أرشيف المقالات

الآية 137 من سورة النساء

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2الآية 137 من سورة النساء   ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 137].   آية إقرارية بيَّن لنا الحقُّ فيها سبحانه حقيقةً وحالةً ميَّزت فئة معيَّنة من الناس، وكشف لنا فيها عن مفهوم الإيمان، وما يعتريه من مفاهيمَ قد تغطِّي المفهوم الحقيقي للإيمان؛ فهي إذًا دعوةٌ إلى كلِّ سامع متلقٍّ لكلام الله عز وجل إلى رصد هذه الآية وتدبُّرِها وفهمها والعمل بالحقيقة التي تطرحُها؛ لأنها حقيقةٌ دافعة - لا محالةَ - كثيرًا من الناس الذين آمنوا إلى مراجعة وقياس إيمانهم من منظور هذه الآية الكريمة؛ فهم فئة آمَنوا وصدَّقوا وأعلنوا ذلك، صدقوا أن هذه الدنيا دارُ اختبار، وأن هنالك خالقًا لهذا الكون، وأن هنالك جزاء وحسابًا، وحقًّا وباطلًا، ورسالات بلغها الرسل بأمر إلهي موجَّهٍ.   إذًا هي فئة صدَّقت وأعلنت ذلك، لكن الآية تُعلِنُ تحوُّلًا وتغيُّرًا لهذه الفئة يدفَعُ إلى التأمُّل والاستجلاء، فبعد إيمانها كفرَتْ ثم آمنت، ثم كفرت ثم ازدادت كفرًا.   من ذلك أطرح التالي: كيف لي بعد أن آمنتُ أن أكون كافرًا؟ وكيف لي بعد الكفر أن أعود للإيمان، ثم أعود للكفر، ثم أزداد كفرًا؟   لذلك وجب عليَّ كمؤمنٍ أعلنتُ تصديقي بكتاب الله عز وجل الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وما فيه من دعوة إلى الإيمان والتصديق الصادق، والحق بهذه الرسالة - أن أتأمَّل في حقيقة هذه الآية؛ حتى أحقِّقَ الفهم والثبات والنجاة.   من ذلك المنطلق: أرى أن مَن يُؤمِنُ بحقيقةٍ ما ويُصدِّقُها يقوم بفعلَيْن اثنَيْن؛ الأول: الإعلان والتصريح في نفسه أنه صدَّق بعد سماعِ فحْوى تلك الحقيقة.   والثاني منطقي: هو العمل بتلك الحقيقة التي آمن بها وصدَّقها إن صدَّقها فعلًا.   أما إن لم يعمل بها، فالمنطقُ مجدَّدًا يجعلنا نقولُ: إنه رفض تلك الحقيقة، ولم يعمل بها؛ إذا هو لم يُصدِّقها، بل نقول: إنه كفرها، إذا كانت تلك الحقيقة التي آمن بها حقًّا؛ أي: أمرًا حقيقيًّا صحيحًا ثابتًا نابعًا من فطرة الإنسان وطَبْعه.   وأما أن يعاود الإنسان بعد عدم العمل بما آمن به تجديدَ إيمانه وإعلانه ثم يكفرُه عمليًّا، ثم يواصل ذلك الفعل، ففي النهاية لا يمكنُ أن نقول إلا أنه لم يُصدِّق تلك الحقيقة، عملًا لها وبها، ولكنه صدَّقها قولًا وظاهرًا فقط.   ومن ذلك أن من يؤمنُ بحقيقة ولكنه متشكك مرتاب حولَها، فما عليه إلا أن يبحث عن تلك الحقيقة، فيعمل لها من حيث السعيُ إلى تِبيانها وتجليتها وإقامة الحجة الدامغة المنطقيَّة العلمية التي تؤكِّد صحتها، أو عدم صحتها، ومن ثَمَّ ينبني العمل بها؛ لأنها أصبحت في منظوره حقيقةً صحيحةً لا مجال لرفضها، أو التشكيك فيها.   أما أن أتشبَّثَ بحقيقةٍ ما، مُعلِنًا أني أصدِّقُها، وأؤمن بها ظاهرًا وقولًا دون العمل بها ولها بسبب كفرها ورفضها وتغطيتها وتغييبها، فإني هنا إما أنني أنافِقُ نفسي ومَن حولي، وأمنِّيها بأنني لا أكفر تلك الحقيقة، ولا أغطيها ولا أدسُّها فيَّ، رغم أنه في عملي أكفرُها ولا أبالي بها ولا أعيرها شأنًا.   أو أنني فعلًا أكفر تلك الحقيقة وأرفضُها ولا أعمل بها ولها، ولكن عودي للإيمان وإعلانه فيه رجاء وأمل ومغالبة؛ لأنال القدرة على تصديق تلك الحقيقة تصديقًا دامغًا حقًّا لا ريب ولا شك ولا كفرَ معه.   إذًا فلننظر ماذا قال الحقُّ سبحانه بشأن مَن صدَّق رسالتَه قولًا وظاهرًا ولم يبنِ عليها عملًا؛ أي: كفَرَها وغطَّاها ودسَّها، ولكنه يعود ظاهرًا وقولًا ليعلن تصديقَه، أما عملًا فلا، هنا الحقُّ سبحانه اعتبر أن هذه الفئة كافرة، وما أبعدها عن الإيمان الحق، بل وجلَّى سبحانه لنا حقيقة المؤمن الحق المصدق لرسالاته، وكيف أنه يكون دائمَ التوبة والاستحضار والتقرُّب والذكر لله عز وجل في جُلِّ أعماله؛ فهو محتسِبٌ قانت، عامل ناظر إلى تلك الحقيقة، ساعٍ إلى تثبيتها وتعزيزها وتقويتها فيه.   لذلك أكَّد الحق سبحانه أن تلك الفئة التي آمنَتْ، ثم كفرت، ثم ازدادت كفرًا - لم يكن الله ليغفرَ لهم، ولكن ارتباطها وسعيها للإيمان - ولو قولًا وظاهرًا، لا عملًا - يجعلنا في النهاية نطلِقُ عليهم لفظ (الذين آمنوا)؛ فهذا اللفظ وإن كان منهم ظاهرًا وقولًا فقط دون عمل، فإنه يقيم الرجاءَ والأمل لدعوة هؤلاء إلى حظيرة الإيمان الحق والصادق؛ لعل الله سبحانه يهديهم سبيلًا.   وقد خاطب القرآن الكريم هذه الفئة ودعاها إلى الصدق في العمل والإيمان، وسعى إلى توجيهها ودعوتها؛ حتى تحقِّق الإيمان الحق؛ (انظر: الآيات 20 -24 -27 - سورة الأنفال).   إذًا فهي فئة بين رجاء الحق سبحانه ودعوته لأن تحقق الإيمان الحق والصادق، وبين كفره وعدم العمل به؛ أي: إيمانها؛ (انظر: الآية 158 الأنعام).   ولنتأمل جيدًا في هذا الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه)).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢