الحمد لله رب العالمين
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]﴿ الْحَمْدُ ﴾ أصل الحمد: الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها باللسان وحده، وشرعًا: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم؛ الكمال الذاتي، والوصفي، والفعلي؛ فهو كامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله؛ ولا بد من قيد؛ وهو «المحبة والتعظيم»، قال أهل العلم: "لأن مجرد وصفه بالكمال بدون محبة، ولا تعظيم لا يُسمَّى حمدًا؛ وإنما يُسمَّى مدحًا"؛ ولهذا يقع من إنسان لا يحب الممدوح؛ لكنه يريد أن ينال منه شيئًا؛ تجد بعض الشعراء يقف أمام الأمراء، ثم يأتي لهم بأوصاف عظيمة لا محبة فيهم؛ ولكن محبة في المال الذي يعطونه، أو خوفًا منهم؛ ولكن حمدنا لربنا عزَّ وجلَّ حمد محبةٍ وتعظيمٍ؛ فلذلك صار لا بد من القيد في الحمد أنه وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، و"أل" في ﴿ الْحَمْدُ ﴾ للاستغراق؛ أي: استغراق جميع المحامد.
فالله تعالى مستحقٌّ مختصٌّ بالحمد الكامل من جميع الوجوه؛ فروى ابن ماجه عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ))، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ)).
• قال ابن عاشور: وإن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علَّام الغيوب لم يهمل إرشادهم إلى التحلِّي بزينة الفضائل؛ وهي أن يُقدِّروا النعمة حَقَّ قدرها بشكر المنعم بها، فأراهم كيف يتوجون مناجاتهم بحمد واهب العقل ومانح التوفيق؛ ولذلك كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد، فسورة الفاتحة بما تقرر منزلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي، وهو أعون للفهم وأدعى للوعي.
وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين قواعد للمقدمة:
القاعدة الأولى: إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود، وهو ظاهر في الفاتحة، وليكون سنة للخطباء، فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسبوا إلى العي، فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة.
الثانية: أن تشير إلى الغرض المقصود، وهو ما يُسمَّى براعة الاستهلال؛ لأن ذلك يهيئ السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة، ولأن ذلك يدل على تمكُّن الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم.
وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أُمَّ القرآن.
الثالثة: أن تكون المقدمة من جوامع الكلم، وقد بيَّن ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها.
الرابع: أن تفتتح بحمد الله.
• وقال أيضًا: ولما لقن المؤمنون هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علَّام الغيوب سبحانه، قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جريًا على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر الجميل.
فكان افتتاح الكلام بالتحميد، سنة الكتاب المجيد، لكل بليغ مجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذٍ يلقبون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر، وقد لقبت خطبة زياد بن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء؛ لأنه لم يفتتحها بالحمد.
• وقال أيضًا: قدم الحمد؛ لأن المقام هنا مقام الحمد إذ هُوَ ابْتِدَاءُ أَوْلَى النِّعَمِ بِالْحَمْدِ، وَهِيَ نِعْمَةُ تَنْزِيلِ القرآن الذي فيه نجاح الدارين، فتلك الْمِنَّةُ من أكبر ما يحمد الله عليه من جلائل صفات الكمال لا سيما وقد اشتمل القرآن على كمال المعنى واللفظ والغاية، فكان خُطُورُهُ عند ابتداء سماع إنزاله وابتداء تلاوته مُذَكِّرًا بِمَا لِمُنْزِلِهِ تعالى من الصفات الجميلة، وذلك يُذَكِّرُ بِوُجُوبِ حمده وألَّا يغفل عنه، فكان المقام مقام الحمد لا محالة؛ فلذلك قُدِّمَ وَأُزِيل عنه ما يؤذن بتأخُّره لمنافاته الاهتمام.
ثم إن ذلك الاهتمام تَأَتَّى بِهِ اعْتِبَارُ الاهتمام بتقديمه أيضًا على ذكر الله تعالى اعتدادًا بأهمية الحمد العارضة في المقام، وإن كان ذكر الله أهم في نفسه؛ لأن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية؛ لأنها أمر يقتضيه المقام، والحال والآخر يقتضيه الواقع، والبلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال والمقام، ولأن ما كان الاهتمام به لعارض هو المحتاج للتنبيه على عارضه؛ إذ قد يخفى، بخلاف الأمر المعروف المقرر فلا فائدة في التنبيه عليه بل ولا يُفِيتُهُ التنبيه على غيره.
﴿ للّهِ ﴾ اللام للاختصاص والاستحقاق؛ و"الله" اسم ربنا عزَّ وجلَّ، لا يُسمَّى به غيره، ومعناه: المألوه؛ أي: المعبود حبًّا وتعظيمًا.
﴿ رَبِّ ﴾ هو من اجتمع فيه ثلاثة أوصاف: الخَلْق، والملك، والتدبير؛ فهو الخالق المالك لكل شيء، المدبر لجميع الأمور.
فالمراد أنه مدبر الخلائق وسائس أمورها ومبلغها غاية كمالها؛ إذ التربية تبليغ الشيء إلى كماله تدريجًا.
وإنما ورد في الحديث النهي عن أن يقول أحد لسيِّده: ربي، وليقل: سيدي، وهو نهي كراهة للتأديب؛ ولذلك خَصَّ النهي بما إذا كان المضاف إليه ممن يعبد عرفًا؛ كأسماء الناس لدفع تهمة الإشراك وقطع دابره، وجوَّزوا أن يقول: "رب الدابة ورب الدار"، وأما بالإطلاق فالكراهة أشَدُّ فلا يقل أحد للملك ونحوه: هذا «رب».
وفيه: تقديم وصف الله بالألوهية على وصفه بالربوبية؛ وهذا إما لأن "الله" هو الاسم العَلَم الخاص به، والذي تتبعه جميع الأسماء؛ وإما لأن الذين جاءتهم الرسل ينكرون الألوهية فقط.
﴿ الْعَالَمِينَ ﴾ كل ما سوى الله فهو من العالَم؛ وُصفوا بذلك؛ لأنهم عَلَم على خالقهم سبحانه وتعالى؛ ففي كل شيء من المخلوقات آية تدل على الخالق: على قدرته، وحكمته، ورحمته، وعزته، وغير ذلك من معاني ربوبيته.
قال صاحب أضواء البيان: لم يبين هنا ما العالمون، وبين ذلك في موضع آخر بقوله: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ [الشعراء: 23، 24].
قال بعض العلماء: اشتقاق العالم من العلامة؛ لأن وجود العالم علامة لا شك فيها على وجود خالقه متصفًا بصفات الكمال والجلال، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، والآية في اللغة: العلامة.
قال ابن عاشور: ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ وصف لاسم الجلالة، فإنه بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيهًا على الاستحقاق الذاتي، عقب بالوصف وهو الرب؛ ليكون الحمد متعلقًا به أيضًا؛ فلذلك لم يقل "الحمد لرب العالمين" كما قال: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 6]؛ ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضًا للحمد كما استحقَّه بذاته.
• قال القرطبي: اختلف العلماء أيُّما أفضل قول العبد: «الحمد لله رب العالمين»، أو قول: «لا إله إلا الله»؟ فقالت طائفة: قوله: «الحمد لله رب العالمين» أفضل لأن في ضمنه التوحيد الذي هو «لا إله إلا الله»، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قوله: «لا إله إلا الله» توحيد فقط.
وقالت طائفة: «لا إله إلا الله» أفضل؛ لأنها تدفع الكفر والإشراك، وعليها يقاتل الخلق، قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أُمِرت أن أُقاتِل الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله)).
واختار هذا القول ابن عطية، قال: والحاكم بذلك قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير))؛ [الطبراني].