أرشيف المقالات

معركة خاسرة مع هاتفي

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2معركة خاسرة مع هاتفي   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم.   أما بعد: فبادئ ذي بدء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم أحمد الله على كل حال، وأقول: قدر الله وما شاء فعل؛ ففي صباح يومنا هذا الجميل: 13 من شهر جمادى الآخرة سنة 1437من الهجرة، الموافق: 22 من شهر مارس سنة 2016 م، وعقب صلاة الفجر بسُويعات يسيرة كنت قد فقدت كل ما كان في هاتفي بعُجَره وبُجَره، وقديمه وحديثه، وجميله وقبيحه، وصحيحه وسقيمه، وجيده ورديئه...   ذلك أني كنت قبلها أتجول فيه؛ معرجًا على بعض المواقع والمنتديات؛ ألتمس الفوائد النافعات، وأرفل متبخترًا في حَمائِلِها الحسان، وأتمشى فرحًا في رياضها والأفنان، إذ بَرِقَ بصَري فَزَعًا، وشخص نظري هلعًا، وأذهلني ما رأيت وهالني ما شاهدت مما حل بهاتفي ودهاه، ونزل به واعتراه!   فلم يلبث هاتفي بعد ذاك إلا شيئًا يسيرًا، وأصبح بعدها وعلى غير ما عهدته بحالة يرثى لها، ويحزن عليها، وبدأت تعتريه إثر ذلك رعدة مصحوبة بحرارة عالية وهزة، ممالم يستطع معها تمالك نفسه، واستجماع أمره، فأصابه ما يصيب المحموم من القضاء المحتوم؛ من تخريف وهَذْرمة مصحوبة ببلبلة وأنأنة، واعتلى جبينه رحضاء الحمَّى، وسيطرت على أعضائه العرواء، تلاها وفي إثر ذلك مباشرة، وبشيء من السرعة الفائقة تعليقٌ شديد عاصف هالع، كأني به لما في طياته خالع، أتى على جملة كبيرة من (التطبيقات وموارد النظام)، فأصبح يتخبط كمن به مسٌّ، أو كمريض ذرعه قَلَس، ولولا أن تعتريَكم العَتْهُ، أو تصيبكم الآفة، لذكرت لكم ما تَحارُ معه العقول، ولا تستسيغه الفهوم.   ففكرت - وبئس ما فكَّرت فيه تلك الساعة! - أن أعمل له: (إعادة تشغيل)، فلكأني به تلك الساعة قد تفطن لما تمتمت به من الكلمات، وهمست به لنفسي من العبارات، فكان وَقْعها عليه عظيمًا، وحصولها عليه شديدًا، وكأني تخيلته مغضبًا قد احمرَّت وجنتاه،واسودَّت شفتاه، وقرر في إثرها الانتقام، وأن يلقِّنني درسًا لقلة الاحترام، وما هو إلا أن مددت يدي لإغلاقه حتى أرعد وأبرق، وهدَّد وتوعد!   ولسان حالي: ما وعيدك لي بضائر، فما كدت أنهي هذا الإغلاق، حتى تبين لي أن محاولتي قد منيت بالإخْفاق؛ إذ جن عقبه مباشرة، وعمد إلى المخالطة والمغالطة، فكأني به لا يدري ما يفعل، ولا يعي ما يعمل.   ولعلَّها كانت كما يقال: نوبة من آثار (فيروس) خبيث، فوسوس له بسوء، وقرَّرا - أي: الفيروس والهاتف ومن غير تواطؤ واتفاق، ومن غير لقاء أو ميثاق، أن يقوم كلاهما بتلقيني درسًا، يأملان ألَّا أنساه، فكنت كلما قمت بوضع يدي على زر التشغيلِ، وقد خُيِّل لي بعدها أنه ثاب إلى رشده، وعاد إلى صوابه - إذ بي أفاجَأ أن في الأمر حيلةً ومكرًا قد دُبِّرا بليل!   مما شاط معه غضبي، عقب أن عَظُم ألمي، فقرَّرت - وبئس ما قرَّرت مرة أخرى - أن أخوضَ هذه المعركة مشمِّرًا، وأن ألقنهما درسًا منكرًا، ولم أكن أعلمُ إلى أيِّ شيء سيَقتادُني غضبي، وإلى أين سينتهي عملي.   فغادَرْتُ بعدَها جلبابَ الرَّفْق والحلم، وخلَعْتُ ثوبَ التأنِّي والصبر، وركبت موجةَ الغضبِ والانتقام، التي لا تُبقِي ولا تَذَرُ، وأمسَكْتُ بسيفِ الإقدام؛ لأصولَ به عليهما وأجول، وأحزَّ عنقَيهما، وأقطع دابريهما معًا!   فدفعني ذلك إلى حماقةٍ أعظمَ من تلك وأبشعَ وأقوى وأفظعَ؛ وهي أنني مدَدْتُ حُسامي إلى هاتفي، وقلت: أتفعلُ بي ما تفعل؟! ومع من؛ مع عدوِّك اللَّدود (الفيروس)؟! لألقِنَنَّك درسًا!   وعندها فقدت صوابي، فأخذت على عجل قراري، وقلت قولة العاميِّ المشؤوم: "عليَّ وعلى أعدائي".   فقُمْتُ بعمل (فورمات) أهوجَ، أتى على كل ما في هاتفي، فتركَه كقاعٍ صَفْصفًا، لا ترى فيها عوجًا ولا أَمْتًا، فكنت كالجادعِ مارن أنفه بكفِّه، والحافر قبره بيدِه، ومن لقن نفسَه درسًا لن ينساه.   وفي عصر اليوم نفسِه، وأنا أفكر فيما فعلت، وما الذي صنعت، تذكرت لكن بعد ماذا! قول حبيبي ورسولي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس الشديد بالصُّرعة...))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله وصيةً: ((لا تَغضَبْ))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأشج عبد قيس: ((إن فيك خصلتين يحبُّهما الله ورسوله: الحلم، والأناة)).   وأدركت أن الأمر كما قال الأول: وليس يتمُّ الحلم للمرء راضيًا إذا هو عند السُّخْطِ لم يتحلَّمِ كما لا يتمُّ الحلم للمرء موسرًا إذا هو عند العُسْر لم يتحشَّمِ فقلت: اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها.   وخطر لي خاطر وهو أن أسطِّر تجربتي لأحبتي؛ حتى لا يخطِئوا خطئي، ويقعوا فيما وقعت فيه، ورأيت - وفقنا اللهُ وإياكم للصواب، وجنّبنا وإياكم طريق الخطأ والارتياب - أن أذكر أحبال هذه المعركة الخاسرة؛ نصيحة لي، ولعموم المسلمين حسب ما أوجبه الله عز وجل علينا أولًا؛ ولئلَّا يميل إليه مائل، ولا يصبو إليه مرة أخرى لبيب عاقل.   وليكون في هذا القدر من الكلام في هذا المقال إنذار لمن نظره، وإعذار لمن وقف عليه واعتبره.   كما يحسن في الختام أن أوجز الفوائد التي استفدتها، وأسوق الفرائد التي تعلمتها من هذه المعركة الخاسرة؛ وهي: أولًا: إياك أن تتمنى لقاء عدو كائنًا من كان، ولكن متى ابتليت به، فعليك أن تتحلى بالأناة والصبر، وأن تحسن استخدام الكر والفر، وتعي مواطن الإقدام والإحجام، وأن تثبت عند لقائه.   ثانيًا: أن العجلة والتسرع خُلقان ذميمان وخصلتان قبيحتان؛ لطالما زلّت الأقدام بسببهما، وأن في نقيضيهما التأني والتريث من الخير في العاجلة والآجلة ما لا يعلمها إلا الله عز وجل.   ثالثًا: الحذر من الغضب؛ فإنه لا يُسلِّم صاحبه قطعًا إلى خير لا في الدنيا ولا في الآخرة، وعلينا أن نبتعد عنه في كل أمور ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.   رابعًا: أن على المسلم أن يكون عاقلًا صبورًا، يزن الأمور بموازينها، ويترفع عن النزول إلى سفاسف الأمور، وأن ينطلق من نصوص الشرع في كل أموره؛ فإنه واللهِ من لدن حكيم خبير، وبه قيام أمر الدنيا والدين، ومسكين ومغبون من ظن خلاف ذلك.   خامسًا: أن الرفق في الأمور كلها خير، ومتى ما تنكّب عنه المسلم ندم - ولا بدَّ - لكنه يحتاجُ إلى دربة ودراية، ولا يتأتَّى ذلك لكل أحد، والعاقل من تعلمه، وعمل به، ومارسه، والشقي من جهله، وأعرض عنه.   واللهَ أسأل أن يتوفانا مسلمين، وألا ينزع عنا الإسلام، ولا أخلاقه، ولا آدابه، بعد إذ آتانا عز وجل ذلك بمنِّه، وكرمه ورحمته، وصلى الله وسلم على رسولنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن