أرشيف المقالات

الثغر الباسم

مدة قراءة المادة : 28 دقائق .
الثغر الباسم
 
بعث الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين؛ رحمة في تعامله، رحمة في أخلاقه، رحمة في أقواله، رحمة في حياته، رحمة للعالمين مسلمهم وكافرهم، فلم يكن عليه الصلاة والسلام شديدًا على عباد الله، بل أراده ربه أن يكون رحمة، ومن رحماته أنه كان بسَّامًا ضاحكًا، سهلًا لينًا خلوقًا.
 
الابتسامة إحدى لغات الجسد التي منحها الله لعباده، فكان صلى الله عليه وسلم يتخذها وسيلة من وسائل كسب القلوب، والتواصل مع الآخرين؛ فهي وسيلة قليلة الكلفة، سهلة الأداء، سريعة التأثير.
 
والناظر إلى حياة أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم يجد أن البسمة كانت شاهدة واضحة في حياته مع أهل بيته، وجيرانه، وأصحابه، وجلسائه رضوان الله عليهم أجمعين، فما يقابل أحدًا منهم إلا وقابله مبتسمًا.
 
فها هو أحد صحابته الكرام يصف لنا الحبيب عليه الصلاة والسلام؛ يقول عبدالله بن الحارث رضي الله عنه: ((ما رأيتُ أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [رواه أحمد]، فالابتسامة أصبحت جزءًا من أخلاقه وحياته، وجزءًا لا يتجزأ من صفاته فهي لا تفارقه، نعم! فالابتسامة تبعث في نفس الآخرين الأمل والتفاؤل والسعادة، وهي سبب لتقبل دعوة الآخرين ونصيحتهم، وسبب لزرع المحبة في القلوب وتقاربها وتصافيها.
 
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكًا حتى أرى منه لهواته - وهي اللحمة التي في أعلى الحنجرة - تقول: إنما كان يبتسم))؛ [رواه البخاري]، وقد ورد في بعض الأحاديث ذكر التبسم بالضَّحك؛ قال ابن القيم رحمه الله: "وكان جُلُّ - أي: أكثر - ضحكه التبسم، بل كله التبسم، فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه"؛ أي: أنيابه كما ورد ذلك في بعض الروايات.
 
ما أجمل أن يكون المرء دائم البسمة، معروفًا وموصوفًا بها، ينشر بسمته بين هذا وذاك، بين الصغير والكبير، والفقير والغني، والعامل والمسؤول، فيرتاح كل من يقابله، فيُدخِل السرور إلى قلبه ويحبه!
 
إن الابتسامة خلق نبوي حث عليه الحبيب صلى الله عليه وسلم، بل جعلها صدقة وعبادة يُتقرَّب بها إلى الله؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة))؛ [رواه أحمد].
 
نعم، فالإسلام دين ألفة ومحبة وتودد، وليس دين رهبانية وانقطاع للعبادة مع حزن ونوح وبكاء دائم، فما أجمل أن يعوِّد المرء نفسه على أن يكون وجهه مبتسمًا محتسبًا الأجر في ذلك!
 
إن الابتسامة عبادة وخلق عظيم لا تُكلف المرء شيئًا، ويمكن بها كسب قلوب الآخرين ومحبتهم أكثر من كل شيء؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لن تسَعُوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق))؛ [حسنه الألباني].
 
للأسف، كم نرى ونقابل من أناس مُكفهرَّة وجوههم، مقطَّبة جباههم، كأنهم قادمون على حرب ضروس! بل البعض يشتكيه أهلُ بيته زوجته وأولاده ووالداه، والموظفون مع مديرهم، والأصدقاء مع صديقهم - بأن فلانًا دائمُ العبوس لا يكاد يبتسم إلا فيما ندر، والبعض يتعذر ويقول: "هكذا أنا لا أستطيع التغيير"، أو يظن أن كثرة الابتسامة في وجوه الآخرين دليل على ضعف الشخصية، وظن المسكين أن الشدة وعدم الابتسامة دليل على الصرامة وقوة الشخصية، ومثل ذلك يخسر الكثير والكثير على نفسه أولًا، وعلى الآخرين.
 
وقد وردت الابتسامة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام في مواقف عدة؛ إما أن تكون ابتسامته للتعجب، أو للملاطفة، أو للمزاح والمداعبة، أو للإيناس والشفقة والرحمة، أو لبَثِّ التفاؤل والسرور، أو للاعتذار، أو لإظهار الغضب، وسأذكر واحدًا وعشرين موقفًا في ابتسامته وضحكه عليه الصلاة والسلام.
 
أما ابتسامته: فمنها ما كان للتعجب؛ فقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: ((أصاب أهلَ المدينة قحطٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا هو يخطب يوم جمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلكت الكُراع - أي: الخيل - هلكت الشاء، فادعُ الله يسقينا، فمدَّ يديه ودعا، قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة، فهاجت ريح أنشأت سحابًا، ثم اجتمع ثم أرسلت السماء عَزَالِيَها - جمع عزلاء، وهي فم القربة من أسفلها - فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، فلم نزل نُمطَر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل أو غيره، فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، فادعُ الله يحبسه، فتبسم، ثم قال: حوالينا ولا علينا، فنظرت إلى السحاب تصدع حول المدينة كأنه إكليل))؛ [رواه البخاري].
 
سبحان الله! وهو في خطبة الجمعة ولم يمنعه ذلك أن يبتسم، وفي رواية أخرى: ((فتبسم رسول الله من سرعة مَلالَة ابنِ آدم))، فالأمر يستدعي ابتسامة وتعجب، فالرجل قبل أسبوع أتاه يشكو قلة الأمطار وهلاك الثمار، وبعد أسبوع وأيام قلائل يأتيه مرة أخرى فيطلب منه أن يصرف عنهم الأمطار، فاكتفى الحبيب صلى الله عليه وسلم من هذا الموقف بابتسامة جميلة.
 
ومن ذلك ما ورد عن أبي سعيد الخدري: ((أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر، فمروا بحيٍّ من أحياء العرب، فاستضافوهم فلم يُضيِّفوهم، فقالوا لهم: هل فيكم راقٍ؟ فإن سيد الحي لديغٌ أو مصاب، فقال رجل منهم: نعم، فأتاه فرَقَاه بفاتحة الكتاب، فبرأ الرجل، فأُعطي قطيعًا من غنم، فأبى أن يقبلها، وقال: حتى أذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: يا رسول الله، والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب، فتبسم وقال: وما أدراك أنها رُقْيَةٌ؟ ثم قال: خذوا منهم، واضربوا لي بسهم معكم))؛ [رواه مسلم].
 
ومما ورد في ذلك قال عمر رضي الله عنه: ((والله إن كنا في الجاهلية ما نعُدُّ للنساء أمرًا، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم، قال: فبينا أنا في أمر أتَأَمَّرُه، إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا، قال: فقلت لها: ما لكِ؟ ولِمَا ها هنا؟ وفيمَ تكلُّفُك في أمر أريده؟ فقالت لي: عجبًا لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن تُراجَع أنت، وإن ابنتك لتُراجِع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظلَّ يومه غضبان، فقام عمر فأخذ رداءه مكانه حتى دخل على حفصة، فقال لها: يا بُنيَّة، إنكِ لتُراجِعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله، وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم، يا بنيَّة، لا يغرنَّك هذه التي أعجبها حُسنُها حُبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها - يريد: عائشة -[1] قال: ثم خرجتُ حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها، فكلمتها، فقالت أم سلمة: عجبًا لك يا ابن الخطاب، دخلتَ في كل شيء حتى تبتغيَ أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فأخذتني والله أخذًا كسرتني عن بعض ما كنت أجد[2] ...
وفي نهاية الحديث قال عمر رضي الله عنه: فقصصتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فلما بلغتُ حديث أمِّ سلمة، تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم)
)
؛ [رواه البخاري]، فتبسَّم صلى الله عليه وسلم من موقف أم سلمة مع عمر، وردها عليه بهذا الطريقة والأسلوب، مع ما عُرف عن عمر من قوة، ولكنها استطاعت أن تُسكته، ولا تجعله يتحدث بما كان يريده رضي الله عنه، وفي الحديث بيان لبشرية الصحابة ولو كانوا زوجات النبي عليه الصلاة والسلام؛ من حيث تعاملهم معه بهذه الطريقة والأسلوب من المراجعة والهجر له رضي الله عنهن.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بُرْد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جَذْبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت به حاشية الرِّداء من شدة جذبته، ثم قال: مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء))؛ [رواه البخاري]، كأنه ضحك صلى الله عليه وسلم متعجبًا من جرأة هذا الأعرابي، ثم نتعجب نحن من سعة حلمه، وحسن خلقه، بل أمره له بعطاء بعد ذلك كله، نعم؛ لأنه كما قال عنه ربه مزكيًا له: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
 
وقد ورد عن أم قيس أنها قالت: ((تُوفي ابني فجزعت عليه، فقلت للذي يغسله: لا تغسِّل ابني بالماء البارد فتقتله، فانطلق عُكَّاشة بن مِحصن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقولها، فتبسم، ثم قال: ما قالت؟ طال عمرها، قال: فلا أعلم امرأة عُمِّرت ما عُمِّرت))؛ [رواه أحمد].
 
وقد تكون الابتسامة للترحيب والملاقاة؛ قال جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه: ((ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسَّم في وجهي))، تأمل قوله: "منذ أسلمت"؛ يعني ذلك مرات ومرات وسنوات، ففي كل مرة يقابله بابتسامة جميلة تدل على ترحيبه وسروره وملاطفته بذلك.
 
وقد تكون الابتسامة للتفاؤل والبشارة؛ فقد ورد ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالَحَ أهل البحرين، وأمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدومه، فوافته صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، وقال: أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة، وأنه جاء بشيء، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا، كما بُسطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُلهيكم كما ألهتهم))؛ [رواه البخاري].
 
ومن ذلك عن أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت: ((نام النبي صلى الله عليه وسلم يومًا قريبًا مني، ثم استيقظ يتبسم، فقلت: ما أضحكك؟ قال: أُناس من أمتي عُرِضوا عليَّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسِرَّة، قالت: فادعُ الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت مثل قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت من الأولين، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيًا أوَّلَ ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين، فنزلوا الشام، فقُرِّبت إليها دابة لتركبها، فصرعتها، فماتت))؛ [رواه البخاري].
 
ومن ذلك: ((أن أسماء بنت أبي بكر خرجت حين هاجرت وهي حبلى بعبدالله بن الزبير، فقدمت قباء، فنفست بعبدالله بقباء، ثم خرجت حين نفست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُحنِّكه، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة، قال: قالت عائشة: فمكثنا ساعة نلتمسها قبل أن نجدها، فمضغها ثم بصقها في فِيهِ، فإن أول شيء دخل بطنه لَرِيق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالت أسماء: ثم مسحه وصلى عليه وسماه عبدالله، ثم جاء وهو ابن سبع سنين أو ثمانٍ، ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بذلك الزبير، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه مقبلًا إليه، ثم بايعه))؛ [رواه مسلم]، ابتسم صلى الله عليه وسلم فرحًا بهذا الصغير الذي جاء مبايعًا له.
 
وقد تكون الابتسامة للاعتذار؛ فقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((لما مات عبدالله بن أُبي ابن سلول، دُعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتُ إليه، فقلت: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي، وقد قال يوم كذا: كذا وكذا، قال: أُعدِّد عليه قوله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخِّر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه، قال: إني خُيِّرتُ فاخترت، لو أعلم أني إن زدتُ على السبعين يُغفر له، لزدتُ عليها))؛ [رواه البخاري]، ما أعظمه من رجل رحيم رؤوف يريد أن يصلي ويدعو على مَن آذاه وسبَّه، وتكلم في عِرضه، واتهم زوجته، وفعل ما فعل، ومع ذلك رحمته التي بين جنبيه طغت على ذلك كله، ثم نزل تحريم الصلاة على مثل هؤلاء المنافقين، وأما ابتسامته فقال عنها صاحب تحفة الأحوذي: "أنه عبر عن طلاقة وجهه بذلك؛ تأنيسًا لعمر وتطييبًا لقلبه كالمعتذر عن ترك قبول كلامه ومشورته".

وقد تكون الابتسامة للشفقة والرحمة وللإيناس؛ فعن أبي هريرة أنه كان يقول: ((أللهِ الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرَّ ولم يفعل، ثم مر بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي))؛ [رواه البخاري]، نعم، لقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقرأ صفحات وجه أصحابه، فيعلم همومهم وأحزانهم، ويعلم حاجاتهم؛ لأنه رحيم رؤوف بهم، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، ما أجمل أن يعرف المرء حاجتك دون أن تتحدث ولا بكلمة، فتحرج نفسك، وتُريق ماء وجهك أمامه! نعم، إنها أخلاق العظماء.
 
وقد تكون الابتسامة للملاطفة والمزاح؛ فعن صهيب قال: ((قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، وبين يديه خبز وتمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ادنُ فكُل، فأخذتُ آكل من التمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تأكل تمرًا وبك رمد؟ قال: فقلت: إني أمضغ من ناحية أخرى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [رواه ابن ماجه]، ما أجملها من دعابة خفيفة جميلة! أراد النبي صلى الله عليه وسلم ممازحته بها، فقد كان به رمد - وهو مرض يصيب العين - فقال له: كيف تأكل والرمد في عينك؟ فرد الصحابي الدعابة بدعابة مثلها، فقال: آكل على الجهة الأخرى، نعم، كان يمزح عليه الصلاة والسلام ولا يقول إلا حقًّا.
 
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وا رأساه، قال: بل أنا، وا رأساه، قال: ما ضرَّكِ لو مِتِّ قبلي، فغسَّلتكِ وكفنتكِ ثم صليت عليكِ ودفنتكِ، قلت: لكني - أو لكأني - بك والله لو فعلتَ ذلك، لقد رجعتَ إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بُدِئ بوجعه الذي مات فيه))؛ [رواه البخاري]، هكذا هي حياة الحبيب صلى الله عليه وسلم ملاطفة وممازحة لزوجته حتى في مرضه، مع ما في الحديث من غَيرة المرأة، ولو كانت مَن كانت في الدِّين والصلاح، وهذا أمر قد تكرر في مواقف كثيرة من قِبَل نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة عائشة رضي الله عنها.
 
ومن ذلك عن سماك بن حرب قال: ((قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيرًا، فقال: كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح، أو الغداة، حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم))؛ [رواه مسلم]، ما أجمله من موقف! فبعدما صلوا وجلسوا يذكرون الله، أخذوا يعطون للنفس راحتها وانبساطها، فيتحدثون فيما كانوا يفعلونه من أمر الجاهلية من أمور يُنكرونها الآن، فيضحكون على فعلهم ذلك، فما منعهم الحبيب صلى الله عليه وسلم من المزاح والضحك، بل شاركهم بابتسامة جميلة منه عليه الصلاة والسلام.
 
وقد تكون الابتسامة لبثِّ روح التفاؤل والطمأنينة في الآخرين، ففي أصعب المواقف لم تفارق الابتسامة ثغره الجميل عليه الصلاة والسلام؛ ففي مرض موته الذي مات فيه ابتسم عليه الصلاة والسلام؛ فعن ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((بينما المسلمون في صلاة الفجر - وفي رواية: من يوم الاثنين - لم يفْجَأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف سِتر حُجرة عائشة، فنظر إليهم وهم صفوف، فتبسم يضحك، ونكص أبو بكر رضي الله عنه على عقبيه ليَصِلَ له الصف، فظن أنه يريد الخروج، وهَمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فأشار إليهم: أتموا صلاتكم، فأرخى السِّتر وتوفي من آخر ذلك اليوم))؛ [رواه البخاري]، نعم، مع أن المرض قد اشتد به وأتعبه وأنهك جسده الشريف، وربما علِم عليه الصلاة والسلام بقُرب أجله، ومع ذلك يرفع الستار ويبتسم عليه الصلاة والسلام لصحابته الكرام، كأني به يودعهم الوداع الأخير، وكأني به استبشر وفرح عندما رآهم متآخين مجتمعين في صلاتهم، كأني به أراد بابتسامته أن يبث الفأل فيهم، ويُسعد قلوبهم، ويُريح نفوسهم، ويزيح شيئًا من الهمِّ عنهم، حتى كادوا أن يفتتنوا في صلاتهم بهذه الابتسامة المشرقة من حبيبهم صلى الله عليه وسلم، نعم، إنها الابتسامة حتى في أحلك الظروف وأشدها.
 
وقد تكون الابتسامة بعكس ما ذكرناه سابقًا، فقد تكون للغضب؛ ففي قصة تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك، فقد أخبر رضي الله عنه عن نفسه في قصته الطويلة، قال رضي الله عنه: ((فجئتُه - أي: النبي صلى الله عليه وسلم - فلمَّا سلمتُ عليه، تبسَّمَ تبسُّمَ المغضب، ثم قال: تعالَ، فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديه))؛ [رواه البخاري]، فمثل هذه الابتسامات تكفي في تعريف المخطئ بخطئه، وقد تكون رادعة عن العقوبة، وتختلف من أناس لآخرين.
 
وكان يضحك عليه الصلاة والسلام عندما يستدعي الموقف منه الضحك إما تعجبًا أو فرحًا وسرورًا، فلم يكن ضحكه بالقهقهة وإصدار الصوت العالي، ولا يضحك في كل وقت، بل كان جلُّ ضحكه التبسم.
 
ومن مواقفه في الضحك تعجبه مِن بعض مَن جاءه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكتُ، قال: ما لك؟ قال: وقعتُ على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك، أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَق فيها تمر - والعَرَق المكتل - قال: أين السائل؟ فقال: أنا، قال: خذها، فتصدق به، فقال الرجل: أعَلَى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابَتَيْها - يريد: الحرَّتين - أهلُ بيتٍ أفقرَ من أهلِ بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك))؛ [رواه البخاري]، يا ألله! ما أعظمه من موقف يدل على رحمة الإسلام بالمخطئ! فمع أنه هو من وقع في الخطأ ووجبت عليه الكفارة المغلظة، ومع ذلك رجعت إليه الكفارة؛ لأن الإسلام دين رحمة وليس دين تشفٍّ من المذنب؛ قال ابن حجر رحمه الله: "سبب ضحكه عليه الصلاة والسلام كان من تباين حال الرجل حيث جاء خائفًا على نفسه راغبًا في فدائها مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة، طمع في أن يأكل ما أُعطيه من الكفارة، وقيل: ضحك من حال الرجل في مقاطع كلامه، وحسن تأتِّيه وتلطُّفه في الخطاب، وحسن توسله في توصله إلى مقصوده".

ومن مواقفه عليه الصلاة والسلام في الضحك تعجُّبه من كلام العبد لربه يوم القيامة؛ فقد جاء عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولًا الجنة، رجل يخرج من النار حبوًا، فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيُخيَّل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة، قال: فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها - أو: إن لك عشرة أمثال الدنيا - قال: فيقول - أي: العبد - أتسخر بي - أو: أتضحك بي - وأنت الملك؟ قال - أي: راوي الحديث: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، قال: فكان يقال: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة))؛ [رواه مسلم].
 
وضحك يومًا من قول أحد اليهود؛ فعن عبدالله: ((أن يهوديًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الزمر: 67]))؛ [رواه البخاري]، وقد ورد عن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَحِك من ذلك؛ تعجبًا وتصديقًا لليهودي.
 
ومما ورد في ضحكه عليه الصلاة والسلام عن عبدالله بن عمرو قال: ((حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، فلم ينلْ منهم شيئًا، فقال: إنا قافلون إن شاء الله - أي: راجعون - قال أصحابه: نرجع ولم نفتتحه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغدوا على القتال، فغدوا عليه، فأصابهم جراح، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون غدًا، قال: فأعجبهم ذلك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [رواه مسلم]، قال النووي رحمه الله: "معنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قصد الشفقة على أصحابه والرفق بهم بالرحيل عن الطائف؛ لصعوبة أمره وشدة الكفار الذين فيه وتقويتهم بحصنهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم علم أو رجا أنه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة كما جرى، فلما رأى حرص أصحابه على المقام والجهاد، أقام وجدَّ في القتال، فلما أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصَدَه أولًا من الرفق بهم، ففرحوا بذلك لِما رأوا من المشقة الظاهرة، ولعلهم نظروا فعلموا أن رأي النبي صلى الله عليه وسلم أبرك وأنفع وأحمد عاقبة وأصوب من رأيهم، فوافقوا على الرحيل وفرحوا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم؛ تعجبًا من سرعة تغير رأيهم، والله أعلم".
 
بل كان بعض الصحابة يُضحِكون رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ ففي قصة اعتزال النبي عليه الصلاة والسلام لزوجاته وهجرهن ورد فيها: ((ثم أقبل عمر، فاستأذن فأُذِن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا حوله نساؤُه، واجمًا ساكتًا، قال: فقال - أي: عمر بن الخطاب: لأقولن شيئًا أُضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لو رأيتَ بنت خارجة - أي: زوجته - سألتني النفقة، فقمت إليها، فوجأتُ عنقها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هن حولي كما ترى، يسْأَلْنَني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأُ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا أبدًا ليس عنده))؛ [رواه مسلم]، ومعنى يجَأُ عنقها: أي: يطعنه طعنًا خفيفًا للتربية والتأديب؛ قال الإمام النووي رحمه الله: "فيه استحباب مثل هذا، وأن الإنسان إذا رأى صاحبه مهمومًا حزينًا يستحب له أن يحدِّثه بما يضحكه، أو يُشغله ويُطيِّب نفسه".
 
وقد ورد أن أحد الصحابة يُسمَّى نعيمان الأنصاري، وقد شهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها، وكان كثير المزاح، يضحك النبي صلى الله عليه وسلم من مزاحه، وأخباره مشهورة، ذكر بعضها الحافظ في الإصابة.
 
وورد في مسلم عن عمر بن الخطاب أن رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبدالله، وكان يُلقَّب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، ومما ورد في إضحاكه للنبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم سمنًا أو عسلًا، فإذا جاء صاحبُه - أي: صاحب العسل - يطلب قيمته منه، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أعطِ هذا ثمن متاعه، فيبتسم النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر بإعطاء الثمن له، مع أن هذا الرجل شرب الخمر، ومع ذلك كان الرؤوف الرحيم يضحك من أفعاله وصنائعه.

فهذه هي سيرة الحبيب عليه الصلاة والسلام ليس فيها تعقيد ولا دعوة للحزن، بل حياته حياة البشر التي فطر الله الناس عليها، يضحك في مواطن الضحك، ويحزن في مواطن الحزن، ويبكي إن اضطر إلى ذلك، ويعيش حياته الطبيعية بلا رهبنة ولا منع للنفس من رغباته وطلباتها، حياة مليئة بالأنس والسعادة والراحة والطمأنينة.
 
كم نحن بحاجة إلى أن نزرع الأمل والتفاؤل والطمأنينة في حياة الناس، خاصة في زمن كثرت فيه المكدِّرات والأحزان والهموم والآلام، نحتاج فيه إلى ابتسامة جميلة، وضحكة متزنة، ودعابة مقبولة!
 
فاللهم صلِّ على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، واجمعنا به وبصحابته الكرام في جنات النعيم.




[1] قال صاحب عمدة القاري رحمه الله: أي: "لا تغتري بكون عائشة تفعل ما نهيتُك عنه، فلا يؤاخذها بذلك، فإنها تدلُّ بجمالها ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم لها، فلا تغتري أنتِ بذلك؛ لاحتمال ألَّا تكوني عنده بتلك المنزلة".


[2] قال ابن حجر رحمه الله: "أي: أخذتني بلسانها أخذًا دفعني عن مقصدي وكلامي".

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١