ثلاث مهلكات
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
ثلاث مهلكاتالخطبة الأولى
أيها الناس:
لقد اختص الله نبيه ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بخصائص كثيرة، ومن هذه الخصائص أنه أوتي جوامع الكلم، وفي يومنا هذا نبقى مع حديث عظيم من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ فعن عبد الله ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ مهلكاتٌ، وثلاثٌ منجياتٌ، وثلاثٌ كفاراتٌ، وثلاثُ درجاتٍ، فأمَّا المهلكات: فشُحٌّ مطاع، وهوًى مُتَّبعٌ، وإعجابُ المرء بنفسِه، وأما المنجياتُ: فالعدل في الغضب والرضا، والقصدُ في الفقر والغنى، وخشية الله تعالى في السر والعلانية، وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السَبَرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام) رواه الطبراني في معجمه الأوسط، وقال الألباني: "حسن لغيره".
وحديثنا هذا اليوم عن الثلاث المهلكات؛ حتى نحذر منها ونحذر؛ أول هذه المهلكات: (شُحٌّ مُطاعٌ)، والشح: "هو شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه والاستقصاء في تحصيله وجشع النفس عليه، والشح يدعو إلى البخل، فمن بخل فقد أطاع شح نفسه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووُقِي شره، وذلك هو المفلح، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
وقد جاءت السنة النبوية بالتنفير من الشح وذمه والتحذير منه، فقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والشح؛ فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا).
بل عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الشح من الكبائر المهلكة، فقد أخرج الإمام النسائي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات)، قيل: يا رسول الله، وما هي؟ قال: (الشرك، والشح، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق...
الحديث ).
أيها المؤمنون:
ثاني هذه الثلاث المهلكات: هوى متبع، وتلك صفة أخرى ذميمة قد تضافرت على ذمها والتحذير منها نصوص الكتاب والسنة، وما ضل من ضل عن سبيل الرشاد والهداية وأوغل في سبيل الضلال والغواية إلا وكان الهوى هو العاملَ الأساس في ذلك، وقد حذرنا الله من اتباع الهوى في آيات كثيرة من كتابه؛ قال تعالى: ﴿ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الروم: 29]، وقال تعالى: ﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ﴾ [القصص: 50]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26]، والهوى قد يؤدي بصاحبه إلى النار، قال الشعبي-رحمه الله-: "إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار"..
أيها المؤمنون:
إن الهوى ليتمادى بصاحبه ويتمكن منه حتى يعسر عليه تركُه، بل إن الهوى قد يصل بصاحبه إلى أن يكون عبدًا له من دون الله، قال تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ [الفرقان: 43]، قال قتادة -رحمه الله-: "هو الذي كلما هوى شيئًا فعله، وكلما اشتهى شيئًا أتاه؛ لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى"، وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: أي مهما استحسن من شيء ورآه حسنًا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه.
عباد الله، إن جميع المعاصي والبدع إنما تنشأ من اتباع الهوى؛ يقول ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمي أهلها أهل الأهواء".
ولذلك فإن الهوى من أخوف ما خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته؛ فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى)، قال عليرضي الله عنه "إنَّ أخوف ما أتخوف عليكم اثنتان: طول الأمل، واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمُّه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يَغضَبُ له بهواه"..
ولذلك فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء).
إخوة الإيمان، إنه لا نجاة من هلكة الهوى إلا بمخالفته، وسؤال الله الإعانة على ذلك، قال بعض السلف: "إن شئت أخبرتك بدائك وإن شئت أخبرتك بدوائك، داؤك هواك ودواؤك ترك هواك ومخالفته"، وقال بشر الحافي -رحمه الله تعالى-: "البلاء كله في هواك والشفاء كله في مخالفتك إياه"، يقول الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله، أقول قولي هذا؛ وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون:
ثالث هذه الخصال المهلكة المذكورة في الحديث: "إعجاب المرء بنفسه"؛ قال القرطبي –رحمه الله-: وإعجاب المرء بنفسه هو ملاحظةٌ لها بعين الكمال مع النسيان لنعمة الله، قال تعالى في قصة قارون: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾ [القصص: 78]، قال الله تعالى: ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ﴾ [القصص: 81]، فثمرة العجب الهلاك، قال الغزالي-رحمه الله-: "ومن آفات العجب أنه يحجب عن التوفيق والتأييد من الله تعالى، فإن المعجب مخذول، فإذا انقطع عن العبد التأييد والتوفيق فما أسرع ما يَهلك، قال عيسى-عليه الصلاة والسلام-: "يا معشر الحواريين كم سراجٌ قد أطفأته الريح؟ وكم عابدٌ أفسده العُجب؟".
إخوة الإيمان، وإن من أشدّ أنواع العجب ما كان من منطلق العلم والفقه والتدين، قال مطرّف بن عبد الله: "لأن أبيت نائمًا وأُصبِح نادمًا، أحبّ إليّ من أن أبيت قائمًا وأصبح معجبًا"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الهلاك في اثنتين: القنوط والعجب".
وجاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: (بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مُرَجِّلٌ رأسه، يختال في مشيته إذ خسف الله به، فهو يتجلجل – أي يغوص وينـزل- في الأرض إلى يوم القيامة)، وهذا ابن عمررضي الله عنه يرى رجلًا يختال في مشيته، فقال له: يا عبد الله، هذه مشية يبغضها الله، فالتفت إليه الرجل، وقال: ألا تعرفني؟! قال: بلى، أعرفك؛ أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل الخرأة.
فالبعد البعد - عباد الله - من هذه الثلاث المهلكات، واللهَ اللهَ في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، والتأدب بآداب الإسلام، والتخلق بأخلاقه الحميدة، والله نسأل أن يطهر قلوبنا من هذه الخصال المهلكة، وأن يعيننا على أنفسنا والشيطان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اختصار ومراجعة: الأستاذ: عبدالعزيز بن أحمد الغامدي