أرشيف المقالات

وصف القرآن الكريم لحال أكثر الناس بأنهم لا يشكرون

مدة قراءة المادة : 21 دقائق .
2وصف القرآن الكريم لحال أكثر الناس بأنهم لا يشكرون
تمهيد إن من نعم الله تعالى وإفضاله على العبد أن يلهمه الشكر والثناء على نعمه؛ ففي ذلك صلاح له وطريق خير وفلاح، وبه يتحقق للإنسان المسلم زيادة النعم من جهة وتقييد النعم من جهة ثانية، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، وجاء في تفسير الإمام البغوي - رحمه الله - عند معنى الشكر أنه: قيد الموجود وصيد المفقود (البغوي، معالم التنزيل، ج 4، ص 337).   والشكر من الأخلاق الكريمة التي أتصف بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الشاكرين، فكان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، فقد ورد في الحديث الشريف عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ أَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ: " أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا " (صحيح مسلم، حديث رقم: 5044، صحيح البخاري، حديث رقم: 1062).   وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الشكر لربه، وقد علَّمنا أن نقول بعد كل صلاة كما ورد في الحديث: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: " يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فَقَالَ أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ " (سنن أبي داود، حديث رقم: 1301).   وقال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 120-21].   ووصف الله عز وجل نوحًا عليه السلام بأنه كان عبداً شكوراً، فقال تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3]، وقال الله تعالى عن سليمان عليه السلام: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40].   ويجب على المسلم أن يشكر ربه على نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، والتي منَّ وأنعم بها عليه، ولا يكفر بنعم الله إلا جاحد قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].   ويقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172].   وأوضح الخازن - رحمه الله - في تفسيره عند هذه الآية: أي: اشكروا الله تعالى الذي رزقكم هذه النعم إن كنتم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه إلهكم لا غيره، وقيل إن كنتم عارفين بالله عز وجل وبنعمه فاشكروه عليها (الخازن، لباب التأويل في معاني التنزيل، ج 1، ص 133).   وعلق سيد قطب - رحمه الله - عند هذه الآية: بأن الله تعالى ينادي الذين آمنوا بالصفة التي تربطهم به سبحانه، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام ويذكرهم بما رزقهم فهو وحده الرازق، ويبيح لهم الطيبات مما رزقهم فيشعرهم أنه لم يمنع عنهم طيباً من الطيبات، وأنه إذا حرم عليهم شيئاً فلأنه غير طيب لا لأنه يريد أن يحرمهم ويضيق عليهم، وهو الذي أفاض عليهم الرزق ابتداء ويوجههم للشكر إن كانوا يريدون أن يعبدوه وحده بلا شريك فيوحي إليهم بأن الشكر عبادة وطاعة يرضاها الله تعالى من العباد (قطب، في ظلال القرآن، ج 1، ص 127).   والإنسان الذي حُرم الشكر فقد حرم خيراً كثيراً، وقد عاب القرآن الكريم على أكثر الناس بإعراضهم عن الله عز وجل وقلة شكرهم للمنعم سبحانه وتعالى وذلك في عدد من الآيات الكريمات وجاءت أكثرها بعبارة قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ﴾.

وإن شاء الله تعالى في الصفحات القادمة نستعرض هذه الآيات الكريمات ثم نعرض لبعض المضامين التربوية التي حوتها.
أ- الآيات التي وردت فيها حال أكثر الناس بأنهم لا يشكرون. وردت عشر آيات كريمات تشير إلى أن أكثر الناس لا يشكرون، وهي: 1- قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 243].   2- قال تعالى: ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 9-10].   3- قال تعالى: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16- 17].   4- قال تعالى: ﴿ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ﴾ [يونس: 60].   5- قال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 38].   6- قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].   7- قال تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ﴾ [النمل: 71 – 73].   8- قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة 6 - 9].   9- قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ﴾ [غافر: 61].   10- قال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الملك: 23].   ب– المضامين التربوية للآيات الكريمات المشار إليها. بعد الإطلاع على بعض كتب التفسير لمعرفة أقوال العلماء وتأويلاتهم وما خلصوا إليه في فهم الآيات المشار إليه، وبالنظر والتأمل في هذه الأقوال وجدتها تضمنت مجموعة من المضامين التربوية، ومن أهمها ما يلي: أولاً: أهمية الحرص على شكر الله تعالى على نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، والعاقل الفطين هو الذي يعرف نعم الله تعالى عليه ويشكره، أما العاصي والغافل فقد يتخد هذه النعم في مزيد من المعاصي والذنوب والعياذ بالله.
وأشار السعدي - رحمه الله - عند تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 243] أي: فلا تزيدهم النعمة شكراً بل ربما استعانوا بنعم الله تعالى على معاصيه، وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويُقِر بها ويصرفها في طاعة المنعم عز وجل (السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ج 1، ص 106).   ثانياً: وصف الكثرة من الناس بأنهم لا يشكرون هو مدح للقلة على شكرهم لله تعالى، وهو أيضاً فضل ومنة من الله سبحانه عليهم بأن استحقوا مدح الله عز وجل لهم، وحول ذلك قال محمد سيد طنطاوي - يحفظه الله - في تفسيره عند قول الله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 243] هو إنصاف للقلة الشاكرة منهم ومديح لهم على استقامتهم وقوة إيمانهم وعلى نعمه الجزيلة وآلائه التي لا تحصى (طنطاوي، التفسير الوسيط، ج 1، ص 448).   ثالثاً: يجب وجوباً لازماً على كل أحد إخلاص التوحيد لله تعالى شكراً على فضله وإحسانه ونعمه العديدة التي لا تعد ولا تحصى، وقال أبو السعود - رحمه الله - عند تفسير قوله تعالى: ﴿ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 38]: ذلك التوحيدُ من فضل الله عز وجل علينا حيث أعطانا عقولاً ومشاعرَ نستعملها في دلائلِ التوحيد التي مهدها في الأنفس والآفاقِ، وقد أعطى سائرَ الناس أيضاً مثلها ولكن أكثرَهم لا يشكرون، أي: لا يصرِفون تلك القُوى والمشاعرَ إلى ما خُلقت له، ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيدِ الآفاقيةِ والأنفُسية والعقليةِ والنقلية (أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، ج 3، ص 436).   رابعاً: الكثير من الناس يغفل عن نعم الله تعالى التي يرفل بها في كل لحظة وحين، ولذلك يجب على الإنسان أن يتذكر دائماً وأبداً وفي كل حين نعم الله تعالى عليه لأن تذكر هذه النعم دافع قوي لشكر المنعم سبحانه وتعالى.

خامساً: إن من النعم العظيمة التي أنعم الله تعالى على الإنسان بها نعمة تعاقب الليل والنهار، وقد تمت الإشارة إليها في القرآن الكريم أكثر من مرة قال تعالى: ﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ الليل وَجَعَلْنَا آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [الإسراء: 12]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ﴾ [غافر: 61]، ولأهل التفسير حول هذه الآيات كلام جميل يؤكد على عظمة الخالق وقدرته وتدبيره وسعة رحمة الله تعالى وجزيل فضله وكمال قدرته وعظيم سلطانه وسعة ملكه ووجوب شكره.
ومن ذلك ما بينه ابن عاشور - رحمه الله - حيث قال: فهما تكوينان عظيمان دالاّن على عظيم قدرة مُكونهما ومنظِّمهما، وجاعلهما متعاقبين فنيطت بهما أكثر مصالح هذا العالم ومصالح أهله؛ فمن هذه المصالح: أولها: حصول التعادل بين الضياء والظلمة والحرارةِ والبرودة لتكون الأرض لائقة بمصالح مَن عليها فتنبت الكلأ وتنضج الثمار.
ثانيها: سكون الإِنسان والحيوان في الليل لاسترداد النشاط العصبي الذي يُعييه عمل الحواس والجسد في النهار؛ فيعود النشاط إلى المجموع العصبي في الجسد كله وإلى الحواس، ولولا ظلمة الليل لكان النوم غير كامل فكانَ عود النشاط بطيئاً وواهناً ولعاد على القوة العصبية بالانحطاط والاضمحلال في أقرب وقت فلم يتمتع الإنسان بعمر طويل.
ثالثها: انتشار الناس والحيوان في النهار وتبيّن الذوات بالضياء، وبذلك تتم المساعي للناس في أعمالهم التي بها انتظام أمر المجتمع من المدن والبوادي والحضر والسفر؛ فإن الإنسان مدني بالطبع وكادح للعمل والاكتساب؛ فحاجته للضياء ضرورية، ولولا الضياء لكانت تصرفات الناس مضطربة مختبطة (ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج 12، ص 467).   وأوضح سيد قطب - رحمه الله - بقوله: والليل والنهار ظاهرتان كونيتان والأرض، والسماء خَلْقَان كونيان كذلك، وتعرض كلها في معرض نعم الله تعالى وفضله على الناس، وفي معرض الوحدانية وإخلاص الدين لله تعالى، فيدل هذا على ارتباط هذه الظواهر والخلائق والمعاني وعلى وجود الصلة بينها ووجوب تدبرها في محيطها الواسع وملاحظة الارتباط بينها والاتفاق.
وأضاف - رحمه الله - بأن بناء الكون على القاعدة التي بناه الله تعالى عليها ثم سيره وفق الناموس الذي قدره الله عز وجل له هو الذي سمح بوجود الحياة في هذه الأرض ونموها وارتقائها كما أنه هو الذي سمح بوجود الحياة الإنسانية في شكلها الذي نعهده ووافق حاجات هذا الإنسان التي يتطلبها تكوينه وفطرته، وهو الذي جعل الليل مسكناً له وراحة واستجماماً، والنهار مبصراً معيناً على الرؤية والحركة، والأرض قراراً صالحاً للحياة والنشاط، والسماء بناء متماسكاً لا يتداعى ولا ينهار ولا تختل نسبه وأبعاده ولو اختلت لتعذر وجود الإنسان على هذه الأرض وربما وجود الحياة! وهو الذي سمح بأن تكون هناك طيبات من الرزق تنشأ من الأرض وتهبط من السماء فيستمتع بها هذا الإنسان الذي صوره الله سبحانه فأحسن صورته وأودعه الخصائص والاستعدادات المتسقة مع هذا الكون الصالحة للظروف التي يعيش فيها مرتبطاً بهذا الوجود الكبير (قطب، في ظلال القرآن، ج 6، ص 267).   سادساً: معرفة شدة عداوة إبليس للإنسان، والحرص كل الحرص على اتخاذ كافة السبل والطرق لإغوائه وإبعاده عن شكر الله تعالى، قال عز وجل: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16- 17].   ولا شك أن هذا تنبيه من الله تعالى للإنسان للتوقي والحذر من إبليس ووسائله التي يصد بها الناس عن الصراط المستقيم، ومن هذا التنبيه شكر الله تعالى على نعمه وآلائه.
ويعلق سيد قطب - رحمه الله - في الظلال حول هذه الآية فيقول: وهنا يعلن إبليس في تبجح خبيث، وقد حصل على قضاء بالبقاء الطويل أنه سيرد على تقدير الله تعالى له الغواية وإنزالها به بسبب معصيته وتبجحه بأن يغوي ذلك المخلوق الذي كرمه الله عز وجل، والذي بسببه كانت مأساة إبليس ولعنه وطرده! ويجسم هذا الإغواء بقوله الذي حكاه القرآن الكريم عنه: ﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ﴾ إنه سيقعد لآدم وذريته على صراط الله المستقيم يصد عنه كل من يهم منهم باجتيازه والطريق إلى الله عز وجل لا يمكن أن يكون حساً فالله سبحانه جل عن التحيز فهو إذن طريق الإيمان والطاعات المؤدي إلى رضى الله تعالى، وإنه سيأتي البشر من كل جهة: ﴿ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ﴾ للحيلولة بينهم وبين الإيمان والطاعة، وهو مشهد حي شاخص متحرك لإطباق إبليس على البشر في محاولته الدائبة لإغوائهم فلا يعرفون الله تعالى ولا يشكرونه؛ اللهم إلا القليل الذي يفلت ويستجيب: ﴿ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ ويجيء ذكر الشكر تنسيقاً مع ما سبق في مطلع السورة: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ لبيان السبب في قلة الشكر وكشف الدافع الحقيقي الخفي من حيلولة إبليس دونه، وقعوده على الطريق إليه! ليستيقظ البشر للعدو الكامن الذي يدفعهم عن الهدى وليأخذوا حذرهم حين يعرفون من أين هذه الآفة التي لا تجعل أكثرهم شاكرين! (قطب، في ظلال القرآن، ج 3، ص 198).   سابعاً: الحذر الشديد من مغبة الكذب والافتراء على الله تعالى؛ فعاقبة ذلك بدون شك وخيمة للغاية، قال تعالى: ﴿ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ﴾ [يونس: 60].   ثامناً: قد لا يعرف الكثير من الناس أن من نعم الله تعالى عدم التعجيل بالعقوبة نظير ما يرتكبه الإنسان من قصور وأخطاء، ولذلك قال الألوسي - رحمه الله - عند تفسير قوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ﴾ [النمل: 71 – 73]: ومن جملة إفضاله عز وجل وإنعامه تعالى تأخير عقوبة هؤلاء على ما يرتكبونه من المعاصي، [ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ] أي: لا يشكرون جل وعلا على إفضاله سبحانه عليهم ومنهم هؤلاء (الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ج 15، ص 31).   وعلق التستري - رحمه الله - في تفسيره على ذلك فقال: منعه فضل كما أن عطاءه فضل، ولكن لا يعرف مواضع فضله في المنع إلا خواص الأولياء (التستري، تفسير التستري، ج 1، ص 387).   الخلاصة من خلال ما سبق عرضه، والذي تضمن وصف القرآن الكريم لحال أكثر الناس بأنهم لا يشكرون؛ يمكن استخلاص أهم النقاط التالية: أولاً: الشكر من الأخلاق الكريمة التي أتصف بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مقدمتهم وهو سيد الشاكرين فكان يقوم الليل حتى تتورم قدماه.
ثانياً: الحرص على شكر الله تعالى على نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، والعاقل الفطين هو الذي يعرف نعم الله تعالى عليه ويشكره عليها.
ثالثاً: وصف الكثرة من الناس بأنهم لا يشكرون هو مدح للقلة على شكرهم لله تعالى، وهو أيضاً فضل ومنة من الله عليهم بأن استحقوا مدح الله لهم.
رابعاً: الكثير من الناس يغفل عن نعم الله تعالى التي يرفل بها في كل لحظة وحين، ولذلك يجب على الإنسان أن يتذكر دائماً وأبداً لأن تذكر هذه النعم دافع قوي لشكر المنعم سبحانه وتعالى.

خامساً: الحذر الشديد من عداوة إبليس ووسائله التي تصد الإنسان عن طاعة ربه وشكره على نعمه، قال تعالى: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16- 17].



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢