أرشيف المقالات

علامات الساعة الصغرى : رفع العلم وظهور الجهل

مدة قراءة المادة : 26 دقائق .
علامات الساعة الصغرى
رفع العلم وظهور الجهل


45- ظهور النساء الكاسيات العاريات
فانتشار التبرج والسُّفور علامة من علامات الساعة، حيث ظهرت هذه العلامة بوضوح في هذا الزمان، فخرجت النساء إلى الشوارع والطرقات بملابس عارية تُظهر مفاتنهنَّ.
 
أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا".
 
قال النووي رحمه الله "شرح مسلم"(5/710):"هذا الحديث من معجزات النُّبُوَّة، فقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فأما "أصحاب السياط": فهم غِلمان ولي الشرطة.
 
أما "الكاسيات": ففيه أوجه:-
أحدها: معناه كاسيات من نعمة الله، عاريات من شكرها.
 
والثاني: كاسيات من الثياب، عاريات من فعل الخير، والاهتمام لآخرتهن، والاعتناء بالطاعات.
 
والثالث: تكشف شيئاً من بدنها إظهاراً لجمالها، فهن كاسيات عاريات.
 
والرابع: يلبسن ثياباً رِقاقاً، تصف ما تحتها، كاسيات عاريات في المعنى.
وأما قوله: "مائلات مميلات": فقيل: زائغات عن طاعة الله تعالى وما يلزمهن من حفظ الفروج وغيرها، و "مميلات": يُعَلِّمْنَ غيرهن مثل فِعلهن.
 
وقيل: مائلات: متبخترات في مشيتهن، مميلات أكتافهن، وقيل: مائلات: يتمَشَّطْنَ المشطة الميلاء، وهي مشطة البغايا معروفة لهن.
مميلات: يُمشِّطْن غيرهن تلك المشطة.
وقيل: مائلات إلى الرجال، مميلات لهم بما يبدين من زينتهن وغيرها.
 
وأما قوله: "رؤوسهن كأسنمة البخت": فمعناه: يعظمن رؤوسهن بالخُمُر والعمائم وغيرها مما يُلف على الرأس حتى تشبه أسنمة الإبل البخت، هذا هو المشهور في تفسيره.
 
قال المازري: ويجوز أن يكون معناه: يَطْمحن إلى الرجال ولا يغضضن عينهن، ولا يُنَكِّسْن رؤوسهن.
 
واختار القاضي: أن المائلات تمشطن المشطة الميلاء، قال: وهي ضفائر الغدائر، وشدها إلى فوق، وجمعها في وسط الرأس، فتصير كأسنمة البخت، قال: وهذا يدل على أن المراد بالتشبيه بأسنمة البخت: إنما هو لارتفاع الغدائر فوق رؤوسهن وجمع عقائصها هناك، وتكثرها بما يضفرنه حتى تميل إلى ناحية من جوانب الرأس كما يميل السنام.
 
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلن الجنة": يتأوَّل التأويلين السابقين في نظائره:
أحدهما: أنه محمول على مَنْ استحلَّتْ حراماً من ذلك مع علمها بتحريمه، فتكون كافرة مخلَّدة في النار، لا تدخل الجنة أبداً.
 
والثاني: يُحْمل على أنها لا تدخلها أول الأمر مع الفائزين، والله تعالى أعلم.
 
والإنسان منا لا يتصور كيف تسمع المرأةٌ المسلمةٌ هذا الكلام، ثم تصر على خلعها الحجاب، وخروجها سافرةً متبرجةً.
أفما آنَ للنساء أن يَرْجِعْن إلى الله، ويُعْلِن التوبة النصوحَ حتى لا يَدْخُلْنْ في هذا الحديث وتحت هذا الوعيد.
 
46- ظهور الرواحل الجديدة..
كالسيارات مثلاً
لقد عَدَّ بعض أهل العلم أن ظهور مثل هذه السيارات - وغيرها من المركوبات - دلالة على قرب انتهاء الزمان، وذلك للحديث الذي أخرجه الإمام أحمد وابن حبان في "صحيحه"عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي رِجَالٌ يركبون عَلَى سُرُجٍ كَأَشْبَاهِ الرِّحالِ، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كَاسِيَاتٍ عَارِيَاتٍ".
(وضعَّف بعض أهل العلم هذا الحديث، وصححه الألباني في الصحيحة).
 
وهذا قد وقع، فتري أحدهم يضع السيارة عند باب المسجد ويدخل المسجد فيصلي، وزوجته داخل السيارة كاسية عارية.
 
وقوله: "كأشباه الرحال": (بالحاء المهملة) جمع: رحل، وفيه إشارة إلى أنها مركوبات جديدة، لم يرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون المراد أنها السيارات - والله أعلم.
(نهاية العالم للعريفي: صـ131)
 
وقد نَوَّهَ القرآن عن مثل هذا، فقال تعالى: ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل:8].
 
قال الشنقيطي رحمه الله في تفسير هذه الآية ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾:
"أي أنه سبحانه يخلق مالا يعلم المخاطَبون وقت نزولها، وأبهم ذلك الذي يخلقه لتعبيره عنه بالموصول، ولم يصرح هنا بشيء منه، ولكن قرينة ذِكْر ذلك في معرض الامتنان بالمركوبات تدلّ على أن منه ما هو من المركوبات، وقد شُوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومةً وقت نزول الآية، كالطائرات والقطارات والسيارات.
 
ويؤيد ذلك إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لينزلن ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً؛ فليكسرن الصَّلِيبَ، وليقتلن الْخِنْزِيرَ، وليضعن الْجِزْيَةَ، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد".
 
ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "ولتتركن القلاص فلا يسعي عليها"، فإنه قسم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه ستترك الإبل فلا يُسعى عليها، وهذا مشاهد الآن للاستغناء عن ركوبها بالمراكب المذكورة.
 
وفي هذا الحديث معجزة عظمى، تدل على صحة نُبُوَّته صلى الله عليه وسلم، وإن كانت معجزاته - صلوات الله عليه وسلامه - أكثر من أن تُحْصَر.
اهــ
 
47- كثرة السِّمَن في الناس، وظهور قوم يَشهَدُونَ وَلا يُستَشهَدونَ
فقد أخرج البخاري ومسلم عن عمران بنِ حُصَينٍ رضي الله عنه قال: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"خَيرُ أُمَتِي قَرْني، ثُمَّ الذِينَ يَلونَهُم، ثُمَّ الذينَ يَلونَهُم، ثُمَّ إنَّ بَعدَهم قَوماً يَشهَدُونَ وَلا يُستَشهَدونَ، وَيَخُونون ولا يُؤتَمَنونَ، ويَنذُرُون ولا يوفُونَ، ويَظهَرُ فيِهم السِّمَنُ " (متفق عليه).
 
ففي آخر الزمان يظهر أناس - من أوصافهم - أنهم يشهدون ولا يستشهدون، وهذان الوصفان من التساهل بالشهادة على الآخرين بغير علم ولا طلب، وكثرة النذر مع عدم الوفاء به، وهذا إن دَلَّ فإنما يدل على رقة في الدين، وضعف في الإيمان، أما بالنسبة لكثرة السِّمَن الذي يظهر في آخر الزمان، فلعله بسبب انتشار الترف وكثرة وتنوع الطعام والشراب، وقلة حركة الناس بسبب التقدم العلمي، وبسبب الأجهزة الحديثة التي تخدم الإنسان في حياته المعيشية، وقد ذكرت الإحصاءات أن 1/6 (سُدس) سكان العالم يعانون من زيادة الوزن.
 
48- رفع العلم وقلته، وظهور الجهل وكثرته
وقد بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن قبض العلم ورفعه، وظهور الجهل وانتشاره بين الناس علامة من علامات الساعة.
 
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تقوم الساعة...
حتى يُقبض العلم..." الحديث.
 
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان، وينقص العلم..." الحديث.
♦ وفي رواية لهما:"أن يُرفع العلم ويثبت الجهل.
أو قال: يظهر الجهل".
 
والمراد بالعلم هنا علم الكتاب والسنة وما يتفرع عنهما، وهو الموروث عن الأنبياء - عليهم السلام - وبخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلما بعد الزمان عن عصر النبوة قَلَّ العلم وكثر الجهل بصورة عامة.
 
وقد مرَّ بنا في الحديث الذي أخرجه النسائي بسند صحيح عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أشراط الساعة: أن يفشو المال ويكثر، وتفشو التجارة، ويظهر الجهل، ويبيع الرجل البيع، فيقول: لا.
حتى أستأمر تاجر بني فلان، ويلتمس في الحي العظيم الكاتب لا يوجد".
 
• وأخرج البخاري ومسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود وَأَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه َقَالا:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ ".
وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ".
(أخرجه الشيخان وأحمد والترمذي).
 
• وفي رواية أخرى عند الشيخين أيضاً: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لأَيَّامًا، َيُرْفَعُ الْعِلْمُ، و يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ - وعند أحمد بلفظ: "ويفشو فيها الجهل-".
 
• وأخرج البخاري ومسلم كذلك عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل.
ويفشو الزنا، ويُشرب الخمر، ويذهب الرجال، وتبقي النساء، حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد".
 
• وعند البخاري: "القيم الواحد".
(أخرجه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه).
 
• وفي رواية: "إن مِنْ أشراط السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ[1]، وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ[2]، وَيَظْهَرَ الزِّنَا[3]" (رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه )
 
تنبيهات وفوائد:
1 - المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن من أشراط الساعة: أن يُرْفَع الْعِلْمُ، ويثبت الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا"
هو استحكام ذلك وانتشاره بكثرة، حتى لا يبقى مما يقابله إلا النادر.
 
2 - المقصود بالجهل هنا: هو الجهل بأمور الدين، ويدل على ذلك ما جاء عند الطبراني:
"يأتى على الناس زمان لا يُدْري فيه ما صلاة؟ ما صيام؟ ما صدقة؟".
 
وأخرج ابن ماجه والحاكم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدْرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسري على كتاب الله عز وجل في ليلة لا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير العجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة "لا إله إلا الله" فنحن نقولها، فقال له صلةُ: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صياماً ولا صدقة ولا نسكاً؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، ثلاثة".
(صحيح الجامع:8077)، (صحيح ابن ماجه:3273)، (السلسلة الصحيحة:87)
 
ولقد ذمَّ النبي صلى الله عليه وسلم الجاهل بدينه، العالم بأمر الدنيا، وبيَّن أن الله تعالى يبغضه، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في "صحيحه" أن رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ كُلَّ جَعْظَرِيٍّ[4] جَوَّاظٍ [5] صَخَّابٍ[6] فِي الأَسْوَاقِ، جِيفَةٍ بِاللَّيْلِ، حِمَارٍ بِالنَّهَارِ، عَالِمٍ بأمر الدُّنْيَا، جَاهِلٍ بأمر الآخِرَةِ" [7].
 
والمتأمِّل في حال الناس اليوم يجد أن كثيراً منهم يهتم بأمور الدنيا، عالم بها وبشئونها، ولكن في أمور الآخرة فهو أجهل ما يكون، وهذا كله نتيجة طبيعية بسبب الاشتغال بالمعاش، وهجر مجالس العلم والعلماء.
 
3 - المقصود برفع العلم أو قبضه: إنما يكون بموت حَمَلَته، كما صرَّح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم:
فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهّالاً، فسُئِلوا فأفتَوْا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا".
 
‏وفي رواية البخاري: "‏إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جهالٌ، يُستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون".
 
وأخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي قال:
"لما كان في حجة الوداع، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ مردفُ الفضل بن عباس على جمل آدم، فقال: يا أيها الناس، خذوا من العلم قبل أن يُقبض، وقبل أن يرفع العلم، وقد كان أنزل الله عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [المائدة:101]، قال: فكنا نذكرها كثيراً من مسألته، واتقينا ذاك حين أنزل الله عز وجل ذلك على نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال: فأتينا أعرابياً فرشوناه برداءٍ.
قال: فاعتم به، حتى رأيت حاشية البُرد خارجة من حاجبه الأيمن.
قال: ثم قلنا له: سل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقال له: يا نبي الله، كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف، وقد تعلَّمنا ما فيها، وعلمناها نساءنا وذرارينا وخدمنا؟ قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه وقد علت وجهه حمرة من الغضب.
قال: فقال: أي ثكلتك أمك، هذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف؛ لم يصبحوا يتعلقوا منها بحرف مما جاءتهم به أنبياؤهم، ألا وإن ذهاب العلم: أن يذهب حملته ثلاث مرار".
 
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"خذوا العلم قبل أن ينفد ثلاثاً، قالوا: يا رسول الله وكيف ينفد وفينا كتاب الله، فغضب، ثم قال: ثكلتكم أمهاتكم، ألم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل ثم لم يُغنِ عنهم شيئاً؟ إن ذهاب العلم ذهاب حملته " - ثلاثاً.
 
وأخرج الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ، فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الأَنْصَارِيُّ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا، وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَتَقْرَأَنَّهُ نِسَاؤُنَا وَأَبْنَاؤُنَا، فَقَالَ: " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إن كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذَه التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُوَدِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟ قَالَ جُبَيْرٌ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أبو الدرداء، قَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِنْ شِئْتَ لأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ؟ الْخُشُوعُ يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ جَمَاعَةِ فَلا تَرَى فِيهِ رَجُلًا خَاشِعًا".
 
وقفة:
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي مر بنا: "حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوسًا جهّالاً، فسُئِلوا فأفْتَوْا بغير علم؛ فضلُّوا وأضلُّوا"، يدل على أمر مهم ينبغي أن يُتَنبَّه له، وهو أن مَنْ أفتى بغير علم يأثم، ولكن المفتي إن كان من أهل العلم وممَّن اجتمعت فيه شرائط الفتيا، وبذل وُسْعَه للوصول إلى الحق، ثم أفتى بما غلب على ظنه أنه الحق بمقتضي الأدلة، فأخطأ، فلا إثم عليه في الخطأ، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [الأحزاب:5].
 
ولدخوله تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحدٌ".
(أخرجه البخاري ومسام من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه ).
 
أما إذا أفتى مَنْ ليس بأهل للفتيا فأخطأ، أو كان أهلاً ولم يبذل جهده لإحقاق الحق فأخطأ؛ فإنه لا يكون معذوراً بذلك، ويكون آثماً لأنه أضلَّ عن سبيل الله، وقد قال تعالى:
﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ﴾ [النحل: 25] (انظر الفتيا ومناهج الإفتاء: صـ 134 - 136).
 
وقد مرَّ بنا في حديث الباب: "إن الله لا يقبضُ العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوسًا جُهّالاً، فسُئِلوا فأفتَوْا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا".
(رواه البخاري).
 
قال ابن المنذر رحمه الله: "وإنما يُؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالماً بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالماً فلا.
اهـ.
 
واستدل بحديث: "القضاة ثلاثة، وفيه..."وقاضٍ قضى بغير حق فهو في النار، وقاضٍ قضى وهو لا يعلم، فهو في النار"
 
وقال الخطابي رحمه الله في "معالم السنن":
"إنما يُؤجَر المجتهد إذا كان جامعاً لآلة الاجتهاد، فهو الذي يُعْذَر بالخطأ، بخلاف المتكلِّف، فيُخاف عليه.
اهـ.
 
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله كما في "فتح الباري"(13/318):
"لا يلزم من رد حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وُسعه أُجِر، فإن أصاب ضُوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم".
اهـ.
 
49- التماس العلم عند الأصاغر
نشط كثير من الشباب لطلب العلم والدعوة، وهذا أمرٌ جميل وتحتاجه الأمة خصوصاً هذا الزمان، لكن غلب على بعضهم الحماسةُ واستعجال قطف الثمار، فتصدَّر للإفتاء والتعليم، فسُئِلُوا، فأفْتَوْا بغير علمٍ، بل برأيهم، أنفةً منهم واستكباراً عن أن يقولوا: "لا نعلم"، ساعد على هذا الأمر بروزُهم في القنوات الفضائية، فاغترَّ الناسُ بهم، أضف إلى هذا: حصول بعضهم على شهادات وألقاب علمية، والتي تمنحها كثير من المؤسسات العلمية لِخِرِّيجيها.
 
وإذا كان الأمر كذلك، وتصدَّر للتعليم والإفتاء الأصاغرُ، انتشر الفساد وعمَّ البلاء، وهذه علامة من علامات الساعة.
 
أخرج الطبراني في "الكبير والأوسط" عن أبي أمية الجُمَحي رضي الله عنه:
"إن من أشراط الساعة - وفي رواية: ثلاثاً: إحداهن - أن يُلتمس العلم عند الأصاغر".
(صحيح الجامع:2207)، (الصحيحة: 695).
 
وأورد المعلق على "كتاب الزهد" لعبد الله بن المبارك وفيها: "قال نعيم: قيل لابن المبارك: "مَن الأصاغر؟ قال: الذين يقولون برأيهم، فأما الصغير الذي يروي عن كبير فليس بصغير".
 
وقال الحافظ في "فتح الباري"(13/301) وفي "مصنف قاسم بن أصبغ" بسند حسن عن عمر:
"فساد الدين: إذا جاء العلم من قِبَل الصغير استعصى عليه الكبير، وصلاح الناس: إذا جاء العلم من قِبَل الكبير تابعه عليه الصغير" وذكر أبو عبيد: أن المراد بالصغر في هذا: صغر القدر لا السن، والله أعلم".
 
وأخرج الطبراني عن ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: "لا يَزَالُ النَّاسُ صَالِحِينَ مُتَمَاسِكِينَ مَا أَتَاهُمُ الْعِلْمُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ أَكَابِرِهِمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ مِنْ أَصَاغِرِهِمْ هَلَكُوا".
 
وجاء في "كتاب جامع بيان العلم" رقم:2410، (صـ 1225) عن مَالِك رحمه الله قَالَ:
"أَخْبَرَنِي رَجُلٌ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَوَجَدَهُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ أَمُصِيبَةٌ دَخَلَتْ عَلَيْكَ؟ وَارْتَاعَ لِبُكَائِهِ، فَقَالَ: لا، وَلَكِنِ اسْتُفْتِيَ مَنْ لا عِلْمَ لَهُ وَظَهَرَ فِي الإِسْلامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قَالَ رَبِيعَةُ: وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَا هُنَا أَحَقُّ بالحبس مِنَ السُّرَّاقِ ".
 
50- ذهاب أهل الخير والدين
وذهاب أهل الخير والدين علامة من علامات الساعة
فقد أخرج الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَأْخُذَ اللَّهُ شَرِيطَتَهُ[8] مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَبْقَى فِيهَا عَجَاجَةٌ[9]، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا " (قال أحمد شاكر رحمه الله: اسناده صحيح).
 
وإذا قبض الله أهل العلم والصلاح والخير والدين، لم يبقَ إلا أراذل القوم، فإذا كان العلم فيهم فإنه لا يُؤْمَر بمعروف، ولا يُنْهى عن منكر.
 
كما جاء عن ابن ماجه عَنْ أنس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:
"قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى نَتْرُكُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا ظَهَرَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَنَا؟ قَالَ: الْمُلْكُ فِي صغَارِكُمْ، وَالْفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُمْ [10]، وَالْعِلْمُ فِي رُذَالَتِكُمْ[11]".
 
أخرج البخاري: عَنْ مِرْدَاسٍ اَلْأَسْلَمِيِّ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"يَذْهَبُ اَلصَّالِحُونَ اَلْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ ، وَتَبْقَى حُفَالَةٌ[12]، كَحُفَالَةِ اَلشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ، لَا يُبَالِيهِمْ اَللَّه بَالَة[13] " قال أبو عبد الله: يُقال: "حُفالةٌ" و "حثالة"
 
وقد أخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "يَأتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُغَرْبَلُونَ فِيهِ غَرْبَلَةً، يَبْقَى مِنْهُمْ حُثَالَةٌ[14] قَدْ مَرِجَتْ[15] عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ".
(قال أحمد شاكر: إسناده صحيح)



[1] يثبت الجهل: أي ينتشر الجهل ويظهر، وسببه قبض العلماء.



[2] تُشرب الخمر: أي يكثر شرب الخمر.



[3] ويظهر الزنا: قال الحافظ في "الفتح" (12/115): أي يشيع ويشتهر بحيث لا يتكاتم به، لكثرة مَنْ يتعاطاه.


[4] جَعْظَرِيٍّ: أي الغليظ في طبعه.



[5] جَوَّاظٍ: هو الضخم المختال في مشيته، وقيل هو الأَكُول.



[6] صَخَّابٍ في الأسواق: يرفع صوته في الأسواق.



[7] وهذا الحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي في موضع، وسكت عنه في موضع آخر، وقوَّى الحافظ ابن حجر إسناد هذا الحديث في أكثر من موضع من فتح الباري، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم:87"، وقال بعض أهل العلم: "فهذا الحديث وإن كان رواته ثقات، إلا أن في إسناده - محمد بن حازم أبو معاوية الضرير - وهو وإن خرَّج له الشيخان، إلا أنه كان مرجئاً، ومن المعروف عند علماء المصطلح أن المبتدع إذا روى ما يوافق بدعتـه يُتوقَّف في أمره.
والله أعلم.



[8] يَأْخُذَ اللَّهُ شَرِيطَتَهُ: أي يأخذ أهل الخير والدين.



[9] عَجَاجَةٌ: هم الأراذل من الذين لا خير فيهم.


[10] وَالْفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُمْ: أي أن الفاحشة لا تقتصر على الصغار، بل تتفشى حتى تصل إلى الكبار وتدب فيهم، والمراد بالفاحشة: الزنا.
والله أعلم


[11] قَالَ زَيْدٌ: "وَالْعِلْمُ فِي رُذَالَتِكُمْ": أي: إِذَا كَانَ الْعِلْمُ فِي الْفُسَّاقِ .



[12] قال الحافظ في "الفتح"(11/252): "وقال الخطابي: "الحفالة" (بالفاء وبالمثلثة): الرديء من كل شيء، وقيل: آخر ما يبقى من الشعير والتمر وأردأه.
وقال ابن التين: الحثالة: سقط الناس، وأصلها ما يتساقط من قشور التمر والشعير...
وغيرهما.
وقال الداودي: ما يسقط من الشعير عند الغربلة، ويبقى من التمر بعد الأكل".
وقال الحافظ صلى الله عليه وسلم في "الفتح": وقد وجدتُ لهذا الحديث شاهداً من رواية الفزارية امرأة عمر بلفظ:
"تذهبون، الخيِّر فالخيِّر، حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر، ينزو بعضهم على بعض نزْو المعز".



[13] في رواية البخاري الموقوفة: "لا يعبأ الله بهم شيئاً"، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار المجاشعي: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربهم وعجمهم" والله أعلم.
وفي هذا الحديث دليل أن موت الصالحين من أشراط الساعة.
وهذا واضح لا يُخْفى.



[14] حُثَالَةٌ: الرديء من الشيء.
كما مر بنا


[15] مَرِجَتْ: اختلطت.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢