أرشيف المقالات

موقف ابن تيمية من قضية العلو والجهة، والرد على القول المنسوب إليه

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
2موقف ابن تيمية من قضية العلو والجهة والرد على القول المنسوب إليه
يذكر ابن كثير في تاريخه أن الأمير الجاشنكير جمع الفقهاء لإعلان مخالفة الشيخ في "مسألة العرش، ومسألة الكلام وفي مسألة النزول"[1]، وكان مضمون عقيدة الشيخ باختصار هو ما نقله عن أهل السنة والجماعة.
أي "الإيمان بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل"[2].
وقد مضى بنا الحديث عن دليل الكمال الذي يؤسس به الشيخ تنزيه الله تعالى.
إنه ينزهه عن صفات النقص مطلقًا "فلا يوصف بالسفول ولا علو شيء عليه بوجه من الوجوه، بل هو العلي الأعلى الذي لا يكون إلا أعلى"[3].
ولم يثبت صفة العلو الا بعد دراسة وبحث لنظار أهل السنة من مثبتة الصفات، لأنه يخبرنا أن العلم هو النقل الصدق، والبحث المحقق[4].
وما دام الأمر كذلك، فقد تأكد لديه بعد فحص أقوال السابقين أن علو الله تعالى على المخلوقات "عند أئمة أهل الآثار من الصفات العقلية المعلومة بالعقل مع السمع، وهذا اختيار أبي محمد بن كلاب وغيره، وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى، وقول جماهير أهل السنة والحديث"[5].
أما الاشتباه الذي وقع فيه البعض، فإن مرده إلى الظن بأن ما وصف الله به عز وجل نفسه هو "هو جنس ما توصف به أجسامهم"[6] وهذا خطأ.
لأنهم لو قاسوا الأمر بالنظر الى أرواحهم - ولله المثل الأعلى - التي يعرفون صفاتها وأفعالها، لأن من أفعال الروح عروجها إلى السماء بينما لم تفارق النائم[7].
وكذلك حال الملائكة - وهم ليسوا أجسادًا - في صعودهم ونزولهم، فإذا ثبت ذلك للأرواح والملائكة من جنس حركة الصعود والنزول دون المماثلة لحركة أجسام الآدميين "كان ما يوصف به الرب من ذلك أولى بالإمكان، وأبعد عن مثل نزول الأجسام، بل نزوله لا يماثل نزول الملائكة وأرواح بنى آدم"[8].

وسيتضح لنا بعد قليل أن ابن تيمية يذهب إلى تأويل النزول حتى ينفي المكان.
أما رأيه عن الاستواء، فقد ردد فيه قول الإمام مالك لكى ينفي تفسير الاستواء بالاستيلاء ولأن الاستواء - كما ورد بالقرآن "من الألفاظ المختصة بالعرش وحده"[9] إذ لا يصح القول بأنه تعالى استوى على العرش وعلى كل شيء.
ويظهر النفي القاطع لشبهة التجسيم التي ألصقت بالشيخ في مثل قوله: "وذكرت ما أجمع عليه سلف الأمة: من أنه سبحانه فوق العرش، وأنه معنى حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة"[10].
وكانت هذه النقطة من المسائل التي دار حولها النقاش إذ يقول ابن تيمية: "وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم ويطنبون في هذا، ويعرضون لما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك"[11].
وقد نوقش الشيخ في قوله الآنف الذكر بأن الله تعالى مستوٍ على العرش حقيقة بذاته بلا تكييف ولا تشبيه، وجاء ضمن حججه المؤيدة له قوله: "أنا قد أحضرت أكثر من خمسين كتابًا من كتب أهل الحديث، والتصوف والمتكلمين والفقهاء الأربعة والحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية يوافق ما قلته.
وأنا أمهل من خالفني ثلاث سنين أن يجئ بحرف واحد عن أئمة الإسلام يخالف ما قلته"[12].
وأخذ يدافع عن هذه العقيدة بقوله: "إني لم أقل شيئًا من نفسي، وإنما قلت ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها"[13].
أما القول المنسوب إليه بواسطة ابن بطوطة وهو: "أن الله ينزل إلى الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة"[14]، فقد أثبت التحقيق العلمي أنه من الرواة الذين يطلقون الروايات على عواهنها دون تحقيق أو ضبط، فضلًا عما أثبته الشيخ محمد بهجة البيطار في كتابه "حياة شيخ الإسلام ابن تيمية" من تهافت هذه الواقعة بل اختلاقها، لعدة أسباب، منها أنه لم يسمع من ابن تيمية ولم يجتمع به إذ كان في السجن عند وصول ابن بطوطة إلى دمشق، ومرجحًا أن نصرًا المنبجي هو الذي أشاع مسألة النزول عن الدرج[15] وكذلك حققها عبدالصمد شرف الدين في مقدمة كتاب "مجموعة تفسير".
ومن العجب أن دائرة المعارف الإسلامية قد أشارت الى الموضوع، ولم تفحصه كما ينبغي.
فإذا وجدنا لها العذر في طبعتها الأولى، فإننا لا نجد سببًا يبرر إعادة نفس المادة في طبعتها الجديدة، بعد أن نبه الدارسان المشار إليهما إلى ذلك[16].
ونود أن ننقل هنا القول الفصل لابن تيمية في هذه المسألة التي كثر حولها الشكوك وها هي كلماته بالحرف الواحد "والذي يجب القطع به أن الله ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه، فمن وصفه صفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعًا، كمن يظن أنه ينزل فيتحول كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار كقول من يقول إنه يخلو منه العرش، فيكونا نزوله تفريغًا لمكان وشغلًا لآخر، فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه كما تقدم، وهذا هو الذي تقوم على نفيه وتنزيه الرب عنه الأدلة الشرعية والعقلية"[17].
إن ما يشفع لنا في نقل هذه العبارة - على طولها - رغبتنا في توضيح القول الفصل في هذه الفرية المنسوبة لابن تيمية.
وليس هذا فحسب، بل يضيف إلى ذلك قوله "وحينئذ فلفظ النزول ونحوه يتأول قطعًا، إذ ليس هناك شيء يتصور منه النزول"[18] وهو يقصد بقوله "لفظ النزول ونحوه" الأمور الاختيارية الأخرى كالغضب والرضا والفرح، والدنو والقرب والاستواء والنزول، بل والأفعال المتعدية كالخلق والإحسان وغيره"[19].
من أجل هذا، وغيره مما أسلفنا توضيحه - كنا نود من صاحب كتاب "ابن تيمية ليس سلفيًا"[20] أن يختط منهجًا مغايرًا لما خطه لنفسه في هذا البحث، فان إلقاء نظرة على مصادره توضح لنا أنه لم يرجع إلى مصدر واحد لشيوخ السلف.
هذا من ناحية النقل الذي ارتبط به ابن تيمية حيث كان يحرص في دفاعه عن نفسه أن يذكره كما تقدم ذلك أن مذهب السلف صار "منقولًا بإجماع الطوائف بالتواتر"[21].
إن دراسة الفكر التيمي تحتاج أولًا إلى الوقوف على نظرياته من كتبه بنظرة شاملة لأن سمات هذا الفكر تبرر من خلال اتجاهين - كشف عنهما أستاذنا الدكتور النشار من قبل - ونعني بهما الجانب الهدمي والجانب الإنشائي.
كذلك يتضح موقفه الوسط - أو ما نستطيع أن نسميه "النظرية النسبية التيمية" إذ لا نستطيع فهم المذهب عنده إلا في ضوء هذه النظرية التي لولاها، لوجد الباحث نفسه أمام مصاعب جمة بين اشتداد خصومة الشيخ في مواطن لبعض الفرق والشيوخ أو المناهج، إلى الرفق واللين، وربما إبداء الإعجاب أيضًا في مواضع أخرى.
ونستطيع أن نتخذ من موقفه من الإمام الأشعري مثالًا واحدًا على ما نقول[22].
إن ما يعجبه في شيخ الأشاعرة هو وقوفه في وجه المعتزلة، إذ "لما رجع من الاعتزال سلك طريقة أبى محمد بن كلاب، فصارت طائفة ينسبونه إلى السنة والحديث من السالمية وغيرهم، كأبي علي الأهوازي يذكرون في مثالب أبي الحسن أشياء هي من افتراء المعتزلة وغيرهم عليه لأن الأشعري يبين من تناقض أقوال المعتزلة وفسادها ما لم يبينه غيره حتى جعلهم في قمع السمسمة"[23].
أما نقده له فإنه يدور حول تأويل الأفعال الاختيارية، إذ يرى أن أي نفي يعد من قبيل الاتجاه الجهمي لأن جهم بن صفوان أصبح علمًا على كل مذهب ينفي الصفات أو الأفعال أو هما معًا، فالمذهب الأشعري عنده يقترب ويبتعد عن أفكار جهم بقدر ما يقربه منها، ولا يقصد بذلك أنه تقيد بأفكاره من كافة الوجوه.
وكنا نود أيضًا من صاحب الكتاب الآنف الذكر أن يستخرج مذهب السلف من مظانه الحقيقة[24] وأن يقف على الاصطلاحات التي تناولها المتكلمون في تناولهم للمذهب السلفي لأنهم يختلفون في استخداماتهم للاصطلاحات، فلذا قيل أن "مذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه"[25].
وهكذا يتضح ضرورة تحديد معاني الاصطلاحات، إذ يوضح ابن تيمية المقصود بهذه المفردات وإنها تختلف معانيها عند الفرق طبقًا لاصطلاحاتهم التي اتفقوا عليها.
فإن المعتزلة - مثلًا - يرون التوحيد في نفي الصفات، وكذلك الجهمية، فإذا خالفهم المثبتون، أطلقوا عليهم صفات المشبهين المجسمين.
ومن المثبتين للصفات من يقصد بالتوحيد والتنزيه نفي الصفات الخبرية أو بعضها.
ويعني الفلاسفة بالتوحيد معنى مشابهًا لما يقصده المعتزلة.
والتوحيد عند أصحاب وحدة الوجود هو الوجود المطلق[26].
لهذا فإن شيخنا في تعريفه للتنزيه، يستخرج المعنى من الآيات القرآنية فيرى في الآيتين "قل هو الله أحد" و"ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" صفات التنزيه التي تجمعها هاتان الآيتان: فإن أولهما تنفي النقص عن الله "وذلك من لوازم إثبات صفات الكمال، فمن ثبت له الكمال التام انتفى النقصان المضاد له، والكمال من مدلول اسمه الصمد، والثاني، إنه ليس لمثله شيء من صفات الكمال الثابتة، وهذا مدلول اسمه الأحد"[27].
إن تحديد معاني الكلمات والمصطلحات أمر ضروري في نظر ابن تيمية لتوضيح المقصود "فإن لفظ الجسم والجوهر، ونحوهما لم يأت في كتاب ولا سنة رسوله، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسائر أئمة المسلمين، المتكلم بها في حق الله تعالى لا بنفي ولا بإثبات"[28].
ومن قبيل هذه الكلمات لفظ "الجهة": فقد شرح المقصود به من عدة أوجه، فإن الخالق عز وجل "بائن عن مخلوقاته عال عليها، فليس هو في مخلوق أصلًا سواء سمى ذلك المخلوق جهة أو لم يسم جهة..
ومن قال أنه في جهة موجودة تعلو عليه أو تحيط به أو يحتاج إليها بوجه من الوجوه فهو مخطئ..
ومن سمى ما فوق العالم جهة وجعل العدم المحض جهة وقال هو في جهة بهذا المعنى، أي هو نفسه فوق كل شيء فهذا معنى صحيح، ومن نفى هذا المعنى بقوله ليس في جهة فقد أخطأ"[29].


[1] ابن كثير.
البداية والنهاية ج 14 ص 36. [2] أبو المعالي.
غاية الأمانة في الرد على النبهاني ص 279 ج 1. [3] شرح حديث النزول ص 166. [4] تفسير سورة النور ص 140. [5] شرح حديث النزول ص 171. [6] شرح حديث النزول ص 171. [7] نفس المصدر ص 172. [8] نفس المصدر ص 175. [9] تفسير سورة الإخلاص ص 111. [10] الرسائل الكبرى ج 1 ص 420 (المناظرة في العقيدة الواسطية). [11] أبو المعالي السلامي (غاية الأماني في الرد على النبهاني) ص 281 ج 1. [12] ص 55 من كتاب محنة شيخ الإسلام تحقيق حامد الفقي. [13] نفس المصدر ص 54. [14] ص 57 من رحلة ابن بطوطة ج 1 الطبعة الأزهرية. [15] البيطار.
حياة شيخ الإسلام من ص 46 الى 53 يضاف الى ما بيناه أعلاه أن ابن تيمية لم يكن يعظ على المنبر وإنما كان يجلس على كرسي فضلًا عن محتوى جميع كتبه التي بين أيدينا وهي على نقيض افتراء ابن بطوطة الذي روى الحادثة المختلقة دون تثبت.
كذلك ينظر مقدمة كتاب (مجموعة تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية) بقلم عبد الصمد شرف الدين ط 1 بومباي. [16] الطبعة الأولى شعبان 1352هـ 1933م ابن تيمية ص 109 بقلم محمد بن شنب، والطبعة الجديدة الصادرة في 1389هـ 1969م المجلد الأول عدد 3 ص 231 ط كتاب الشعب. [17] شرح حديث النزول ص 224. [18] نفس المصدر ص 224. [19] شرح حديث النزول ص 221. [20] محمد عويس (ابن تيمية ليس سلفيًا) دار النهضة العربية 1970 وقد حاول الجهد لإثبات فكرة سابقة - وهي رمي ابن تيمية بالتجسيم - إما بالاستناد على مصادر لا ترتبط بالمذهب السلفي، أو ببتر النصوص والقفز الى النتائج مباشرة دون تحقيق. [21] ابن تيمية.
نقض المنطق ص 125. [22] وقال عند مناقشته في العقيدة الواسطية (وأنا قد أحضرت ما يبين اتفاق المذاهب فيما ذكرته) وأحضرت كتاب (تبيين كذب المفترى...) لم يضيف في أخبار الاشعري المحمودة كتاب مثل هذا وقد ذكر فيه لفظه الذي ذكره في كتابه (الإبانة غاية الأماني في الرد على البنهاني) ص 289 ج 1. [23] شرح حديث النزول ص 202. [24] نذكر على سبيل المثال كتاب (عقائد سلفية) تحقيق الدكتور على سامى النشار، وعمار الطالبي. [25] نقض المنطق ص 123. [26] نقض المنطق ص 124. [27] جواب أهل العلم والإيمان ص 107 وينظر أيضًا تفسير سورة الإخلاص حيث شرح المعنى بتوسع لا سيما ص 20، 76، 159. [28] مجموع فتاوى ج 17 ص 313. [29] الجواب الصحيح ج 3 ص 83.



شارك الخبر

المرئيات-١