أرشيف المقالات

مواساة المحتاجين

مدة قراءة المادة : 60 دقائق .
2مواساة المحتاجين   الحمد لله ﴿ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 61، 62]، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، الذي أرسله ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا،أما بعد: فإن الإسلام هو دين الرحمة والمواساة مع جميع الناس على اختلاف عقائدهم وجنسياتهم، ومبادئ الإسلام، الربانية المباركة، تسمو على كل المبادئ والقيم التي وضعها الناس من عند أنفسهم؛ لأن الدين الإسلامي تشريع من لدن حكيمٍ عليمٍ، يهدف إلى إصلاح أمور الناس في الدنيا والآخرة، وهذا ظاهر لكل من تأمل أحكام الشريعة الإسلامية المباركة، التي تفي بمصالح الناس في كل زمانٍ ومكانٍ؛من أجل ذلك أحببت أن أذكِّر إخواني القراء الكرام بمنزلة المواساة وأهميتها في الإسلام.   بسم الله الرحمن الرحيم معنى المواساة: المواساة: هي معاونة الأصدقاء والمستحقين، ومشاركتهم في الأموال والأقوات؛ (تهذيب الأخلاق - أحمد بن مسكويه - صـ 31).   الفرق بين المواساة والإيثار: • المواساة: أن ينزل الإنسان غيره منزلة نفسه في كل شيء. • الإيثار: أن يقدم الإنسان غيره بالشيء على نفسه، مع حاجته إليه؛ (التعريفات - لعلي الجرجاني - صـ 236).
المواساة ضرورة اجتماعية: تعتبر المواساة ضرورة إنسانية واجتماعية، لا يستطيع الإنسان الاستغناء عنها؛فإن الإسلام منهج حياة لكل مكان وزمان، فهو يحثنا دائمًا على المواساة والتراحم والمحبة لتحقيق الخير والطمأنينة في المجتمع، وذلك من خلال آيات القرآن الكريم، وأحاديث نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.   حكم المواساة: المواساة واجبة للمحتاجين؛ (التمهيد لابن عبدالبر جـ 23 صـ 12) (عمدة القاري - للبدر العيني - جـ 13 صـ 42).   مواساة المحتاجين وصية رب العالمين: (1) قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].   قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات؛ وهو البِرُّ، وترك المنكرات؛ وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل؛ (تفسير ابن كثير جـ 2 صـ 12).   (2) قال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].   قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): قوله تعالى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9] يعني: حاجة؛ أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك؛ (تفسير ابن كثير جـ 8 صـ 70).   (3) قال جل شأنه: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 8، 9].   قال الإمام ابن جرير الطبري (رحمه الله): يعني - جل ثناؤه - بقوله: (مسكينًا): ذوي الحاجة الذين قد أذلتهم الحاجة، (ويتيمًا) وهو الطفل الذي قد مات أبوه ولا شيء له، (وأسيرًا) وهو الحربي من أهل دار الحرب يُؤخَذ قهرًا بالغلبة، أو من أهل القبلة يؤخذ فيحبس بحق، فأثنى الله على هؤلاء الأبرار بإطعامهم هؤلاء تقربًا بذلك إلى الله، وطلب رضاه، ورحمةً منهم لهم؛ (تفسير الطبري جـ 24 صـ 97).   روى ابن جرير الطبري عن قتادة قال: لقد أمر الله بالأُسَراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذٍ لأهل الشرك؛ (تفسير الطبري جـ 24 صـ 97).   (4) قال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ [النساء: 36].   قال الإمام ابن جرير الطبري (رحمه الله): يقول جل ثناؤه: استوصوا بهؤلاء إحسانًا إليهم، وتعطَّفوا عليهم، والزموا وصيتي في الإحسان إليهم؛ (تفسير الطبري جـ 8 صـ 333).   نبينا صلى الله عليه وسلم يحثنا على مواساة المحتاجين: (1) روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) وشبك بين أصابعه؛ (البخاري حديث: 2446 مسلم حديث 2585).   • قال الإمام النووي (رحمه الله): هذا الحديث صريح في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعضٍ، وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثمٍ ولا مكروهٍ؛ (مسلم بشرح النووي جـ 16 صـ 139).   قال الإمام ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): قوله: (شبك بين أصابعه) هو بيان لوجه التشبيه أيضًا؛ أي: يشد بعضهم بعضًا مثل هذا الشد، ويستفاد منه أن الذي يريد المبالغة في بيان أقواله يمثلها بحركاته؛ ليكون أوقع في نفس السامع؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 10 صـ: 450).   (2) روى الشيخان عن النعمان بن بشيرٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))؛ (البخاري حديث: 6011/ مسلم حديث 2586).   • قال ابن أبي جمرة (رحمه الله): الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينها فرق لطيف: فأما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضًا بأخوة الإيمان لا بسبب شيءٍ آخر، وأما التوادد فالمراد به التواصل الجالب للمحبة كالتزاور والتهادي، وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضًا كما يعطف الثوب عليه ليقويه.   قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل الجسد)؛ أي: بالنسبة إلى جميع أعضائه، ووجه التشبيه فيه التوافق في التعب والراحة،قوله: (تداعى)؛ أي: دعا بعضه بعضًا إلى المشاركة في الألم؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 10 صـ: 439).   • قال القاضي عياض (رحمه الله): تشبيهه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيل صحيح،قال القاضي عياض أيضًا: هذا الحديث فيه تقريب للفهم، وإظهار للمعاني في الصور المرئية، وفيه تعظيم حقوق المسلمين، والحض على تعاونهم، وملاطفة بعضهم بعضًا؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 10 صـ: 493).   • وقال ابن أبي جمرة (رحمه الله): شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالجسد، وأهله بالأعضاء؛ لأن الإيمان أصل، وفروعه التكاليف، فإذا أخل المرء بشيءٍ من التكاليف شَانَ ذلك الإخلالُ الأصلَ، وكذلك الجسد أصل كالشجرة، وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضو من الأعضاء اشتكت الأعضاء كلها، كالشجرة إذا ضُرب غصن من أغصانها اهتزت الأغصان كلها بالتحرك والاضطراب؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 10 صـ: 439).   (3) روى الشيخان عن سلمة بن الأكوع، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ضحَّى منكم، فلا يصبحن بعد ثالثةٍ وبقي في بيته منه شيء))، فلما كان العام المقبل، قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا عام الماضي؟ قال: ((كلوا وأطعموا وادخروا؛ فإن ذلك العام (أي الماضي) كان بالناس جَهد (مشقة من ضيق العيش وكثرة الجوع)، فأردت أن تعينوا فيها (أي ينتفع بها المحتاجون))؛ (البخاري حديث: 5569/ مسلم حديث: 1974).   (4) روى الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلِمه ولا يُسلِمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كربةً فرج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة))؛ (البخاري حديث 2442 / مسلم حديث 2580).   • قال الإمام ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم) هذه أخوة الإسلام؛ فإن كل اتفاقٍ بين شيئين يطلق بينهما اسم الأخوة، ويشترك في ذلك الحر والعبد، والبالغ والمميز؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 5 صـ: 97).   وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يسلمه)؛ أي: لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه،وهذا أخص من ترك الظلم؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 5 صـ: 97).   • قال الإمام النووي (رحمه الله): في هذا الحديث فضل إعانة المسلم، وتفريج الكرب عنه، وستر زلاته، ويدخل في كشف الكربة وتفريجها من أزالها بماله، أو جاهه، أو مساعدته، والظاهر أنه يدخل فيه من أزالها بإشارته ورأيه ودلالته،وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفًا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب ألا يستر عليه، بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدةً؛ لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد، وانتهاك الحرمات، وجسارة غيره على مثل فعله، هذا كله في ستر معصيةٍ وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها وهو بعدُ متلبِّس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها، فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة؛ (مسلم بشرح النووي جـ 16 صـ 135).   (5) روى مسلم عن أبي سعيدٍ الخدري قال: بينما نحن في سفرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلةٍ له، فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن كان معه فضل ظَهْرٍ فلْيَعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زادٍ فلْيَعُدْ به على من لا زاد له))؛ (مسلم حديث 1728).   قال الإمام النووي (رحمه الله): في هذا الحديث الحث على الصدقة والجود والمواساة والإحسان إلى الرفقة والأصحاب، والاعتناء بمصالح الأصحاب، وأمر كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج، وأنه يكتفى في حاجة المحتاج بتعرضه للعطاء وتعريضه من غير سؤالٍ، وهذا معنى قوله: (فجعل يصرف بصره)؛ أي: متعرضًا لشيءٍ يدفع به حاجته، وفيه مواساة ابن السبيل، والصدقة عليه إذا كان محتاجًا، وإن كان له راحلة وعليه ثياب، أو كان موسرًا في وطنه؛ ولهذا يعطى من الزكاة في هذه الحال؛ (مسلم بشرح النووي جـ 12 صـ 33).   (6) روى مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية))؛ (مسلم حديث 2059).   قال الإمام النووي (رحمه الله): هذا الحديث فيه الحث على المواساة في الطعام، وأنه وإن كان قليلًا حصلت منه الكفاية المقصودة، ووقعت فيه بركة تعم الحاضرين عليه؛ (مسلم بشرح النووي جـ 14 صـ 23).   (7) روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثم اقتسموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسوية؛ فهم مني وأنا منهم))؛ (البخاري حديث 2486 / مسلم حديث 2500).   قال الإمام النووي (رحمه الله): معنى أرملوا: فَنِيَ طعامهم،وفي هذا الحديث فضيلة الأشعريين، وفضيلة الإيثار والمواساة، وفضيلة خلط الأزواد (الطعام) في السفر، وفضيلة جمعها في شيء عند قلتها في الحضر ثم يقسم،والمراد بالقسمة هنا مواساتهم بالموجود؛ (مسلم بشرح النووي جـ 16 صـ 61).   (8) روى البخاري عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا))، وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما شيئًا؛ (البخاري حديث 5304).   قال الإمام النووي (رحمه الله): قوله صلى الله عليه وسلم: (كافل اليتيم) القائم بأموره من نفقة وكسوة وتأديب وتربية وغير ذلك، وهذه الفضيلة تحصل لمن كفله من مال نفسه، أو من مال اليتيم بولايةٍ شرعية؛ (مسلم بشرح النووي جـ 9 صـ 339: 340).   قال ابن بطالٍ (رحمه الله): حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به؛ ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 1 صـ 451).   (9) روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أطعموا الجائع، وعُودُوا المريض، وفُكُّوا العانيَ "الأسير"))؛ (البخاري حديث: 5649).   (10) روى الترمذي عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلمٍ يعود مسلمًا غدوةً (أي صباحًا) إلا صلى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يمسي، وإن عاده عشيةً (أي مساءً) إلا صلى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يصبح، وكان له خريف (أي: بستان) في الجنة))؛ (حديث صحيح) (صحيح سنن الترمذي للألباني حديث: 775).   (11) روى مسلم عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر (أي: أول) النهار،: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار (أي: خرقوها وقوروا وسطها) أو العباء، متقلدي السيوف، عامَّتهم من مضر (اسم قبيلة)، بل كلهم من مضر، فتمعَّرَ (أي تغير) وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [النساء: 1] إلى آخر الآية، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [الحشر: 18] تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره - حتى قال - ولو بشق تمرةٍ))، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرةٍ كادت كفه تعجِز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعامٍ وثيابٍ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل، كأنه مذهبة؛ (أي يستنير فرحًا وسرورًا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سن في الإسلام سنةً حسنةً، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء))؛ (مسلم حديث: 1017).   • النِّمار: شملة مخططة بلون النمر. قال الإمام النووي (رحمه الله): سبب سروره صلى الله عليه وسلم هو فرحه بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى، وبذل أموالهم لله، وامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقة المسلمين بعضهم على بعضٍ، وتعاونهم على البر والتقوى، وينبغي للإنسان إذا رأى شيئًا من هذا القبيل أن يفرح ويظهر سروره؛ (مسلم بشرح النووي جـ 7 صـ: 102).   (12) روى الشيخان عن الزهري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كان تاجر يداين الناس؛ (أي: يبيع لهم مع تأخير الثمن إلى أجل)، فإذا رأى معسرًا، قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه))؛ (البخاري حديث: 2078/ مسلم حديث: 1562).   (13) روى أبو داود، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أقال مسلمًا (أي بيعه)، أقاله الله عثرته))؛ (أي: غفر زلَّته وخطيئته)؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث: 2954).   معنى الإقالة: صورة إقالة البيع: إذا اشترى أحد شيئًا من رجلٍ ثم ندم على اشترائه، إما لظهور الخسارة فيه، أو لزوال حاجته إليه، أو لانعدام الثمن، فرد المبيع على البائع، وقبِل البائع رده، أزال الله مشقته وعثرته يوم القيامة؛ لأنه إحسان منه على المشتري؛ لأن البيع كان قد بُتَّ، فلا يستطيع المشتري فسخه؛ (عون المعبود شرح سنن أبي داود جـ 9 صـ 237).   أقوال الحكماء عن المواساة: (1) قال إبراهيم بن أدهم (رحمه الله): المواساة من أخلاق المؤمنين؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني جـ 7 صـ 370).   (2) قال سفيان الثوري (رحمه الله): المواساة: طريق بدت بين العوسج (شجر ذات شوك)؛ (المتحابين في الله - لابن قدامة المقدسي - صـ: 76).   (3) قال الحسن البصري (رحمه الله): (لأن أقضي لأخٍ لي حاجةً: أحبُّ إليَّ من أن أعتكف شهرين)؛ (قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا صـ 48).   (4) قال محمد بن واسعٍ (رحمه الله): (ما رددت أحدًا عن حاجةٍ أقدر على قضائها، ولو كان فيها ذهاب مالي)؛ (قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا صـ 64).   (5) قال عبدالله بن عثمان (رحمه الله) (شيخ البخاري): ما سألني أحد حاجةً إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي، فإن تم وإلا استعنَّا له بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان (الحاكم)؛ (الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي جـ 2 صـ: 180).   (6) قال ابن قتيبة (رحمه الله): لا حُصِّنت النعم بمثل المواساة؛ (عيون الأخبار لابن قتيبة جـ 1 صـ 388).   (7) قال أبو عبدالله الجهني (رحمه الله): المواساة تجديد للمؤاخاة؛ (الفتوة - أبو عبدالرحمن السلمي صـ: 93).   (8) قال أبو العتاهية (رحمه الله): اقضِ الحوائجِ ما استطعـ تَ وكن لِهَمِّ أخيك فارِجْ فلَخيرُ أيام الفتى يومٌ قضى فيه الحوائِجْ (الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي جـ 2 صـ 178).   أنواع المواساة: قال الإمام ابن القيم (رحمه الله): المواساة للمؤمنين أنواع، وهي: (1) مواساة بالمال. (2) مواساة بالجاه (3) مواساة بالبدن والخدمة. (4) مواساة بالنصيحة والإرشاد. (5) مواساة بالدعاء والاستغفار لهم. (6) مواساة بالتوجع لهم.   وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة، فكلما ضعُف الإيمان ضعفت المواساة، وكلما قَوِيَ قويت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله؛ (الفوائد لابن القيم صـ: 171).   مشاركة المسلمين في مشاعرهم: المواساة لا تقتصر على مشاركة المسلم لأخيه المسلم في المال أو الخدمة والنصيحة أو غير ذلك، ولكن المواساة تعني أيضًا مشاركة المسلم لأخيه في مشاعره، خاصة في أوقات حزنه، وعند تعرضه لما يعكر عليه حياته، وهنا فإن إدخال السرور على المسلم وتطييب خاطره بالكلمة الطيبة، أو المشاركة الوجدانية هو من أعظم المواساة، وأجل أنواعها، وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يواسي أصحابه في جميع أحوالهم؛ (موسوعة نضرة النعيم جـ 8 صـ 3460).   مواساة الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم: أرسل الله تعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، فوجد منهم نفورًا وإعراضًا، وتصدى له قوم غلاظ الأكباد، تعرضوا له بصنوف الأذى، فكان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة بعد فترة، مواساةً للنبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتًا لقلبه على الحق، وتقوية لعزيمته للمضي في طريق دعوته،وبيَّن الله تعالى له صلى الله عليه وسلم نصرته سبحانه للأنبياء السابقين الذين كُذِّبوا وأُوذوا فصبروا حتى جاءهم نصر الله،فيجد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك تسلية ومواساة؛قال سبحانه: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [الأنعام: 33، 34]، وكان الله تعالى يأمره صلى الله عليه وسلم بالصبر؛ قال جل شأنه: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]، وكان سبحانه يبشره بآيات المنعة والنصر؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]، وقال جل شأنه لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾ [الفتح: 3]، وقال سبحانه: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21]، وهكذا كانت آيات القرآن الكريم تنزل مواساةً لنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.   الإسراء والمعراج هو رحلة المواساة: تعتبر رحلة الإسراء والمعراج مواساةً من الله تعالى لنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لما لقيه صلى الله عليه وسلم من إيذاء وتكذيب المشركين له.   قال الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].   وقال جل شأنه: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 1 - 18].   نبينا صلى الله عليه وسلم هو القدوة في المواساة: قال الله تعالى في وصف مواساة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم للمؤمنين: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].   (1) روى مسلم عن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: أن أصحاب الصفة كانوا ناسًا فقراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مرةً: ((من كان عنده طعام اثنين، فليذهب بثالثٍ، ومن كان عنده طعام أربعةٍ، فليذهب بخامسٍ، بسادسٍ))، وإن أبا بكرٍ جاء بثلاثةٍ، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرةٍ؛ (مسلم حديث: 2057).   (2) روى الطبراني عن سهل بن حنيفٍ رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء (فقراء) المسلمين، ويزورهم، ويعُود مرضاهم، ويشهد جنائزهم؛ (حديث صحيح) (صحيح الجامع للألباني حديث 4877).   (3) روى أبو داود عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال: عادَني (زارني) رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن وجَعٍ كان بعيني؛ (حديث حسن) (صحيح أبي داود للألباني حديث: 2659).   مواساة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم: روى أحمد عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها، فأحسن الثناء، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق! قد أبدلك الله عز وجل بها خيرًا منها، قال: ((ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها؛ قد آمنَتْ بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواسَتْني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء))؛ (إسناده حسن) (مسند أحمد جـ 41 صـ 356 حديث: 24864).   مواساة أبي بكر الصِّدِّيق للنبي صلى الله عليه وسلم: (1) روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكرٍ: صدَق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!)) مرتين، فما أوذي بعدها؛ (البخاري حديث: 3661).   (2) روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ مِن أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكرٍ، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي، لاتخذت أبا بكرٍ، ولكن أخوة الإسلام ومودته،لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر))؛ (البخاري حديث 2654).   (3) روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نفعني مال أحدٍ قط ما نفعني مال أبي بكرٍ))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 2894).   مواساة الأنصار للمهاجرين: روى الترمذي عن أنس بن مالك، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قومًا أبذل من كثيرٍ ولا أحسن مواساةً من قليلٍ (أي من مالٍ قليلٍ) من قومٍ (أي الأنصار) نزلنا بين أظهرهم (أي عندهم)، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ (أي أحسنوا إلينا، سواء كانوا كثيري المال أو فقيري الحال)، حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله،فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا، ما دعوتم اللهَ لهم، وأثنيتم عليهم))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث: 2020).   • قال الطيبي (رحمه الله): قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا، ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم)) معناه: لا؛ أي: ليس الأمر كما زعمتم؛ فإنكم إذا أثنيتم عليهم شكرًا لصنيعهم ودمتم عليه، فقد جازيتموهم؛ (تحفة الأحوذي للمباركفوري جـ 7 صـ 159).   صور من مواساة أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم: (1) روى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه: أنه قال: قدم علينا عبدالرحمن بن عوفٍ وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالًا، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها، حتى إذا حلت تزوجتها، فقال عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك؛ (البخاري حديث 3781).   • وفي رواية أخرى: قال عبدالرحمن بن عوفٍ: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوقٍ فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاعٍ، قال: فغدا إليه عبدالرحمن، فأتى بأقطٍ وسمنٍ، قال: ثم تابع الغدو، فما لَبِث أن جاء عبدالرحمن عليه أثر صفرةٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تزوجتَ))، قال: نعم، قال: ((ومن؟))، قال: امرأةً من الأنصار، قال: ((كم سُقْتَ؟))، قال: زِنَةَ نواةٍ من ذهبٍ، أو نواةً من ذهبٍ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَوْلِمْ ولو بشاةٍ))؛ (البخاري حديث 2048).   (2) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجَهْد (الجوع)، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا رجل يُضيِّفه هذه الليلة يرحمه الله))،فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدَّخِريه شيئًا، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العَشاء، فنَوِّميهم وتعالَيْ فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لقد عجِب الله عز وجل - أو ضحك - مِن فلانٍ وفلانةَ))؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9]؛ (البخاري حديث 4889).   (3) قال شعبة بن الحجاج: لما توفي الزبير بن العوام، لقي حكيمُ بنُ حزامٍ عبدَالله بن الزبير، فقال: كم ترك أخي من الدَّين؟ قال: ألفَ ألفٍ،قال: علَيَّ خَمْسُمائة ألفٍ؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 3 صـ 50).   (4) قال الحسن بن حكيمٍ: حدثتني أمي فقالت: كانت لأبي برزة جفنة من ثريدٍ غدوةً، وجفنة عشيةً للأرامل واليتامى والمساكين؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 4 صـ 224).   (5) روى البيهقي عن أبي هريرة قال: كنا نسمي جعفر بن أبي طالبٍ أبا المساكين، قال: وكان يذهب بنا إلى بيته، فإذا لم يجد لنا شيئًا أخرج إلينا عكةً (هي إناء من جلدٍ يجعل فيه السمن غالبًا والعسل) أثرها عسل،قال: فشققناها، وجعلنا نلعقها؛ (شعب الإيمان للبيهقي جـ 13 صـ: 312).   (6) روى البيهقي، عن نافعٍ، قال: مرض ابن عمر فاشتهى عنبًا أول ما جاء العنب، فأرسلت صفية امرأته بدرهمٍ، فاشترت عنقودًا بدرهمٍ، فاتبع الرسولَ سائلٌ، فلما أتى الباب ودخل قال السائل: السائل، قال ابن عمر: "أعطُوه إياه"، فأعطَوْه إياه، ثم أرسلت بدرهمٍ آخر فاشترت به عنقودًا، فاتبع الرسول السائل، فلما انتهى إلى الباب ودخل فقال السائل: السائل، قال ابن عمر: "أعطُوه إياه"، فأعطَوْه إياه، فأرسلت صفية إلى السائل، فقالت: والله لئن عدت لا تصيب مني خيرًا، ثم أرسلت بدرهمٍ آخرَ فاشترت به؛ (شعب الإيمان للبيهقي جـ 5 صـ 141، حديث: 3206).   (7) روى أبو نعيم عن مالكٍ الداراني: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أخذ أربعمائة دينارٍ فجعلها في صرةٍ، فقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم انتظر ساعةً في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصَله الله ورحمه، ثم قال: تعالَيْ يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلانٍ، وبهذه الخمسة إلى فلانٍ، وبهذه الخمسة إلى فلانٍ، حتى أنفَذها،فرجع الغلام إلى عمر رضي الله تعالى عنه وأخبره، فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبلٍ، فقال: اذهب بها إلى معاذٍ وانتظر في البيت ساعةً حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحِمه الله ووصله، تعالَيْ يا جارية، اذهبي إلى بيت فلانٍ بكذا، اذهبي إلى بيت فلانٍ بكذا، فاطلعت امرأة معاذٍ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران، فدحا (ألقى) بهما إليها (أي أعطاهما)، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسُرَّ بذلك وقال: (إنهم إخوة بعضهم من بعضٍ)؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 1 صـ 237).   المواساة في عام الرمادة: سمي عام الرمادة بذلك؛ لأن الأرض كلها صارت سوادًا، فشبهت بالرماد؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ 247).   (1) قال عمر بن الخطاب (عام الرمادة): لو لم أجد للناس من المال ما يسعهم إلا أن أدخل على كل أهل بيتٍ عدتهم فيقاسمونهم أنصاف بطونهم حتى يأتي الله بحيًا (أي بالخير)، فعلت؛فإنهم لن يهلكوا عن أنصاف بطونهم؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ: 240).   (2) قال عياض بن خليفة: رأيت عمر بن الخطاب عام الرمادة وهو أسود اللون، ولقد كان أبيض، فيقال: مم ذا؟ فيقول: كان رجلًا عربيًّا، وكان يأكل السمن واللبن، فلما جاع الناس حرمها، فأكل الزيت حتى غير لونه، وجاع فأكثر من الجوع؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ 247).   (3) قال أنس بن مالكٍ: تقرقر بطن عمر بن الخطاب وكان يأكل الزيت عام الرمادة،وكان حرم عليه السمن،فنقر بطنه بإصبعه،قال: تقرقر تقرقرك، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ 238).   (4) قال زيد بن أسلم: ما أكل عمر بن الخطاب في بيت أحدٍ من ولده ولا بيت أحدٍ من نسائه ذواقًا (أي طعامًا) زمان الرمادة إلا ما يتعشى مع الناس، حتى أحيا الله الناس؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ: 241).   (5) قال زيد بن أسلم (خادم عمر): لما كان عام الرمادة، جاءت العرب من كل ناحيةٍ، فقدموا المدينة، فكان عمر بن الخطاب قد أمر رجالًا يقومون عليهم، ويقسمون عليهم أطعمتهم وإدامهم، وكان عمر قد جعل كل رجلٍ منهم على ناحيةٍ من نواحي المدينة، فإذا أمسَوُا اجتمعوا عند عمر فيخبرونه بكل ما حدث،وسمعت عمر يقول ليلةً وقد تعشى الناس عنده: (أحصوا من تعشى عندنا)، فأحصَوهم من الليلة القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجلٍ، وقال: (أحصوا العيالات الذين لا يأتون، والمرضى، والصبيان)، فأحصوا فوجدوهم أربعين ألفًا، ثم مكثنا ليالي فزاد الناس، فأمر بهم فأحصوا فوجدوا من تعشى عنده عشرة آلافٍ، والآخرين خمسين ألفًا، فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فلما مطرت رأيت عمر قد وكل كل قومٍ من هؤلاء النفر بناحيتهم يخرجونهم إلى البادية، ويعطونهم قوتًا وحملانًا إلى باديتهم، ولقد رأيت عمر يخرجهم هو بنفسه؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ: 240).   صور من مواساة السلف الصالح: (1) قال أبو حمزة الثمالي: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول: (إن صدقةَ السر تطفئ غضب الرب عز وجل)؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني جـ 3 صـ 383).   (2) بلغ عبدَالله بن المقفع أن جارًا له يبيع داره في دَينٍ ركبه، وكان يجلس في ظل دار هذا الجار، فقال: (ما قمت إذًا بحرمة ظل داره إن باعها معدمًا (محتاجًا) فدفع إليه ثمن الدار، وقال: (لا تبعها)؛ (إحياء علوم الدين للغزالي جـ 2 صـ 331).   (3) قال عبدالله بن محمدٍ الفروي: اشترى عبدالله بن عامر بن كريزٍ من خالد بن عقبة بن أبي معيطٍ داره التي في السوق، ليفتح بها بابه على السوق بثمانين أو تسعين ألفًا، فلما كان من الليل سمع بكاءً، فقال لأهله: (ما لهؤلاء يبكون؟)، قالوا: على دَارِهم، قال: (يا غلام، ايتِهم وأعلمهم أن الدار والمال لهم)؛ (مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا صـ 86 رقم 351).   (4) قال قيس بن الربيع: كان أبو حنيفة يبعث بالبضائع إلى بغداد فيشتري بها الأمتعة ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم وكسوتهم وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم فيقول: أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمَدوا إلا الله؛ فإني ما أعطيتكم من مالي شيئًا، ولكن من فضل الله عليَّ فيكم، وهذه أرباح بضائعكم، فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي، فما في رزق الله حَوْلٌ لغيره؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 13 صـ 362).   (5) روى أبو نعيم عن يحيى بن بكيرٍ، قال: احترقت دار عبدالله بن لهيعة، فبعث إليه الليث بن سعدٍ بألف دينارٍ؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 7 صـ 322).   • الدينار: يعادل أربعة جرامات وربعًا من الذهب الخالص. (6) قال إسحاق بن راهويه: (لما خرج أحمد بن حنبلٍ إلى عبدالرزاق (باليمن) انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه (أي عمل أجيرًا) من بعض الحمالين إلى أن وافى صنعاء، وقد كان أصحابه عرضوا عليه المواساة فلم يقبل من أحدٍ شيئًا)؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني جـ 9 صـ 174).   (7) قال الحاكم النيسابوري: قيل لي: إن عشر غلة (أي مقدار دخله السنوي) ابن أبي ذهلٍ (محمد بن محمدٍ العصمي) تبلغ ألف حمل بعيرٍ،وحدثني أبو أحمد الكاتب أن النسخة بأسامي من يمونهم (يطعمهم) تزيد على خمسة آلاف بيتٍ؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 16 صـ 381).   (8) قال حميد الطويل: كان بكر بن عبدالله المزني يلبس كسوته ثم يجيء إلى المساكين فيجلس معهم يحدثهم،ويقول: إنهم يفرحون بذاك؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 7 صـ 158).   (9) قال محمد بن علي بن شقيقٍ: أراد جار لأبي حمزة السكري أن يبيع داره، فقيل له: بكم؟ قال: بألفين ثمن الدار، وبألفين جوار أبي حمزة،فبلغ ذلك أبا حمزة، فوجه إليه بأربعة آلافٍ، وقال: لا تَبِعْ دارك؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي - جـ 4 ـ صـ 432).   (10) قال الإمام ابن الجوزي (رحمه الله): كان هارون الرقي قد عاهَدَ الله ألا يسأله أحد كتاب شفاعةٍ إلا فعل، فجاءه رجل فأخبره أن ابنه قد أُسِرَ بالروم، وسأله أن يكتب إلى ملك الروم في إطلاقه، فقال له: ويحك! ومن أين يعرفني؟ وإذا سأل عني قيل: هو مسلم، فكيف يقضي حقي؟ فقال له السائل: اذكر العهد مع الله تعالى، فكتب له إلى ملك الروم، فلما قرأ الكتاب قال: من هذا الذي قد شفع إلينا؟ قيل: هذا رجل قد عاهد الله لا يُسأَلُ كتاب شفاعةٍ إلا كتبه، إلى أي من كان،فقال ملك الروم: هذا حقيقٌ بالإسعاف، أطلقوا أسيره، واكتبوا جواب كتابه، وقولوا له: اكتُبْ بكل حاجةٍ تعرض؛ فإنا نشفِّعُك فيها؛ (الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي جـ 2 صـ 181).   (11) قال يعقوب بن شيبة: أظل عيد من الأعياد رجلًا وعنده مائة دينار، لا يملك سواها، فكتب إليه رجل من إخوانه يقول له: قد أظلنا هذا العيد ولا شيء عندنا ننفقه على الصبيان، ويطلب منه ما ينفقه، فجعل المائة دينار في الصرة وختمها وأرسلها إليه، فلم تلبث الصرة عند الرجل إلا يسيرًا حتى وردت عليه رسالة أخٍ من إخوانه، فذكر له فيها ضيق حاجته في العيد، ويطلب منه المساعدة، فوجه بالصرة إليه بختمها وبقي الأول لا شيء عنده، فكتب إلى صديقٍ له، وهو الثالث الذي صارت إليه الدنانير، يذكر حاجته، ويطلب منه ما ينفقه في العيد، فأرسل إليه الصرة بخاتمها،فلما عادت إليه صرته التي أرسلها بحالها، ركب إليه ومعه الصرة وقال له: ما شأن هذا الصرة التي أرسلتها إليَّ؟ فقال له: إنه أظلنا العيد ولا شيء عندنا ننفقه على الصبيان، فكتبت إلى فلان أخينا أطلب منه ما ننفقه، فأرسل إلي هذه الصرة، فلما وردت رسالتك عليَّ أرسلتها إليك، فقال له: قم بنا إليه، فركبا جميعًا إلى الثاني ومعهما الصرة، فتبادلوا الحديث ثم فتحوا الصرة فاقتسموها بينهم؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 14 صـ 284: 283).   إن المسلمين الأوائل قد طبقوا المواساة بمعناها الشامل، فتغلبوا - بفضل الله تعالى - على ما قابلهم من أزمات، وحل الرخاء محل الجدب، وأصبح كل مسلم آمنًا على نفسه ومأكله ومسكنه وأولاده وأمواله.   وسائل المواساة في الإسلام: للمواساة والتكافل بين الناس في الإسلام وسائل كثيرة، سوف نتحدث عنها بإيجاز: (1) الزكاة المفروضة: الزكاة هي الركن الاجتماعي البارز من أركان الإسلام، وهي الحق المعروف في أموال الأغنياء،وتعتبر الزكاة وقاية اجتماعية وضمانة للعاجز الذي يبذل جهده ثم لا يجد ما يسد حاجته الضرورية من المسكن والمأكل والملبس وما شابه ذلك؛ (التأمين - للدكتور كنعان محمد عليان - صـ 181: صـ 186).   وقد حدد الله تعالى ثمانية أصناف من الناس تُصرَف لهم زكاة الأموال.   قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].   (2) الصدقات الاختيارية: حثنا الإسلام على الصدقات من أجل سد حاجة الفقراء والمساكين، وتدعيمًا لأواصر الأخوة بين المسلمين، وتحقيقًا للمواساة وللتكافل بينهم في داخل المجتمع المسلم.   قال تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].   لقد اعتبر القرآن الكريم الصدقة قرضًا لله تعالى مضمون الوفاء. قال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245].   وقال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39].   (3) الصدقات الواجبة: من صور المواساة والتكافل في الإسلام: أن الشريعة الإسلامية قد أمرت بأنواع من الصدقات الواجبة التي يجب على المسلم الذي تنطبق عليه شروطها إخراجها، من هذه الصدقات الواجبة: صدقة الفِطر والكفارات، وهي عقوبات قدرها الشرع الشريف عند ارتكاب أمر فيه مخالفة لأوامر الله تعالى، ومن ذلك: (1) كفارة القتل الخطأ. (2) كفارة اليمين المنعقدة. (3) كفارة الظِّهار. (4) كفارة الأذى للمحرِم بالعمرة أو الحج. (5) كفارة مَن جامع زوجته قبل التحلُّل. (6)كفارة من أفسد صومه بالجماع في نهار رمضان عمدًا. (7) كفارة من انصرف من عرفة قبل غروب الشمس. (8) كفارة من لم يَبِتْ بمزدلفة. (9)كفارة المحصر إذا لم يشترط. (10) كفارة من ترك الميقات من غير إحرام. (11) كفارة صيد البر للمحرِم. (12) كفارة لبس المخيط في الحج أو العمرة. (13) كفارة قطع شجر الحرم ونباته. (14) كفارة العاجز دائمًا عن صوم رمضان. (15) كفارة العجز عن الوفاء بالنذر.   ومن الصدقات الواجبة أيضًا: الهدي بالنسبة للقارن والمتمتع بالحج والعمرة، ومنها أيضًا: النذور، وهناك صدقات واجبة غير ذلك،والهدف من هذا كله هو طاعة الله تعالى، والتوسعة على الفقراء والمحتاجين.   إن تعاليم الشريعة الإسلامية تهدف إلى تحقيق التكافل بين الأفراد في جميع نواحي الحياة،والفرد في المجتمع المسلم جزء من كل، الفرد مسؤول عن الجماعة، والجماعة مسؤولة عنه.   فهل بعد هذه الكفالات والضمانات الموجودة في الشريعة الإسلامية المباركة، نحتاج إلى البحث عن ضمانات أخرى أو قوانين بشرية تنظم لنا أمور حياتنا وتؤمن لنا مستقبل حياتنا؟! (التأمين - للدكتور كنعان محمد عليان - صـ 186: صـ 190).   ثمرات المواساة: يمكن أن نوجز ثمرات المواساة في الأمور التالية: (1) المواساة تكسب المسلم حب الله تعالى، ثم حب الناس. (2) المواساة دليل حب الخير للناس. (3) المواساة تشيع روح الأخوة الصادقة بين المسلمين. (4) المواساة تقوِّي العلاقات بين جميع المسلمين. (5) المواساة تساعد على قضاء حاجات المحتاجين. (6) المواساة تدخل السرور على المسلم. (7) المواساة تجعل صاحبها من المسرورين يوم القيامة. (8) المواساة مِن أحب الأعمال الصالحة إلى الله تعالى. (9) المواساة تدعو إلى الأُلفة، وتؤكد معنى الإخاء، وتنشر المحبة بين أفراد المجتمع. (10) المواساة تُذهِب الحسد، وتميت الأحقاد من قلوب الناس؛ (موسوعة نضرة النعيم جـ 8 صـ 3469).   مواساة غير المسلمين: إن الذين يسعون إلى تقرير المواساة والتكافل الاجتماعي لن يجدوا تكافلًا اجتماعيًّا أعظم من كفالة الإسلام لغير المسلمين، الذين يعيشون على أرضه، وفي ظل عدل الإسلام وسماحته،الإسلام يتسامى بمن يعيشون في جواره (أيًّا كانت ديانتهم وجنسياتهم)، ويحوطهم برحمته وإحسانه عندما يحتاجون إلى مواساة لأي سبب من الأسباب، بل يجعل لهم مرتبات من بيت مال المسلمين.   إن التكافل الاجتماعي في الإسلام لا يرضى أن يذل رجلًا من غير المسلمين، وهو يحيا في رحاب الإسلام، فيعيش على صدقات الناس، ولكن الإسلام يحميه ويكرمه، ويوجب على الدولة أن تتولى رعاية أسرته.   مواساة غير المسلمين وصية رب العالمين: قال الله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].   قال الإمام ابن جرير الطبري: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ [الممتحنة: 8] من جميع أصناف الملل والأديان أن تبَرُّوهم وتصِلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله عز وجل عم بقوله: ﴿ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ﴾ [الممتحنة: 8] جميعَ مَن كان ذلك صفتَه، فلم يخصص به بعضًا دون بعضٍ؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 25 صـ 611).   وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8] يقول: إن الله يحب المُنصِفين الذين يُنصِفون الناس، ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم، فيَبَرُّون من بَرَّهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم؛ (تفسير ابن جرير الطبري جـ 25 صـ 612).   قال الإمام القرطبي (رحمه الله): دخل ذمي (رجل من غير المسلمين) على إسماعيل بن إسحاق القاضي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك، فتلا هذه الآية عليهم؛ ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]؛ (تفسير القرطبي جـ: 18 صـ 59: 58).   صور مشرقة لمواساة غير المسلمين: (1) روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما، قالت: قدِمَتْ علَيَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: ((نَعم، صِلِي أمَّكِ))؛ (البخاري حديث 2620 / مسلم حديث 1003).   قال الإمام ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): (وهي راغبة)؛ أي: طالبةً في بر ابنتها لها، خائفة من ردها إياها خائبة؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 5 صـ 277).   (2) روى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدُمُ النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعُوده، فقعد عند رأسه، فقال له: ((أسلم))، فنظر إلى أبيه وهو عنده،فقال له: أطِعْ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلَم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار))؛ (البخاري حديث: 1356).   (3) روى البخاري (في الأدب المفرد) عن مجاهد بن جبرٍ قال: كنت عند عبدالله بن عمرٍو بن العاص (وغلامه يسلخ شاةً) فقال: يا غلام، إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي، فقال رجل من القوم: اليهوديُّ، أصلحك الله؟ قال: إني سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار، حتى خشينا أو رُئِينا أنه سيورِّثُه؛ (حديث صحيح) (صحيح الأدب المفرد للألباني حديث 95).   (4) قال عبدالله بن أبي حدرد: لما قدمنا مع عمر بن الخطاب الجابية (مكان)، إذا هو بشيخ من أهل الذمة يستطعم، فسأل عنه فقلنا: يا أمير المؤمنين، هذا رجل من أهل الذمة كبر وضعف، فوضع عنه عمر الجزية التي في رقبته، وقال: كلفتموه الجزية حتى إذا ضعف تركتموه يستطعم، فأجرى عليه من بيت المال عشرة دراهم، وكان له عيال؛ (تاريخ دمشق - لابن عساكر - جـ 27 صـ 334).   (5) كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه (في عقد الذمة لأهل الحيرة بالعراق، زمن خلافة أبي بكرٍ الصديق): وجعلت لهم أيما شيخٍ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دِينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعِيلَ من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام؛ (الخراج لأبي يوسف صـ 144).   (6) كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن أرطاة (أمير البصرة): انظر من عندك من أهل الذمة قد كبِرَت سنُّه، وضعفت قوته، وولَّتْ عنه المكاسب، فأَجْرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يُصلِحُه، فلو أن رجلًا من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقُوتَه حتى يفرِّق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مرَّ بشيخٍ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: (ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك)، قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه؛ (الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام صـ 50). • • •
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الرسالة إخواني طلاب العلم الكرام، وأرجو من يقرؤها أن يدعو الله سبحانه لي بالإخلاص، والتوفيق، والثبات على الحق، وحسن الخاتمة؛ فإن دعوة الأخ المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة،وأختم بقول الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].   وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.   وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.



شارك الخبر

المرئيات-١