أرشيف المقالات

موقف ابن تيمية من قضية الخلق والإبداع بدلا من الصدور عن الواحد

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2موقف ابن تيمية من قضية الخلق والإبداع بدلاً من الصدور عن الواحد
يرى ابن تيمية أن معنى القول بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، هو إنكار فكرة الإحداث والفعل بالمشيئة والقدرة لأن الصدور يعنى لزومه للواحد ووجوبه به "ونحن لا نتصور في الموجودات شيئًا صدر عنه وحده شيء.
منفصل عنه كان لازمًا قبل هذا الوجه[1] بل إن المشاهد أن كل صادر في الوجود فإنه يصدر عن اثنين فصاعدًا: كالولد فهو صادر عن والدين، والنار والحطب، والشمس والأرض ولو أن أحدهما الفاعل والآخر القابل[2].
وللبرهنة على خطأ القياس في العلة والتولد وجعل العالم يصدر عن الله تعالى بالتعليل والتولد، يستشهد الشيخ بالآيات القرآنية الدالة على ذلك: مثل قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ﴾ [الذاريات: 49] وقد تنزه الله عن اتخاذ الولد والصاحبة ورد على هؤلاء الذين ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 100، 101]، فبين القرآن خطأ القياس في العلة والتولد، وأثبت أن الله "خلق كل شيء خلقًا، وأنه خلق من كل شيء زوجين اثنين"[3].
والمقارنة بين معنى الخلق الذي جاء به القرآن يناقض نظرية الصدور، لأن آيات الكتاب المتضمنة للخلق تعني الإبداع والإنشاء، كما تنص أيضًا على التقدير "عندهم العقول والنفوس ليس لها مقدارًا ولا هي أيضًا مبدعة الإبداع المعروف"[4].
أما القرآن فقد أخبرنا في أكثر من موضع أن الله تعالى خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام[5]، بل اتفق دين أهل الملل جميعًا - من المسلمين واليهود والنصارى - على أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام من مادة كانت موجود قبلها، وهي الدخان وهو بخار الماء مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11]،.
وقد قدرت المدة الزمنية لهذه الأيام الستة بحركة أخرى مغايرة لحركة الشمس والفلك في أرضنا"[6].
وللرد على المعتزلة القائلين بأن المعدوم الشخصى شيء[7] يورد ابن تيمية عقيدة أهل السنة وهي "إن الأشياء ثابتة في علم الله قبل وجودها، ليست ثابتة في الخارج"[8].
ولا حجة في خطاب التكوين "إنما أمره اذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون" لأن الخطاب موجه إلى معاني ثابتة لله تعالى قبل وجود المخلوق"[9].
المعدوم إذن ليس موجودًا في الخارج "وأما ما علم وأريد كان شيئًا في العلم والإرادة والتقدير فليس وجوده في الخارج محالًا، بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة"[10].
ولزيادة الإيضاح، يوجه ابن تيمية النظر إلى ما يجده الإنسان في نفسه، فيقدر أولًا أمرًا في نفسه يريد أن يفعله، ثم يوجه إرادته وطلبه الى ما يريد، فيتم تحصيل المطلوب بحسب القدرة، وبالعكس إذا عجز لم يحصل ولله المثل الأعلى "والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فإن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون"[11].
وفي رأيه أن الفلاسفة القائلين بأن الماهيات الكلية المطلقة ثابتة في الأعيان يشبه نظرية المعتزلة السابق الإشارة إليها.
وينفي الشيخ نفيًا قاطعًا أن يكون في الأعيان الموجودة في الخارج شيء مطلق "إنما هو عين من الأعيان أشير إليها، فقيل هذا إنسان، فإنه يعلم بالحس والعقل أنه ليس فيه شيء مشترك"[12]، ويقدم مثالًا ثانيًا وهو أن علمنا بالماء والنار، هو مطابقة العلم للمعلوم فليس في قلوبنا ماء ونار.
وفي هذه القضية مراتب أربعة مشهودة هي الوجود العيني - أي الماء والنار، والعلمي - أي العلم بذلك، واللفظي - الذي يطابق العلم، والرسمي، وهو أن الخط يطابق الرسم "وجود في الأعيان وفي الأذهان وفي اللسان وفي البنان"[13].
وتظهر هنا براعة ابن تيمية في الربط بين نظريته في الوجود ونظريته في المعرفة فيقول "وقد تشبه هذه المطابقة مطابقة الصورة التي في المرآة للوجه، ومطابقة النقش الذي في الشمعة والطين لنقش الخاتم الذى يطبع ذلك له"[14].
وسنراه أيضًا ينقد نظرية الجوهر الفرد لكى يؤكد نظرية الخلق ويدعمها.


[1] شرح العقيدة الأصفهانية ص 46. [2] نفس المصدر ص 48/ 47 ونقض المنطق ص 107. [3] نقض المنطق ص 107 وفي تعريفه للخلق يقول: (والخلق يتضمن الحدوث والتقدير ففيه معنى الإبداع والتقدير) بيان موافقة صريح المعقول ج 3 ص 91. [4] بغية المرتاد ص 28. [5] مجموع فتاوى ج 71 ص 235. [6] شرح حديث النزول ص 210. [7] بغية المرتاد ص 102. [8] نفس المصدر ص 105. [9] موافقة صريح المعقول ج 2 ص 248. [10] مجموع الرسائل الكبرى ج 2 ص 74. [11] نفس المصدر ص 75. [12] بغية المرتاد ص 101 والقائل بالماهيات الكلية أو نظرية المثل هو أفلاطون. [13] نفس المصدر ص 105. [14] بغية المرتاد ص 105.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣