديث: ((منسأة في الأثر)) يعني زيادةً في العمر، وهي - تلك الصلة - ليست واحدة بواحدة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وَصَلها))؛ صحيح البخاري.   أبسط معادلة حسابية عامة أنك حيث تريد تكون، أما أعظم معادلة رابحة هنا فالتي محصلتها: "بحبوحة الجنة" ومر بنا الحديث النبوي الصحيح، وليس التعويض المقابل بالمنظور الدنيوي، رغم أنك مبشر به!   وسائل فرعية لتلك الخطوط العريضة: أذكُر بعضها للاستئناس، وكل إنسان يستنبط المزيد حسب خصوصيته: أولاً: ترْك الذنوب عمومًا، والتركيز على بعضها مما يزيد الشقاق، علمًا أن التقاطع بحد ذاته ذنب، واستمراره ينم عن ذنب؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده، ما تواد اثنان ففُرِّق بينهما، إلا بذنب يُحدثه أحدهما))؛ الألباني في "صحيح الأدب المفرد".   ثانيًا: الازدياد من الطاعات؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((العبادةُ في الهَرجِ كهجرة إليَّ))؛ رواه مسلم، وقال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: "وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسَّك بدينه، ويعبد ربه، ويتبع مراضيه، ويَجتنِب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية" (وقول ابن رجب هذا هو حالنا اليوم إلا من رحم ربي).   قال النووي - رحمه الله -: "المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد".   ثالثًا: العمل على تأليف قلبك مع الآخرين بعدة وسائل، ولعلَّ أنجعها التوجه لله تعالى بصدق وتضرع، لنسأل الله تعالى الخلاص من الفتن وتأليف القلوب؛ لأن هذا الأمر بالذات رباني بحت، أناطه الله سبحانه بنفسه مباشرة وأعلَمَ نبيه بذلك؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 62، 63]، وهذا يُذكِّرنا بمَن يُنفِق ليُولد الشقاق، ويصطنع ما يستعدي به المسلم على أخيه؛ قال تعالى: ﴿ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ﴾ [الأنفال: 36]، وبمَن يتَّخذ الدعاء لله تعالى لتقوية الخلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مِثلها، أو يدخر له من الأجر مثلها، ما لم يدْعُ بإثم أو قطيعة رحم))، فقال رجل من القوم: إذًا نُكثر؟! قال: ((الله أكثر))، وهو حديث حسن صحيح.   وانظر أخي القارئ، كم منا يحذر من الوقوع في دائرة ذلك الاستثناء المشين؟! 2 - أنت والآخرون: أنت طرف منخرط في الخلاف، أو أنك طرف ثالث (محايد).   في الخلافات الفردية والعداوات الجماعية: كلٌّ منا عليه المسؤولية بطريقة أو بأخرى لإغلاق الباب في وجه الشقاق والفِتنة، بدل ما نحن عليه من تحرِّي تفاصيلها وتضخيمها، وكل منا عليه إثم التأجيج إن فعل: •• ومناط الأمر هنا (والعثرة في التطبيق): إضاءة النفق، الأجدى أن نلتفت لإضاءة النفق وإيجاد مخرج يُرضي الله تعالى، بدل سب الظلام، والوقوع في أفخاخ العدو المُموهة.   •• والنفوس في أنفاق الخلافات درجات، بوسعك أن تَسمو بنفسك لأرقاها، بينما أنت تُسيء لنفسك أكثر أو مثلما تُسيء للآخر بالتباغض والتقاطع، وهو مبدأ إساءة المسلم لنفسه إذ يُسيء لأخيه؛ قال الله تعالى:﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11]، فكيف يلمز المرء نفسه؟! إن عملت خيرًا؛ أحسنت للناس، شفعت بينهم، ودفعت بالتي هي أحسن...
فلنفسك، وعندما تسيء وتُقاطع وتَلمز، فأنت تسخر بنفسك وتُسيء لها؛ لأن عملك سيُحسن أو سيُسيء للمجتمع كله، وأنت جزء منه[4]، كن كإبراهيم أمَّة، ودائمًا تذكَّر، عندما تسلم: أنت أمة.   أنت طرف مباشر في الخلاف: لديك إجراءات وقائية استباقية، تجد في المتن بعضها، ومنها: • عدم تحري السقطات والهفوات من أي من الطرفين، والتغاضي عما عُلم، والتماس الأعذار للمخطئ؛ وهنا لا بدَّ من تحقيق التوازن الدقيق بين الاهتمام بالأخ والسؤال عنه، وبين عدم التدخُّل في دقائق شأنه، وكم أن السؤال عن أشياء إن تُبدَ لنا تسُؤْنا، ومما يُنسب لعمر بن الخطاب: "لو اطَّلَع الناس على ما في قلوب بعضهم البعض، لما تصافحوا إلا بالسيوف"، وبالمُقابل ألا يبدر من أحد الطرفين ما فحواه وربما بطريقة غير مُباشَرة: لا تَصلني ولا تزُرْني، فهذا قد لا يقلُّ سوءًا عن التقاطع والتدابر الصريح.   • ومنها: طيب القول في أي نقاش، والتحلي بأدب الحوار والخلاف، وتجنُّب ما يُثير حفيظة أخيك من تشدق وتكبُّر، فإن لم يكن لأجله فلنفسك، ومَن لا يتمنَّى أن يكون الأحب والأقرب للحبيب صلى الله عليه وسلم؟! قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدِّقون والمُتفيهِقون))، قالوا: يا رسولَ الله، قد علمنا الثرثارين والمتشدِّقين، فما المتفيهقون؟ قال: ((المتكبرون))؛ صحيح الترمذي، ومع ذلك فالمؤسف انتشار الإقذاع بالقول، مع أنه يُخرج من الإيمان! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعان، ولا باللعان، ولا الفاحِش، ولا البذيء))؛ رواه الترمذي..
فكيف يَفعلونه؟! والمؤسِف أكثر أنه غالبًا يكون المنزلق للنقلة التالية..
بمُنتهى السفاهة والتفاهة!   تحوُّل الاختلاف => شقاق: وهنا من أهم التدابير العامة الفعالة مكارم الأخلاق: الاعتذار، والصَّفح الجميل والصبر الجميل.   ثم تأتي الحلول الأصعَب للخلافات الأشد التي لا بدَّ معها من إبداء المرونة والتنازل في شدة التأزم؛ إذ مما يُؤسَف له أن أكثرنا يتحرَّى الهفوات، والبعض يَحفِر حولها لتصبح سقطات لكي يُثبت أن الآخر هو المُخطئ! ناهيك عن أن يَسعى لرأب الصدع! ومَن هذا حالُه، كم سيُعاني، لا سيَّما وهو يعلم أن رزقه سيشحُّ، وأمره في إدبار، ليس في دنياه وحسب، بل وفي آخرته إن اتبع هذه السيرة؟!   =•= منها الدفع بالتي هي أحسن؛ دفع السيئة بالحسنة، ودفع الشقاق بالصلح؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35][5].   =•= ومنها حديثه صلى الله عليه وسلم: ((صِلْ مَن قطعَك، وأحسنْ إلى مَن أساء إليك، وقلِ الحقَّ ولو على نفسك))؛ صحيح الجامع للألباني، وهو من أصعب التطبيقات على أرض الواقع، ويُعيننا على العمل به تذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تدع شيئًا لله - عز وجل - إلا بدَّلك الله به ما هو خير لك منه)).   =•= ومنها ما ورَد في "جامع العلوم" لابن رجب: قال أحد التابعين: "إذا أسأت سيئة في سريرة، فأحسن حسنة في سريرة، وإذا أسأت سيئة في علانية، فأحسن حسنة في علانية؛ لكي تكون هذه بتلك".   نصيحة عندما قرأتها قالت لي نفسي: وقد لا تكون هذه بتلك ما لم يرحمنا الله ويغفر لنا، سبحانك ربي، غفرانك! بفضلك لا بعملنا.   تطبيق عملي: لا شك أن قدوتنا العلماء، ومما أثر عنهم في أدب الخلاف: حُكي أن يونس بن عبداﻷعلى - أحد طلاب اﻹمام الشافعي - اختلف مع اﻹمام محمد بن إدريس الشافعي في مسألة أثناء درسه في المسجد، فقام يونس بن عبداﻷعلى مُغضبًا، وترك الدرس، وذهب إلى بيته، فلما أقبل الليل، سمع يونس صوت طرق على باب منزله، فقال: مَن بالباب؟ قال الطارق: محمد بن إدريس!   قال يونس: فتفكَّرت في كل من كان اسمه محمد بن إدريس إلا الشافعي؛ قال: فلما فتحت الباب، فوجئت به!   فقال اﻹمام الشافعي: يا يونس، تَجمعنا مئات المسائل، وتُفرِّقنا مسألة؟   أحدهم قد يعلِّق: ما الذي يدعوني لمثل ذلك "التنازل"؟! الجواب: أسباب عديدة مرَّ بعضها، وقس عليها أنت بعضها الآخر متمثلاً تلك الشخصيات كالشافعي، وتذكر أن الإصرار على التقاطع يقعد بالعمل الصالح للطرفين أن يرفع - إن كنت أحدهما - حتى يَصطلحا!   ولأنهم قدوتنا، لنتذكر أن من أسوأ أنواع الشقاق خلافنا في العلماء، والانبتات الذي نعاني منه فلا نقطع واديًا، ولا نُبقي ظهرًا! ولنتجنَّب الشقاق لهذه الخلافات ما استطعنا، وفي ذلك نقَل ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم" حول الأخذ عن العلماء والحكماء المَشهود لهم قول الصحابي معاذ بن جبل: "اجتنبْ من كلام الحكيم المشتهرات التي يُقال: ما هذه؟! ولا يَثنيك ذلك عنه، فإنه لعلَّه أن يُراجع، وتلقَّ الحقَّ إن سمعته".   =•=: التكافل الاقتصادي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدَّقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك))؛ رواه مسلم، وهو مِن وسائل ردم الشقاق الهامة، كما يمنع اتساعها عندما لا يربط استمراره بالخلاف مهما كان منشؤه أو طبيعته، ولنا في أمره تعالى للصدِّيق في سورة النور: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22] ألا يقطع العون عن مسطح - خيرُ دليل هادٍ، وما أكثر ما يفعلها الناس اليوم بين بعضهم لظلِّ ذنب أو لمُجرَّد الشك بخطأ فعله الذي يقطعون عنه العطاء!   وفي الصحيحين عن عديِّ بن حاتم عنه صلى الله عليهِ وسلم: ((اتَّقوا النار))، ثم أعرض وأشاح ثلاثًا، حتى قلت: إنه ينظر إليها، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة))، مع التذكير بأن التكافل الاقتصادي لا يَنجح ولا يتحقَّق أصلاً بدون معالجة الحسد والطمع.   • أنت طرف3: المسلم الحق لا يتنصَّل من واجبه في إصلاح ذات البين وإنصاف صاحب الحق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن ردَّ عن عرْضِ أخيه، ردَّ الله عن وجهِه النارَ يوم القيامة))؛ الألباني، صحيح الجامع.   سبحان الله! ما أزهدنا في تلك السلوكيات الراقية على عظم أجرها عند الله تعالى، والطرق كثيرة منها: الشفاعة - النصيحة - الوازع الاجتماعي[6]، مع الاستدراك الهام حول الرأي الذي يثير جدلاً فكريًّا "لا يحقُّ لأحد أن ينصح أو يزع غيره عما فيه"، وأينا يخلو من عيب أو ذنب[7]؟   واليوم الناس تزهد في الشفاعة على أهميتها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشفعوا تؤجروا)).   كن شافعًا في الدُّنيا، واصلاً لا مقاطعًا، يكن الذي وصلته وشفعت فيه لك شفيعًا في الآخرة؛ قال الحسن البصري - رحمه الله -: "استكثروا من الأصدقاء المؤمنين؛ فإن لهم شفاعة يوم القيامة".   وإن أداء هذا الدور في رأب الصدع يحتاج إلى جوهر نفيس ليبلغ تمام، وهو التقوى، في وقتنا الصعب علينا أن نتقيه تعالى في الفتن والخلافات، بدون ذلك مشكوك استحقاقنا لرحمته؛ قال عزَّ من قائل: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10]، اللهمَّ بلى!   تقوى الله تعالى من أندر العملات في الزمن الصعب، فما عليك ألا تكون من النخبة؟! ولنسأله سبحانه أن يَرحمنا، يرحمني الله وإياكم.


[1] كنوز في صعيد جرز: أخلاقنا البينية الكريمة على شبكة الألوكة . [2] في السلسلة الضعيفة، في حديث رقم: 57. [3] أكثر تلك المفردات هنالك كتابات فيها لعلماء أفاضل، ولي في بعضها كتابات منشورة أو مخطوطة، ولكن المجال هنا لا يتسع لتفصيلها. [4] "كتاب السخرية والاستهزاء في الميزان التربوي والأخلاقي"؛ د.غُنية عبدالرحمن النحلاوي، نشر دار الفكر. [5] كنوز في صعيد جرز: أخلاقنا البينية الكريمة على شبكة الألوكة. [6] أكثر تلك المفردات هنالك كتابات فيها لعلماء أفاضل، ولي في بعضها كتابات منشورة أو مخطوطة، ولكن المجال هنا لا يتسع لتفصيلها. [7] وفصلته في "الوازع الاجتماعي / سلسلة أزمة مصطلح / مخطوط "، وقد أجادت أخت الرد ببساطة وصدق بقولها: "قد ننصح الآخرين بما نعلم أنه الصواب ولا نستطيع أحيانًا تطبيقه لضعف بشريتنا، لكن النية النصيحة لنا ولهم..
أحبب لأخيك ما تحب لنفسك".



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢