أرشيف المقالات

في التاريخ السياسي

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 الدستور الهندي الجديد هل يكون نذير ثورة قومية جديدة لمؤرخ كبير الهند الآن في مفتتح عهد جديد من تاريخها قد يكون بدء استقرار وسكينة، وقد يكون فاتحة مرحلة جديدة من النضال بين الوطنية الهندية وبريطانيا العظمى.
والمسألة الهندية تعود فتشغل الأذهان في الهند وفي إنكلترا، وتستغرق أعظم جانب من اهتمام السياسة البريطانية.
ذلك أن دستور الهند الجديد قد بدئ تطبيقه منذ أول أبريل الجاري، وهو الدستور الذي أقره البرلمان الإنكليزي بعد مناقشات طويلة عنيفة، وصدر في يناير سنة 1935 باسم (قانون حكومة الهند) مؤلفا من أربعمائة وإحدى وخمسين مادة، وخمسة عشر ملحقا على أن يبدأ تطبيقه منذ أول أبريل سنة 1937. وقد اقترن تطبيق الدستور الجديد بحوادث داخلية خطيرة.
ذلك أن الانتخابات التشريعية أجريت طبقاً لنصوص الدستور الجديد في شهر فبراير الماضي، في إحدى عشرة ولاية تضم مجالسها التشريعية 1585 كرسياً، فتقدم لها نحو خمسة آلاف مرشح؛ هذا عدا المجالس التشريعية العليا التي تضم 260 كرسيا؛ وبلغ عدد الناخبين نحو ثلاثين مليونا منهم خمسة ملايين امرأة؛ ففاز حزب المؤتمر الوطني وهو أعظم الأحزاب الهندية وحزب الوطنية المتطرفة، وزعيمه الباندت جواهر لال نهرو بالأغلبية المطلقة في ست ولايات من الإحدى عشرة.
وكان المفهوم أن الحكومة المحلية الجديدة تؤلف من الأغلبية البرلمانية على قاعدة المسئولية الوزارية طبقاً للدستور الجديد؛ ولكن حزب المؤتمر رفض أن يضطلع بأعباء الحكم في الولايات التي فاز فيها.
فلجأت الحكومة البريطانية إلى اختيار أعضاء الحكومات الجديدة بطريق التعيين حسبما نص عليه الدستور أيضا، بيد أن هذا الإجراء لا يمكن أن يعتبر في بداية العهد الجديد حلا موفقا، بل ربما كان بالعكس نذير مرحلة جديدة من النضال بين الوطنية الهندية والسياسة البريطانية وترجع هذه المقاطعة من جانب حزب المؤتمر، حسبما صرح وزير الهند اللورد زنلاند مجلس اللوردات إلى ما طلبه حزب المؤتمر من ضمانات خاصة لتولي أعباء الحكم؛ خلاصتها أن يتعهد الحاكم بأن يتبع مشورة وزرائه وألا يخالف القرارات الدستورية، وألا يستعمل سلطته الخاصة في التدخل أو الضغط على الوزارة، وهي عهود أبى الحكام أن يقطعوها لحزب المؤتمر.
وترتب على ذلك أن قرر الحزب التنحي عن قبول أعباء الحكم، فخلق بهذا التنحي موقفا في غاية الخطورة والحرج؛ ويتأهب الحزب الآن ليخوض عن طريق المعارضة البرلمانية نضالا عنيفا لا يمكن التنبؤ بعواقبه. والدستور الهندي الجديد هو أقصى مرحلة بلغتها السياسة البريطانية في تحقيق الأماني الهندية في سبيل الحكم الذاتي؛ وكان أول خطوة قطعتها السياسة البريطانية في هذا السبيل سنة 1919، غداة الحرب الكبرى، حينما رأت أن تثيب الهند البريطانية عما قدمت لبريطانيا العظمى من جليل المعاونات في الحرب الكبرى.
ففي ديسمبر سنة 1919، استصدرت الحكومة البريطانية دستور الهند الجديد المعروف بدستور مونتاجو وشلسفورد؛ والأول وزير الهند والثاني نائب الملك في ذلك الحين؛ وبمقتضى هذا الدستور منحت الهند لأول مرة بعض الحقوق والمزايا الدستورية المحدودة؛ فألغى المجلس التشريعي الذي كان خاضعا لرأي نائب الملك، وأنشئت مكانه هيئة تشريعية جديدة تضم هيئتين: الأولى مجلس الدولة والثانية الجمعية التشريعية وتؤلف الأولى من ستين عضوا منهم ستة وعشرون معينون، والثانية من مائة وأربعة وأربعين عضوا منهم أربعون معينون؛ واختصت الحكومة المركزية بالنظر في الشئون السياسية والمالية والدفاع الوطني والإشراف على الإمارات وقصرت مهمة الحكومات المحلية (حكومات الولايات) على معالجة الشئون الإدارية؛ ونص في الدستور الجديد على انه مؤقت وأنه تمهيد لإنشاء الحكم الذاتي، وأنه سيعاد النظر فيه بعد فترة انتقالية قدرت بعشرة أعوام ولكن هذه المنحة الضئيلة كانت صدمة شديدة للأماني الهندية، فاضطرمت الهند من أقصاها إلى أقصاها بفورة قوية من السخط، وظهر مهاتما غاندي في الميدان يذكي ضرام الحركة الوطنية بدعوته إلى المقاطعة السلمية والعصيان المدني، وجازت الهند مرحلة عنيفة من الاضطراب؛ ولجأت السياسة البريطانية إلى وسائل القمع المنظم.
وفي سنة 1928 بدأت اللجنة الدستورية أو لجنة الإصلاح الدستوري التي ألفت برياسة السير جون سيمون مهمتها في درس المسألة الهندية، وكان تألفها تطبيقا لدستور ممونتاجو وشلفورد، إذ نص على إعادة النظر فيه بعد عشرة أعوام، وحددت مهمة اللجنة الجوهرية بما يأتي: أن تبحث في كيفية سير الإدارة الحكومية، ونمو التعليم وتقدم النظم النيابية في الهند البريطانية وما يتعلق بذلك من الشؤون، ثم التقرير عما إذا كان يرغب في تطبيق مبدأ الحكومة الذاتية وإلى أي حد، أو ما إذا كان يجب توسيع أو تعديل أو تقييد مرحلة الحكم الذاتي القائمة، ويدخل في ذلك بحث ما إذا كان يرغب في إنشاء قاعة تشريعية أخرى في المجالس التشريعية المحلية.
واستمرت اللجنة في طوافها ودراستها بالهند مدى أشهر، وانقسم الرأي العام في الهند إزاءها قسمين، فريق يؤيد التعاون معها، وفريق وهو الأغلبية يدعو إلى مقاطعتها.
وفي أواخر سنة 1929 ألقى اللورد ايروين نائب الملك تصريحه المشهور بأن الغاية التي تتوخاها الحكومة البريطانية من الإصلاح الدستوري هي الوصول بالهند إلى مركز الأملاك المستقلة (نظام الدومنيون) فبث هذا التصريح في الحركة القومية روحا جديدا، وأيقنت أنها سائرة إلى الظفر، ونزل غاندي إلى ميدان النضال كرة أخرى، وقام بحملته الشهيرة في سبيل العصيان المدني، وعادت السياسة البريطانية إلى خطة القمع العنيف، وقبض على غاندي وآلاف عدة من أنصاره، ولكن الاضطراب بلغ حدا اضطرت معه السياسة البريطانية إلى التراجع، فتفاوض نائب الملك مع غاندي، وأطلق سراح الزعيم الكبير، واتفق على أن يشهد مؤتمر الهند الذي أُزمع عقده في لندن لبحث المسألة الهندية وأن تلغى حكومة الهند جميع إجراءات القمع التي اتخذتها وفي أثناء ذلك صدر تقرير لجنة سيمون في مجلد ضخم، وفيه بحوث ضافية عن أحوال الهند الاجتماعية والطائفية.
وخلاصة رأي اللجنة هو أن تجربة الإصلاح الدستوري مدى الأعوام العشرة ليست كافية لتقرير الخطة الدستورية الملائمة، وإن الشعب الهندي، نظراً لظروفه الجنسية والطائفية، وما يفرق بين عناصره من اختلافات عميقة في الدين واللغة والتقاليد والعادات والخواص، ليس أهلاً للتمتع بحكومة ذاتية مسؤولة؛ وأما فيما يتعلق بالتوصيات، فقد أوصت اللجنة بعدة إصلاحات نظامية وإدارية خلاصتها أن تعتبر الهند البريطانية دولة متحدة قوامها الولايات، وأن تعدل حدود الأقاليم الحالية، وأن يمنح حق الانتخاب لبعض الطبقات بشروط معينة، وأن يستبقى المبدأ الطائفي في توزيع الدوائر الانتخابية، وأن تفصل ولاية بورما عن الهند لأنها تكون وحدة مستقلة، وبعض توصيات ثانوية أخرى لإصلاح التعليم والنظم الإدارية.
وهكذا جاءت توصيات لجنة سيمون ضربة جديدة للأماني الهندية القومية؛ بيد أن الحكومة البريطانية أشارت يومئذ إلى أن توصيات اللجنة لا تخرج عن الآراء الاستشارية، وإن مسألة الهند برمتها ستبحث في المؤتمر الخاص بذلك؛ وعاون اللورد ايروين بتصريحه بأن الحكومة البريطانية تبغي بالإصلاح الدستوري أن تصل بالهند إلى مركز (الدومنيون)، على تهدئة الرأي العام والتمهيد لعقد المؤتمر في نوع من التفاهم والوئام. وفي أكتوبر سنة 1930 عقد مؤتمر الهند المعروف بمؤتمر المائدة المستديرة في لندن، وشهده غاندي ممثلا للهند مع عدد كبير من الزعماء الهنود يمثلون مختلف الطوائف والأحزاب.
ولكن المؤتمر عقد في جو من الاضطراب والخلاف.
وانشق ممثلو الهند على أنفسهم في المسألة الطائفية.
فرأى غاندي أن يتمسك بالانتخاب المطلق، ورأى المسلمون أن يحتفظوا بالحقوق والنسب الطائفية.
ولما اشتد الجدل والخلاف، وعجز المؤتمر عن الوصول إلى اتفاق شامل، أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستتناول الأمر بيدها ما دام الهنود أنفسهم لم يتفقوا وهكذا استعادت الحكومة البريطانية حريتها في العمل، واتخذت تقرير لجنة سيمون ومقترحاتها أساسا لوضع الدستور الهندي الجديد؛ وصدر قانون الهند الجديد في يناير سنة 1935 بعد مباحثات ومفاوضات شاقة بين الحكومة والأحزاب، وبعد مناقشات عنيفة داخل البرلمان وخارجه، وبدئ بتطبيقه في الهند البريطانية منذ أول أبريل سنة 1937 حسبما نص فيه؛ فغدت الهند دولة اتحادية، واستقلت ولاية بورما بشئونها، وأجريت الانتخابات الأولى طبقا للدستور الجديد حسبما قدمنا وقد شرح نائب الملك اللورد لنلثجو مذ كان رئيسا للجنة الهند قواعد الدستور الجديد في بيان رسمي جاء فيه: (يقضي النظام الحالي بأن تشرف الحكومة المركزية على أعمال الحكومات المحلية وتراقبها.
ولكن الدستور الجديد يرفع هذا الإشراف، وتغدو الحكومات المحلية مستقلة في معظم شئونها، ويتمتع السكان بحكوماتهم المسئولة.
أما الحكومة المركزية الجديدة فسوف تغدو حكومة اتحادية (بيد أن الحكومة المركزية تحتفظ بالنظر في مسألة الدفاع عن البلاد وفي مسائل السياسة الخارجية، وليس لوزرائها أن ينصحوها في هذه الشئون.
كذلك يعتبر كل حاكم ولاية مسئولا عن حفظ الأمن والنظام في ولايته، وله الحق في أن يتخذ ما يجب من الإجراءات الضرورية دون رأي وزرائه) (وسيتلقى حاكم الولاية التعليمات مباشرة من وزير الهند، كما يتلقى التعليمات من الحكومة المركزية.
وهكذا نستطيع أن نقول أن الولايات الهندية ستحكم طبقا لآراء الوزراء الهنود المسئولين أمام البرلمانات المنتخبة، ماعدا بعض مسائل خاصة تبقى خاضعة لإشراف البرلمان الإنكليزي) والآن يطبق الدستور الجديد في ظروف دقيقة ويقف حزب المؤتمر الوطني بعد ظفره بالأغلبية البرلمانية المطلقة في الولايات الست موقف المعارضة.
ولقد أعلن زعيم الحزب الباندت نهرو قبيل بدء الانتخابات إن حزبه يعارض الدستور الجديد منذ البداية، وإنه يخوض الانتخابات لا لكي يتعاون مع الحكومة، ولكن لكي يستعين على محاربتها بالأغلبية البرلمانية؛ وقد نفذ الحزب وعيده فأبى أن يضطلع بأعباء الحكم في الولايات الست لأنه لم يحصل على الضمانات المطلوبة، واضطرت السلطة التنفيذية أن تقيم حكومات من عندها؛ وبذا يشل تطبيق الدستور الجديد منذ الساعة الأولى.
والمعارضة تقوى كل يوم وتشتد؛ فماذا تزمع السياسة البريطانية أن تفعل؟ إن السياسة البريطانية لابد أن تجد لها مخرجا من هذا المأزق سواء بالتفاهم والمفاوضة، أو بالمضي في تجاهل المعارضة وتحديها؛ بيد إنها سوف تؤثر خطة اللين بلا ريب؛ وقد رأت السياسة البريطانية أن تقف في تحقيق الأماني الهندية في سبيل الحكم الذاتي عند هذا الحد المتواضع بعد أن لوحت للهند أبان اضطرام الحركة الوطنية، بأمنية الاستقلال الذاتي.
أما اليوم وقد خبت الحركة الوطنية، وسرى إليها التفرق والوهن، فإن الهند لا تستطيع أن تطمح إلى نيل المزيد دون أن تخوض مرحلة جديدة من النضال. (مؤرخ)

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣