أرشيف المقالات

استحداث الكلام في أصول الدين ونشأة الفرق

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
استحداث الكلام في أصول الدين ونشأة الفرق

مر بنا الحديث عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنه حيث اكتملت دائرة الدين بنص الآية الكريمة، وكانوا على دراية عميقة بالعقيدة الإسلامية وأصولها، كما كانوا على قلب رجل واحد في فهمها وتطبيقها.
 
وفي أعقاب الأحداث الجسام، وعندما بعد الزمان وانقضت الأعوام، ظهرت الفرق والمذاهب الكلامية، كل منها يبتدع عقائد وأقواله لم يقل بها الأوائل، حيث اعتمدوا على آرائهم ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورًا فيها من وراء ذلك، لهذا (سُمِّىَ أهل البدع بـ"أهل الأهواء" لأهم اتبعوا أهواءهم)[1].
 
ويصفهم الشاطبي بأن أكثر هؤلاء أهل التحسين والتقبيح ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم، ويلحق بهم أيضًا من يخشى السلاطين لينال ما عندهم أو طلبًا للرياسة (فلا بد أن يميل مع الناس سواهم ويتأول عليهم فيما أرادوا)[2].
 
كذلك يعلل حدوث البدع بسبب الجهل باللغة العربية حينئذ فقد فهم أهل البدع من المتكلمين كتاب الله تعالى على غير وجهه[3] واستند الشاطئ إلى آثار كثيرة أوردها بكتابه (الاعتصام) عند حذيفة من تخريج ابن وضاح، حيث خرج عن ابن وهب أنه قال: (ليس عام إلا والذي بعده شر منه.
لا أقول: عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب علمائكم وخياركم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم)
[4].
 
وسيأتي الحديث بمشيئة الله تعالى في المبحث الثاني من هذا الكتاب عن آراء الفرق ومناقشتها تفصيلاً ولكننا في مجال التاريخ العام نثبت هاهنا كيف تدرجت البدع ثم تشعبت وتنوعت حيث أرجعها بعض علمائنا في الأصل إلى أربعة فقالوا: (أصول البدع أربعة، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وهم: الخوارج، والروافض (أي الشيعة)، والقدرية والمرجئة).
 
وربما كان تأصيل البدع في هذه الفرق وحدها يرجع إلى أنها كانت بدايات للانحراف عن عقيدة الأوائل، فنحن نعلم ما أحدثه الخوارج من انشقاقات في الصف الإسلامي فضلًا عن (تكفيرهم) لمرتكبي الكبائر، وظهر التشيع في بدايته علامة على سب الصحابة - رضي الله عنهم - باستثناء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فكان بعد ذلك فاتحة للطعن في الإسلام بواسطة الطعن في أشخاصهم، وكانت القدرية علامة على إنكار نص من نصوص الدين - أي الإيمان بالقدر خيره وشره، وأصبح الإرجاء بابًا للاستهانة بالعمل وتشجيعًا للاستهتار بتعاليم الإسلام.
 
وعلى أية حال فإن تبويب "الكلام" وتفريعه وتنظيره نسب إلى المعتزلة، لأنهم أول من فعل ذلك ففي زمن عمرو بن عبيد تكلموا في الوعيد وإنكار القدر، وبعده جاء أبو الهذيل العلاف والنظام وأشباههم من أهل الكلام فنفوا الصفات الإلهية[5].
 
وكانت حجتهم الدفاع عن الإسلام ضد أعدائه، إلا أنهم لم يستخدموا أدلة الشرع بل استخدموا أدلة ظنوا أنها عقلية فأساءوا أكثر مما أحسنوا وأصبحوا (كمن أراد أن يغزو العدو بغير طريق شرعي، فلا فتح بلادهم ولا حفظ بلاده بل سلطهم حتى صاروا يحاربونه بعد أن كانوا عاجزين عنه)[6].
 
لهذا بدَّعَهُم علماء السلف وبَدَّعُوا طريقتهم، وقام أهل السنة في وجه المعتزلة وعارضوهم.
 
ذم السلف لأهل الكلام المخالف للكتاب والسنة:
يقول ابن تيمية:
(ولهذا ذم السلف والأئمة أهل الكلام المحدث المخالف للكتاب والسنة، إذ كان فيه من الباطل في الأدلة والأحكام ما أوجب تكذيب بعض ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتسليط العدو على أهل الإسلام)[7].
 
والنظرة المقارنة أيضًا تعطينا صورة دقيقة عن التغير الحادث بعد عصر الصحابة والتابعين من حيث المنهج ومن حيث القضايا التي كان يهتم بها أهل القرون الأولى بالمقارنة بالعصور التي تلتهم.
يقول ابن قتيبة:
(وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر، وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات، ومجاهدة النفس، وقمع الهوى، فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر)[8]، ويقصد بذلك الاصطلاحات التي ابتدعها المعتزلة في كلامهم واستعاروها من الفلسفة اليونانية.
 
وقد لخص ابن خلدون تاريخ ذلك إجمالًا فبين العقائد التي تقررت في الدين، إذ قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن الإيمان: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) وهذه هي العقيدة المقررة في علم الكلام.
وبعد شرح وتحليل لأمهات العقائد الإيمانية أوضح ابن خلدون أن هذه العقائد معللة بأدلتها العقلية وأدلتها من الكتاب والسنة.
 
ومن هذا التقرير يتبين أن أدلة الكتاب والسنة تستند إلى أدلة عقلية، (وأن تلك الأدلة أخذها السلف وأرشد إليها العلماء وحققها الأئمة).
 
وفي عبارة الأخير إشارة إلى اكتفاء الأوائل هذا النهج القويم، واستمر الحال كذلك إلى أن عرض خلاف في تفاصيل هذه العقائد (أكثر مثارها من الآي المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل وزيادة إلى النقل) ونجم عنه (حدوث) علم الكلام، أي أنه يعلل حدوثه بالاختلاف حول الآيات المتشابهة.
 
ويصف بعد ذلك بدع المجسمة والمشبهة والمعتزلة إلى أن يصل إلى سبب تسمية مسائله بعلم الكلام فيقول: (وسموا مجموعه علم الكلام، إما لما فيه من المناظرة على البدع، وهي كلام صرف وليست براجعة إلى عمل، وإما لأن سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي[9] وتمييزًا له عن (الفقه) لأن الفقه عمل، لأنه مجموعة العبادات تبدأ بالطهارة ثم تنتهي بالموت، والإيمان لابد له من عمل)[10].
 
ومن أجمل كلمات ابن خلدون التي يصف بها عجز العقل عن الإحاطة بالمخلوقات قوله: (لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس، والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقًا من ذلك، والله من ورائهم محيط) ويتبع ذلك توجيه القارئ إلى المنهج السليم النافع الذي يعود عليه بالفائدة ونبذ المنهج السقيم غير النافع، فيقول: (فَاتَّهِمْ إدراكك ومدركاتك في الحصر، واتَّبِعْ ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك فهو أحرص على سعادتك وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك)[11].
 
بعد ذلك علينا التعريف بعلم الكلام وموقف علماء المسلمين منه سواء الدافعين عنه أم الناقدين له.



[1] الشاطبي: الاعتصام ج 2 ص 102- تحقيق رشيد رضا- دار التحرير سنة 1970 م.


[2] نفسه ص 103.


[3] نفسه ص 102.


[4] الاعتصام ج 1 ص 53.


[5] ورأسهم الجهد بن درهم، عداده في التابعين مبتدع ضال، زعم أن الله تعالى لم يتخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلم موسى، فقتل على ذلك بالعراق، الذهبي: ميزان الاعتدال ج 1 ص 185.


[6] ابن تيمية: شرح العقيدة الأصفهانية ص 57/ 63.


[7] نفسه ص 63.


[8] ابن قتيبة: الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة (كتاب عقائد السلف) تحقيق د.
النشار و د.
الطالبي ص 224- منشأة المعارف بالإسكندرية سنة 1971م.


[9] المقدمة ص 465 ط التجارية.


[10] المقدمة ص 461.


[11] المقدمة ص 460.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣