أرشيف المقالات

إجارة الحيوان لأخذ لبنه والبئر لأخذ مائه

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
2إجارة الحيوان لأخذ لبنهِ، والبئرَ لأخذ مائهِ
صورة المسألة: أن يستأجر شاة لينتفع بلبنها وصوفها مدة العقد، أو يستأجر بئراً ليأخذ من مائه، فهل يجوز ذلك أو لا؟ قولان للعلماء.   وليس المراد بإجارة البئر ما يدخل في الأرض المؤجرة تبعاً، فتلك مسألة أخرى جوزها الجمهور تبعاً للعين المؤجرة.   اختيار ابن تيمية: اختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - جواز ذلك، خلافاً للمشهور من مذهب الحنابلة [1].   أقوال العلماء في المسألة: القول الأول: عدم الجواز. وهذا مذهب جمهور العلماء من: الحنفية [2]، والمالكية [3]، والشافعية [4]، والحنابلة [5].   القول الثاني: الجواز. وهو قول بعض الحنابلة [6] واختيار ابن تيمية وابن القيم [7].   أدلة القول الأول: 1- أن مورد عقد الإجارة النفع، والمقصود هنا العين، والإجارة لا تقع على الأعيان [8].   ونوقش: أ - أنه لا مانع من ذلك، غاية ما فيه أنه بيع، والبيع جائز [9]. ب- لا نسلم أن الإجارة لا تقع على الأعيان بل تقع عليها كلبن الظئر. 2- أنه بيع عين قبل وجودها، وهذا لا يصح؛ لأنه غرر [10].   ونوقش: أ - لا نسلم أنه بيع لها قبل وجودها بل هي موجودة وتستحدث شيئاً فشيئاً، وقد علم بالعادة وجوده، والعادة محكمة [11]. ب- ثم بيع المعدوم ليس كله ممنوعاً منه، بل منه ما يجوز كبيع الثمرة بعد بدو صلاحها وبعضها معدوم [12].   أدلة القول الثاني: 1- القياس على إجارة الظئر الثابت بالنص والإجماع [13].   ونوقش: أنه ثبت على خلاف القياس.   وأجيب عن المناقشة: وأجاب عنه ابن تيمية بقوله: فإن قول القائل: عن إجارة الظئر على خلاف القياس كلام فاسد.
فإنه ليس في كتاب الله إجارة منصوصة عليها في شريعتنا إلا هذه الإجارة ...
والسنة وإجماع الأمة دلاّ على جوازها، وإنما تكون مخالفة للقياس لو عارضها قياس نص آخر، وليس في سائر النصوص وأقيستها ما يناقض هذه ا.هـ.
[14].   2- أن الإجارة تكون على الأعيان كما تكون على المنافع. قال ابن تيمية: وقول القائل: الإجارة إنما تكون على المنافع دون الأعيان ليس هو قول لله، ولا لرسوله، ولا الصحابة، ولا الأئمة، وإنما هو قول قالته طائفة من الناس.
فيقال لهؤلاء: لا نسلم أن الإجارة لا تكون إلا على المنافع فقط، بل الإجارة تكون على ما يتجدد ويحدث ويستخلف بدله مع بقاء العين كمياه البئر وغير ذلك، سواءً كان عيناً أو منفعة ا.هـ.   وقال: كما أن الموقوف يكون ما يتجدد، وما تحدث فائدته شيئاً بعد شيء، سواءً كانت الفائدة منفعة أو عيناً، كالتمر واللبن والماء النابع.
وكذلك العارية وهو عما يكون الانتفاع بما يحدث ويستخلف بدله يقال: أفقر الظهر، وأعرى النخلة، ومنح الناقة [15]، فإذا منحه الناقة يشرب لبنها ثم يردها، أو أعراه نخلة يأكل ثمرها ثم يردها، وهو مثل أن يفقره ظهراً يركبه ثم يرده.
وكذلك إكراء المرأة أو طير، أو ناقة، أو بقرة، أو شاة يشرب لبنها مدة معلومة، فهو مثل أن يكون دابة يركب ظهرها مدة معلومة ا.هـ.[16].   3- أنه قد ثبت عن الصحابة بالإجماع إجارة الشجر كما في حديقة أسيد بن الحضير وهذا إجارة للشجر لأخذ ثمره وهي من الأعيان [17].   4- قال ابن تيمية: وإذا قيل: هو بيع معدوم، قيل: نعم، إذ ليس في أصول الشرع ما ينهى عن بيع كل معدوم! بل المعدوم الذي يحتاج إلى بيعه، وهو معروف في العادة: يجوز بيعه، كما يجوز بيع الثمرة بعد بدو صلاحها؛ فإن ذلك يصح عند جمهور العلماء كما دلت عليه السنة، مع أن الأجزاء التي تخلق بعد معدومة، وقد دخلت في العقد.أ.هـ [18].   5- القياس على العارية حيث يجوز بل يستحب إعارة الناقة والشاة لشرب لبنها، ويسمى المنيحة [19].   6- أن غاية ما فيه أنه بيع أو إجارة، وكلاهما جائزان [20].   7- أن اللبن يجري مجرى المنافع والفوائد فيأخذ حكمها كما في وقف الشجرة لأخذ ثمرها، وإعارتها لأخذ ثمرها، وإعارة الشاة لأخذ لبنها [21].   قال ابن القيم: فهذه الفوائد تدخل في عقود التبرع، سواءً كان الأصل محبساً بالوقف أو غير محبس، ويدخل أيضاً في عقود المشاركات ا.هـ.
[22].   8- القياس على المنافع. قال ابن القيم: الوجه الثالث: أن الأعيان نوعان: نوع لا يستخلف شيئاً فشيئاً، بل إذا ذهب ذهب جملة، ونوع يستخلف شيئاً فشيئاً، كلما ذهب منه شيء خلفه شيء مثله، فهذا رتبة وسطى بين المنافع والأعيان التي لا تستخلف، فينبغي أن ينظر في شبهه بأي النوعين فيلحق به، ومعلوم أن شبهه بالمنافع أقوى، فإلحاقه بها أولى ا.هـ.
[23].   9- أن الأصل في العقود وجوب الوفاء إلا ما حرمه الله ورسوله، فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً، فلا يحرم من العقود والشروط إلا ما حرمه الله ورسوله، وليس مع المانعين نص بتحريمه البتة، وإنما معهم قياس معارض بأقيسة كثيرة أقوى منه، ثم هو قياس مع الفارق [24].   10- سلامة هذا القول من التناقض وعدم اضطرابه، ولما رأوا إجارة الظئر وقعت على خلاف ما توهموه قياساً صحيحاً تمحلوا جواب ذلك بقولهم: العقد إنما وقع على وضعها الطفل في حجرها وإلقامه ثديها فقط، واللبن يدخل تبعاً، وهذا مكابرة للعقول [25].   11- القياس على جواز إجارة الأرض للزرع، وهو هنا عقد لأجل العين وهو الزرع لا ليسكنها، وإذا اغتفر هذا الغرر في الأرض فالحيوان أولى [26].   الترجيح: والراجح - والله أعلم - هو القول الثاني: 1- لقوة أدلته وظهور حجته.   2- ضعف أدلة المخالفين ومناقشتها.   3- موافقته للقواعد الشرعية المرعية في أبواب المعاملات المالية كقاعدة: أن الأصل في المعاملات الإباحة، وقاعدة: الأصل في الشروط الصحة ونحوها.   4- اطراد هذا القول مع أصول الشريعة وقواعدها، وموافقته لكثير من الأقيسة المشابهة في أبواب المعاملات، مما يدل على ثبوت أصل المسألة ووجود نظائر لها.   ومن أسباب الخلاف في المسألة: الخلاف في الأعيان هل يقع عليها عقد الإجارة أو لا؟.
فالجمهور يقولون بالمنع ويخصونه بالمنافع فقط، وابن تيمية يجوزه، والله أعلم.  

[1] انظر: مجموع الفتاوى (20/ 551) (30/ 199-200، 230)، (29/ 77)، مختصر الفتاوى المصرية: (471)، الفتاوى الكبرى: (5/ 408)، زاد المعاد: (5/ 823)، أحكام أهل الذمة: (1/ 111)، الاختيارات: (151)، الفروع: (4/ 429)، المسائل الفقهية من اختيارات ابن تيمية: (66)، الإنصاف: (6/ 31)، المبدع: (5/ 77)، كشاف القناع: (3/ 562)، شرح المنتهى: (2/ 359)، مطالب أولي النهى: (3/ 608). [2] انظر: حاشية ابن عابدين: (6/ 55)، بدائع الصنائع: (4/ 175)، تبيين الحقائق: (4/ 48)، شرح العناية: (6/ 419)، شرح فتح القدير: (6/ 419)، البحر الرائق: (6/ 84)، مجمع الأنهر: (2/ 57)، الفتاوى الهندية: (4/ 442). [3] انظر: حاشية الخرشي: (7/ 13، 21)، الفواكه الدواني: (2/ 110)، حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني: (2/ 190)، حاشية الدسوقي: (4/ 13)، حاشية الصاوي: (4/ 10)، منح الجليل: (7/ 494). [4] انظر: أسنى المطالب: (2/ 406)، شرح البهجة: (3/ 314)، مغني المحتاج: (2/ 466)، حاشية الجمل: (3/ 542)، التجريد لنفع العبيد: (3/ 171)، تحفة المحتاج: (4/ 291)، نهاية المحتاج: (3/ 445).
[5] انظر: المغني: (8/ 129)، الفروع: (4/ 419)، المبدع: (5/ 77)، الإنصاف: (6/ 31)، كشاف القناع: (3/ 562)، شرح المنتهى: (2/ 359)، الروض المربع: (5/ 307)، مطالب أولي النهى: (3/ 608). [6] انظر: الإنصاف: (6/ 31)، كشاف القناع: (3/ 562)، مطالب أولي النهى: (3/ 608). [7] انظر: زاد المعاد: (5/ 823)، أحكام أهل الذمة: (1/ 111)، إعلام الموقعين: (1/ 237)، وانظر: أحكام التابع في العقود المالية: (473). [8] انظر: كشاف القناع: (3/ 562)، المبدع: (5/ 77)، أسنى المطالب: (2/ 406)، شرح البهجة: (3/ 314)، التجريد لنفع العبيد: (3/ 171)، تبيين الحقائق: (4/ 48). [9] انظر: الإنصاف: (6/ 31).
[10] انظر: منح الجليل: (7/ 494)، المبدع: (5/ 77). [11] انظر: مجموع الفتاوى: (30/ 199).
[12] انظر: مجموع الفتاوى: (30/ 200).
[13] انظر: مجموع الفتاوى: (30/ 198-199)، إعلام الموقعين: (1/ 277). [14] مجموع الفتاوى: (30/ 198)، وانظر: (20/ 531). [15] المنيحة هي: أن يعطي الرجل الرجل ناقة أو شاة يشرب لبنها، يردها إذا ذهب درها، ثم قيل لكل من أعطى شيئاً.انظر: المغرب: (2/ 276)، مشارق الأنوار: (1/ 384)، معجم الصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: (329). [16] مجموع الفتاوى: (30/ 199)، (30/ 230)، وانظر: زاد المعاد: (5/ 825). [17] انظر: زاد المعاد: (5/ 825). [18] مجموع الفتاوى: (30/ 200). [19] انظر: مجموع الفتاوى: (30/ 200)، زاد المعاد: (5/ 825). [20] انظر: الإنصاف: (5/ 31)، زاد المعاد: (5/ 825).
[21] انظر: زاد المعاد: (5/ 825). [22] زاد المعاد: (5/ 825).
[23] زاد المعاد: (5/ 826). [24] انظر: زاد المعاد: (5/ 827).
[25] المصدر السابق: (5/ 827). [26] المصدر السابق: (5/ 829).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن