أرشيف المقالات

السنة المصدر الثاني للتشريع

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
السنة المصدر الثاني للتشريع

لا شك أن السُّنة هي الحياة والنور اللذان بهما سعادة العبد وهداه، ولكن ما هي هذه السنة التي يجب اتباعها ويحمد أهلها، ويذم من خالفها؟
هي سُنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، الهدى الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: علمًا، واعتقادًا، وقولًا، وعملًا، وأخلاقًا، وسلوكًا...
إلخ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه؛ بأنه طاعة لله ورسوله سواء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فُعل في زمانه، أو لم يفعله ولم يفعل على زمانه، لعدم المقتضى حينئذ لفعله، أو وجود المانع منه[1].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "والسنة هي الطريقة المسلوكة، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه الراشدون: من الاعتقادات والأعمال، والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة[2].
وبهذا المعنى تكون السنة: "اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار"[3].

ولا يشك العاقل أن القرآن والسنة هما مصدر الأول في التشريع الإسلامي إلا أن القرآن مقدم على السنة بأن لفظه من عند الله عز وجل، متعبد بتلاوته، معجز للبشر عن أن يأتوا بمثله، بخلافها فهي دونه منزلة في هذه النواحي، ولكن ذلك لا يوجب التفضيل بينهما من حيث الحجية: بأن تكون مرتبتها التأخر عن الكتاب في الاعتبار والاحتجاج، فتهدر ويعمل به وحده.

وعلى هذا فالسنة المطهرة مساوية للقرآن من هذه الناحية؛ فإنها وحي مثله؛ فيجب القول بعدم تأخرها عنه في الاعتبار.
والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال؛ فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام؛ فحرموه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله"[4].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لعل أحدكم يأتيه حديث من حديثي، وهو متكئ على أريكته، فيقول: دعونا من هذا، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"[5].
 
ومن أقوال السلف في ذلك:
عن الحسن البصري: أن عمران بن حصين كان جالسًا ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: ألا تحدثونا بالقرآن، قال: فقال له: ادن، فدنا، فقال: "أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعًا، وصلاة العصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف سبعًا، والطواف بالصفا والمروة كذلك؟ ثم قال: أي قوم خذوا عنا؛ فإنكم والله إن لا تفعلوا؛ لتضلن"[6].
وعن أيوب السختياني: أن رجلًا قال لمطرف بن عبد الله بن الشخير: "لا تحدثونا إلا بما في القرآن، فقال له مطرف: إنا والله ما نريد بالقرآن بدلًا، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا أي: السنة"[7].
وقال أيوب السختياني: "إذا حدث الرجل بالسنة، فقال أحد: دعنا من هذا وحدثنا من القرآن فاعلم أنه ضال مضل"[8].
وقال الأوزاعي، ومكحول، وحيي بن أبي كثير وغيرهم: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، والسنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب قاضيًا على السنة[9].
وبهذه الأدلة يظهر جليًا أن كلًا من القرآن والسنة معضد للآخر، ومساو له: في أنه وحي من عند الله، وفي قوة الاحتجاج به، وأنه لا يؤثر في ذلك نزول لفظ الكتاب ولا إعجازه، ولا التعبد بتلاوته، ولا أنه قد ورد فيه ما يفيد حجيتها.
ويكفي في ذلك دليلًا أنه لم تثبت سورة في القرآن إلا بقوله صلى الله عليه وسلم: هذا كلام الله ضعوه في سورة كذا...، وكتب التفسير أعظم شاهد على ذلك.

ثم أجمع فقهاء المسلمين قديمًا وحديثًا من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا إلا من شذ من بعض الطوائف على الاحتجاج بها وعدها مصدرًا مساويًا للدين مع القرآن الكريم، فيجب اتباعها، وتحرم مخالفتها.
وقد تضافرت الأدلة القطعية على ذلك، فأوجب الله سبحانه على الناس طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وبيَّن أنه صلى الله عليه وسلم هو المبين لما أنزل من القرآن، وذلك بعد أن عصمه من الخطأ والهوى في كل أمر من الأمور[10].
وأما من ما استدل عن تأخر السنة بعد القرآن في الاحتجاج والاعتبار، فأدلتهم أوهى من بيت العنكبوت، ومنبأ هذا الفكر ناشئة من غلاة الشيعة، والخوارج، والروافض، والمستشرقين، وبعض المتكلمين حديثًا ممن يتكلمون بلغتنا وينتسبون إلى أمتنا[11].
واستدلوا في ذلك بحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أرسله إلى اليمن: "بم تحكم؟"، قال: بكتاب الله قال: "فإن لم تجد؟" قال: بسنة رسول الله قال: "فإن لم تجد؟".
قال: أجتهد رأي ولا آلو.
قال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحب رسول الله"[12].
وهذان هما المصدران الأساسيات والوحيان الخالدان للتشريع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

زيادة على ذلك فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الشورى في الإسلام، والشورى([13]) هي مصطلح إسلامي استمده بعض فقهاء وعلماء المسلمين من بعض آيات القرآن مثل ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾[14] وأيضا قوله تعالى ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾[15] للدلالة على ما اعتبروه المبدأ شرعي من مبادئ الإسلام المتعلق بتقليب الآراء، ووجهات النظر في قضية من القضايا، أو موضوع من الموضوعات، واختبارها من أصحاب الرأي والخبرة، وصولًا إلى الصواب، وأفضل الآراء، من أجل تحقيق أحسن النتائج، وتذكر كتب الحديث والتاريخ الإسلامي مواقف اعتبروها تجسد مبدأ الشورى منها استشارة محمد نبي الإسلام لأصحابه رغم أنه معصوم.



[1] مجموع الفتاوى: ج 21/ 317 - 318.



[2] جامع العلوم والحكم لابن رجب ج1/ 263.


[3] مجموع الفتاوى ج 3/ 157.



[4]سنن أبو داود (4604)، والترمذي (2664) بسند صحيح من حديث مقدام بن معد يكرب.



[5] أخرجه الخطيب في "الكفاية" (ص 42)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله ج 2: 189" بسند صحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.



[6] أخرجه البيهقي في مدخل الدلائل ج 1/ 25، والخطيب في "الكفاية" ص 48، وابن عبد البر في جامع بيان العلم ج2/ 191.



[7] ابن عبد البر: جامع بيان العلم 191/ 2.



[8] معرفة علوم الحديث للحاكم ص 65، والخطيب في "الكفاية" ص 49.


[9] سنن الدارمي: ص 593.



[10] انظر "شبهات القرآنيين حول السنة النبوية" للدكتور محمود محمد مزروعة (ص 32).


[11] انظر "منزلة السنة" للدكتور محمد سعيد منصور ص 469 - 470.



[12] سند هذا الحديث ضعيف جدًا، فقد ضعفه الترمذي، وابن عدي، والدارقطني، وابن حزم، والعقيلي، وابن القطان الفاسي.

قال ابن الملقن: "هذا الحديث كثيرًا ما يتكرر في كتب الفقهاء والأصول والمحدثين ويعتمدون عليه، وهو حديث ضعيف بإجماع أهل النقل" البدر المنير 535/ 9.
وقال ابن حزم: "وادعى بعضهم: أن هذا الحديث متواتر، وهذا كذب، بل هو ضد التواتر؛ لأنه ما رواه أحد غير أبي عون عن الحارث، فكيف يكون متواترًا، وقد قال عبد الحق: لا يسند ولا يوجد من وجه صحيح".

وقال ابن طاهر في تصنيف له مفرد في الكلام على هذا الحديث: "اعلم أني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار وسألت عنه من لقيته من أهل العلم بالنقل، فلم أجد له غير طريقين، أحدهما طريق شعبة، والأخرى عن محمد بن جابر، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن رجل من ثقيف، عن معاذ، وكلاهما لا يصح" التلخيص الحبير "لابن حجر" 4/ 446 وقد بيَّن نكارته سندًا ومتنًا شيخنا الإمام الألباني رحمه الله في "السلسلة الضعيفة" (2/ 285 - 286) ومما قاله: "كل هؤلاء وغيرهم ممن لا نستحضرهم قد ضعفوا هذا الحديث، ولم يضل بإذن الله من اهتدى بهديهم، كيف وهم أولى الناس بالقول المأثور (هم القوم لا يشقى جليسهم)".
هذا ولما أنكر ابن الجوزي صحة الحديث أتبع ذلك بقوله: "وإن كان معناه صحيحًا".
"فأقول: هو صحيح المعنى فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكنه ليس صحيح المعنى عندي فيما يتعلق بتصنيف السنة مع القرآن وإنزاله إياها معه منزلة الاجتهاد منهما.

فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة، فكذلك لا يؤخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب.
وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معًا وعدم التفريق بينهما؛ لما علم من أن السنة تبين مجمل القرآن، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه كما هو معلوم.



[13] حقيقة الشورى بين الاتباع والادعاء.
محمد بن شاكر الشريف.
مجلة البيان، العدد 217، ص 12 - 17.


[14] سورة الشورى: 38.



[15] سورة آل عمران: 159.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢