أرشيف المقالات

ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره
عن جبير بن نفير قال: لما فُتحت مدائن قبرص وقَع الناس يقتسمون السْبي، وفرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيتُ أبا الدرداء تنحَّى وحده جالسًا، واحتَبى بحمائل سيفه فجعل يبكي، فأتاه جبير بن نفير فقال: يا أبا الدرداء! أتبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، وأذلَّ فيه الكفر وأهله؟! فضرب على منكبَيه، ثم قال: ويحك يا جبير! - وفي رواية: ثكلتْك أمك يا جُبير بن نفير! - ما أهون الخَلق على الله إذا هم ترَكوا أمره، بينا هي أمة قاهرة قادرة ظاهرة على الناس، لهم المُلك، حتى تركوا أمر الله - عز وجل؛ فصاروا إلى ما ترى، وإنه إذا سلط السباء على قوم؛ فقد خرَجوا مِن عَين الله، ليس لله بهم حاجة"[1].
إنَّ هذا الأثر ليدل ويؤكد على فقه هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه، ويبين ويوضِّح قوله - عز وجل -: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ﴾ [الحج: 18]، وإنَّ الأمم إنما تهون على الله - عز وجل - إذا خالفت أمره، وتركَتْ دِينه، وإنهم بهذا هانوا عليه، فحق عليهم العذاب، وليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك عنهم، فمن يُهِنْه الله - عز وجل - مَن يكرمه؟! ومن يُشْقِه فمن يسعده؟! ومن يذله فمن يعزه؟! ومن يخذله فمن يوفقه؟!
وما ذلك إلا لأنه لا قدرة لغيره أصلاً، ولأن الأمور كلها بيد الله - عز وجل - فهو وحده - عز وجل - يوفِّق من يشاء لطاعته، ويخذل عنها من يشاء، ويُشقي من يشاء، ويُسعِد من يشاء، ويعزُّ مَن يشاء، ويذل من يشاء، فمن ركن إلى غيره أو طلبها ممن سواه، فقد ضل ضلالاً بعيدًا، وخسر خسرانًا مبينًا، حتى ولو بدا له خلاف ذلك من الناس.
يقول ابن القيم: "وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾، وإن عظَّمهم الناس في الظاهر؛ لحاجتهم إليهم، أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه"[2].
إذًا: فأثر أبي الدرداء رضي الله عنه هذا يسلط الأضواء على أعظم الأسباب، التي تقف وراء سقوط الممالك والأمم، وأنهم متى ما تركوا أمر ربهم صاروا إلى الفرقة والشتات، ومن ثم سقطوا، واستحقوا - بفعلهم ذاك - الإهانة والإذلال، والتحقير والخزي والهوان.
ولقد قال الله - عز وجل - في كتابه الكريم، وعلى لسان مؤمن آل فرعون: ﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ﴾ [غافر: 29].
والمعنى[3]: لقد علوتم الناس وقهرتموهم، في أرض مصر، وأصبح لكم السلطان اليوم والملك، وصرتم ظاهرين على بني إسرائيل، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرَّضوا لبأس الله - عز وجل - وعذابه؛ فإنه لا قِبَل لكم به من جهة، ومن يدفع عنا بأس الله - عز وجل - وسطوته إن حلَّ بنا، وعقوبته إن جاءتنا من جهة أخرى.
ففي هذه الآية تَحذير ووعيد منه - مؤمن آل فرعون - لهم مِن نِقمة الله - عز وجلَّ - بهم وإنزال عذابه عليهم، إذا ما هانوا عليه بسبب تركهم لأمره - عز وجل - وتذكيرهم ليشكروا الله - عز وجل - ولا يتمادوا، وهذا وإن اختلف في بعض شكله وتفاصيله إلا أنه عين كلام أبي الدرداء رضي الله عنه ومفهومه.
وهذا يؤكد على قضية جوهرية مهمة وهي: أنه ما أُتِيَت أُمَّة قطُّ إلا مِن قِبَل تركها وإعراضها وتفريطها في أومر الله - عز وجل - والناظر والمتأمل في التاريخ سيرى أن هذه القضية الجوهرية والمفصلية لطالما كانت هي السبب في غياب دول، وسقوط أخرى، وأن هذا السقوط والمترتب على هذه القضية كان ولا يزال بسبب هوان هذه الأمم على ربها وخالقها - عز وجل - وأنهم بسبب هذه المخالفة، استحقوا ما وصلوا إليه.
إن الإعراض والتفريط في أمر الله - عز وجل - كان ولا يزال سببًا في توالي المِحَن، وتَداعي الفِتَن، وإذلال أعناق طالما ارتفعت، وإخراس ألسن لطالما نطقت، وتفريق أسر وجموع طالما اجتمعت، وذهاب ممالك لطالما حكمت!
فهذا أمر عظيم، وخطر جسيم ينبغي ألا يُستهان به، فكم أهلك من أمم، وكم دمر من شعوب؟! ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴾ [الأنبياء:11]، ولذلك فهذا يستدعي اليقَظة والحذر، والعمل بجد لوضع اليد عليه للتخلُّص منه، وهذه بحق - أعني: وضع اليد على هذا الداء - هي أول الخطوات الصحيحة للسير على الطريقة السديدة.
ومِن هنا فإننا نحذر أنفسنا وأمتنا - جميعًا - من تضييع أمر الله؛ خوفًا من عقابه - عز وجل - وسطوته؛ فإن أخذه - عز وجل - لمن ضيَّع أمره ثقيل، وعذابه الدنيوي والأُخروي لمن عصاه وبيل، وإن الخلق أهون شيء على الله - عز وجل - إذا هم أضاعوا أمره، وما أضاع أحد أوامر الله إلا أذله الله - عز وجل.
فحذار أن نستهين بأوامر الله - عز وجل - ونواهيه، فإنه يُراقبنا في السر والجهر ويَعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم


[1] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1 / 217 - 218)؛ لأبي نعيم، وسنن الإمام سعيد بن منصور رقم: (2660)، والعقوبات (ص: 19)؛ لابن أبي الدنيا، والسيَر (ص: 142) لأبي إسحاق الفزاري، وإسناده صحيح، وانظر: الجواب الكافي (ص: 27)؛ لابن قيم الجوزية. [2] الجواب الكافي (ص: 38). [3] مفاتيح الغيب (27 / 510)، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن (20 / 314).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن