أرشيف المقالات

ما أحسن هذا الحسد!

مدة قراءة المادة : 3 دقائق .
2ما أحسن هذا الحسد!
ما أكثرَ الذين يَذمُّون الحسدَ، ويُبغِّضونه للناس، ويرسمون له صورة مشوَّهة شنيعة، ويَعدُّونه من مساوئ الأخلاق، ورذائلِ الطبائع، وصفات أهل الدَّناءة واللؤم، ويقولون: إن سلوكَ طريقه يهدي إلى نتائجَ غيرِ حميدة، ومسالك غير سويَّة!   وكأن هؤلاء الناس الذين جاروا في هذا الحكمِ العام قد انسلخوا عن الحسدِ، وما كان صفةً من صفاتهم، ولا عرفَتْه نفوسُهم وأخلاقهم، ونطَقَتْ به بعضُ تصرفاتهم!   وأنا على يقينٍ مما أقول أنه لا تخلو نفسٌ بشريَّة من حسد، فكلُّ نفس وُلِدت إلى هذه الحياة وُلِد معها الحسدُ، ولا يخرجُ عنها إلا إذا خَرَجت الروح من الجسد، فالحسدُ من أسباب النجاح والتفوُّق؛ فكم من مبدعٍ نَضِجَ إبداعُه على وقود الحسد، فطار نورُه في الآفاق حينما يرى قرينَه أو غيرَ قرينِه قد أنتج شيئًا لمصلحة نفسِه أو مجتمعه في أمرِ دينه أو أمر دنياه، وسواء أكان في الأقوالِ أم في الأفعالِ، فعندَ ذلك تتأجَّج نارُ همَّته، وتتفتَّح منابعُ فكرتِه، وتتحرَّكُ طاقاتُه الخامدة؛ ليفعلَ كما فعلَ نظيرُه أو أحسن، والأمثلةُ على هذه الحقيقة في الواقع كثيرةٌ من الإبداعات الثقافيَّة والعلميَّة والطبيَّة والهندسية وغير ذلك، وهذا يدلُّ على أن الحسدَ من شِيَمِ النفوس الأبيَّة، وقبس يرشد إلى إنتاجٍ نافع للبشرية.   أما النفوسُ التي آثرَتِ الاسترخاءَ وانتظارَ جهود الآخرين وهي على أريكة: "ما ترك الأولُ للآخر!"، فإنها نفوسٌ لا تنفَعُ أصحابَها ولا أمَّتَها.   أفلا يُحمَدُ هذا الحسد، ويُمجَّد أهلُه؟   أما الحسدُ الذي ورَدَ ذمُّه في الخُلُق والشرع، فإنه الذي يقومُ على إيثار الذَّات، والاستئثارِ على الآخرين بالشيء، مع تمنِّي ذَهابِ النِّعم عنهم؛ لينفردَ بها ذلك الحاسدُ الحاقدُ وحدَه، أو يبقى الجميع - وهو منهم - في مَعْزِلٍ عنها، فهذا النوعُ من الحسدِ آفةٌ تَهْدِمُ النفوسَ، وتُمزِّق المجتمعات، وتفصم الروابطَ، وتُكدِّرُ الخواطرَ والعَلاقات.   والواجبُ شرعًا وعقلًا وخُلقًا تجنُّبُه في الخارج أقوالاً وأفعالاً، وإن كان خلقًا مطبوعًا في الفِطَر، لكن الكريمَ يُخفيه، واللَّئِيم يُبديه.   قال الحسنُ البصري: "ليس أحدٌ من خلقِ اللهِ إلا وقد جُعل معه الحسدُ، ومن لم يجاوِزْ ذلك إلى البغيِ والظُّلم، لم يَتْبَعْه منه شيء"، وعن أنس بن مالك أنه مرَّ على ديار خَرِبةٍ خاويةٍ، قال: هذه أهلَكَها وأهلَك أهلَها البَغْيُ والحسدُ، إن الحسد ليُطفِئُ نورَ الحسنات، والبَغْيُ يصدِّق ذلك أو يُكذِّبه، فإذا حسدتم فلا تبغوا.   قيل للحسن: يا أبا سعيد، أَيحْسُدُ المؤمنُ؟ قال: لا أمَّ لك! أنسيتَ إخوةَ يوسف؟![1].   بعد هذا يتبيَّن أن الحسد ليس نوعًا واحدًا، بل نوعان: الحسد المَحْمود، والحسد المَذْموم.


[1] بهجة المجالس وأنس المجالس؛ لابن عبدالبر ص: 88.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن