أرشيف المقالات

موانع قبول الحق والعمل به (3) الصحبة السيئة

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2موانع قبول الحق والعمل به (3) الصحبة السيئة   الحمد لله عز وجل على آلائه الجُلَّى، مما تناءَى وتدانَى، وأشكره على ما خَصَّ من نِعم تتوالى ولا تتوانى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد عبدِ الله ورسوله أزكَى البرية أَرُومةً وجَنانًا، وأوثقِها حجةً وأبلغِها بيانًا، وعلى آله الذين لم يَثنوا دون المعالي عِنانًا، وصحبه بُدور الحق الساطع عِيانًا، ومن اقتفى أثرهم بإحسان يرجو من المولى رحمةً ورضوانًا؛ أما بعد: فتقدم معنا في (سلسلة موانع قَبول الحق والعمل به) الحلقةُ الأولى؛ وذكرنا فيها المانع الأول من موانعه، وهو: الجهل به، والحلقةُ الثانية؛ وذكرنا فيها المانع الثاني، وهو: الحسد، ونقف في هذه الحلقة الثالثة مع المانع الثالث.   المانع الثالث: الصحبة السيئة: يقول الله عز وجل: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 - 29].   والمعنى: واذكر - أيها العاقل - يوم القيامة وما فيه من شدة وكروب، ومزعجات للقلوب، وجزاء وحساب، وعقاب وثواب؛ فإنه في ذلك اليوم يَعَضُّ الظالم - الذي صُرِف عن الحق ومواعظه؛ بسبب الصحبة السيئة كما في أحد أقوال أهل التحقيق من المفسرين - على يديه؛ وعضُّ اليدين هنا كناية عن شدة الحسرة والندامة والغيظ؛ لأن النادم إذا تملَّكته الندامة، عض يديه من الحسرة والملامة، وليس أحد أشد ندمًا يوم القيامة ممَّن عادى الحق وأهله وأنصحَ الناسِ له، وأبرَّهم وأرفقَهم به؛ لِيُواليَ مَن لا تنفعه ولا تفيده ولايته إلَّا الشقاء والخسار، والخزي والبوار.
ذلك الشقيُّ الذي يزيِّن له الباطل ويدعوه إليه، ويقبِّح له الحق ويصرفه عنه، ومع هذا فهو في ذلك اليوم يتخلى عنه ويتبرأ منه، فلا عذر - والحالة هذه - لهذا وأمثاله، الذين كان سببُ إعراضهم عن الحق وصدهم عنه صحبةَ السوء ورفقة الشر.
فتأمل معي هذا السياق لهذه الآيات، تجده في غاية الروعة والبيان، والبلاغة والإحسان، يلامس زَجْرها القلوب فلَكأنَّه سوط يقرعها، ويرفرف صداه على العقول فلَكأنَّه إصبع ينقرها، فهل من متعظ؟!
ولذلك؛ فأقوال العلماء المحققين مِن أهل التفسير في هذه الآية راجعة إلى شيء واحد وإن اختلفت عباراتهم، وهو أن المُعرِض عن الحق إذا احتُضِر وعايَن الحقيقة تمنَّى أنَّه كان انقاد له، وأسلس له قيادَه، ولمَّا كان صنيعُهم عدمَ الاستسلام للحق، عاقبهم الله عز وجل بالحسرة يوم القيامة؛ التي مَن يُجنَّب عنها في ذلك اليوم ينَلْ أعظم المكاسب والهبات، وأعظم المفاوز والأعطيات، وهذه لا يُعطاها ألبتة إلا مَن اتَّبع الحق ولم ينْأَ عنه لأي خلة كانت، أو لأي سبب كان.
وقديمًا أنشد بعض الحكماء: تجنَّب قرينَ السوء واصرِمْ حِبالَهُ فإن لم تَجد عنه مَحيصًا فَدَارِهِ وأحبِبْ حبيبَ الصدق واحذَرْ مِراءَهُ تَنَلْ منه صَفْوَ الوُدِّ ما لم تُمارِهِ وفي الشَّيْب ما يَنهى الحليمَ عن الصبا إذا اشتعلَتْ نيرانُه في عِذَارِهِ   سبب نزول الآية: والمشهور عند علماء التفسير أنَّ الظالم الذي نزلت فيه هذه الآية، هو عُقبة بن أبي مُعَيْط، وأن فلانًا الذي أضلَّه عن الذِّكر أميةُ بن خلَف، أو أخوه أُبَيُّ بن خلَف.   ولا بأس من أن أسوقها هنا للفائدة: روى ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ أبا مُعَيْط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة لا يؤذيه، وكان رجلًا حليمًا، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذَوْه، وكان لأبي معيط خليلٌ غائبٌ عنه بالشام، فقالت قريش: "صبَأ أبو معيط"، وقَدِمَ خليله من الشام ليلًا، فقال لامرأته: "ما فعل محمد مما كان عليه؟"، فقالت: "أشد مما كان أمرًا"، فقال: "ما فعل خليلي أبو معيط؟"، فقالت: "صبأ"، فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحيَّاه، فلم يرد عليه التحية، فقال: "ما لك لا ترد عليَّ تحيتي؟"، فقال:" كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟"، قال: "أوَ قد فعلَتْها قريش؟"، قال: "نعم"، قال: "فما يبرئ صدورهم إنْ أنا فعلت؟"، قال: "تأتِيه في مجلسه وتَبْزُق في وجهه وتَشْتِمه بأخبث ما تعلمه من الشتم"، ففعل، فلم يَزِدِ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أنْ مسح وجهه من البزاق، ثم التفَتَ إليه فقال: "إن وجدتُك خارجًا من جبال مكة أضرب عنقك صبرًا"، فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: "اخرج معنا"، قال: "قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجًا من جبال مكة، أن يضرب عنقي صبرًا"، فقالوا: "لك جَمَل أحمر لا يُدرَك؛ فلو كانت الهزيمة طِرْتَ عليه"، فخرجَ معهم، فلما هزم الله المشركين وَحِلَ به جملُه في جَدَدٍ من الأرض، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسيرًا في سبعين من قريش، وقَدِمَ إليه أبو معيط فقال: "تقتلني مِن بين هؤلاء؟"، قال: ((نعم؛ بما بَزَقْتَ في وجهي))، فأنزل الله في أبي معيط: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾ [الفرقان: 27] إلى قوله: ﴿ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 29][1].
وسواء كان سبب نزول هذه الآية عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء، فإنها ولا بد عامَّة في كل ظالم رَكَنَ إلى الصحبة السيئة، وحَادَ عن النهج القويم الحق، فكلهم يندم يوم القيامة غاية الندم، ويَعَض على يديه من الألم، ولات ساعةَ مَنْدَم، ومِن هنا يَعلَم العاقل اللبيب، والفطنُ الأريب، وُجوبَ لزوم غَرْز الحق واتِّباعه، وألا يحيد عنه لِقول أحد كائنًا مَن كان.   ومن الأدلة على ذلك أيضًا: ما جاء عن المسيب بن حزن رضي الله عنه أنه قال: "لما حضرَتْ أبا طالب الوفاةُ؛ جاءه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجد عنده أبا جهل، وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا عم، إنك أعظم الناس عليَّ حقًّا، وأحسنهم عندي يدًا، ولَأنت أعظم عليَّ حقًّا من والدي؛ فقل: "لا إله إلا الله"، كلمة أشهد لك بها عند الله))، فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية: "يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبدالمطلب؟"، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلَّمَهم: هو على ملة عبدالمطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، قال: لولا أن تعيِّرني قريش؛ يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررتُ بها عينك!
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أمَا والله لأستغفرنَّ لك، ما لم أُنْهَ عنك))؛ فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون، فأنزل الله عز وجل: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]، وأنزل الله في أبي طالب: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56][2].   فانظر إلى قول أبي جهل وعبدالله بن أبي أمية: "يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبدالمطلب؟"، تعلم خطورة رفقة السوء، وأنَّ قَوْلتهم القبيحة تلك كانت سببًا في إعراض أبي طالب عن الحق؛ ولذلك مات على الشِّرك بلا شك ولا ريب.   ويُجلِّي بوضوح خطورة هذا المانع وحيلولته دون قبول الحق أنَّ عمَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا طالب كان مُصدِّقًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلم أنَّ الحق معه، كيف لا وهو القائل: والله لن يَصِلُوا إليكَ بجَمْعِهمْ حتى أُوَسَّدَ في التراب دَفِينَا ودعَوْتَني وعَلِمتُ أنك ناصِحِي فلقد صدَقْتَ وكنتَ فينا أَمِينَا وعرضتَ دينًا قد عرَفتُ بأنه مِن خير أديان البريَّة دِينَا لولا الملامة أو حِذاري سُبَّةً لَوجدتَني سَمْحًا بذاك مُبِينَا   ولكن رفقة السوء منعته وهو على فراش الموت مِن قبول الحق.   فعجبًا! أي شيء فعلَتْ رفقة السوء بشيخ كبير قد رقَّ عظمه، وضعف جسده، وحانت مَنِيَّته - مع حكمته وحنكته - مِن قبول الحق واتِّباعه، وكيف وقفَتْ هذه الرفقة حائلًا بينه وبين الهداية؟! فنعوذ بالله من هذا الحال، وسوء المآل.   بل يُبيِّن الأمر بوضوح وجلاء، وتُعرف معه خطورة أهل السوء من الأخِلَّاء، وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جانبه وحرصه عليه، مع مبالغته صلى الله عليه وآله وسلم وتكريره، فلكأنه باخع نفسه أن لا يكون آمَنَ، إلَّا أنَّ أقدار الله عز وجل تمشي كيفما شاء عز وجل، فمن ذا الذي يأمن على نفسه بعدُ البلاءَ؟! فيا لهذه الداهية الدهياء!   وبهذا نختم هذه الحلقة الثالثة من سلسلة (موانع قبول الحق والعمل به)، وقد وقفنا فيها مع المانع الثالث، وهو الصحبة السيئة، وسنقف بإذن الله عز وجل في الحلقة الرابعة من هذه السلسلة مع المانع الرابع، وهو الكِبْر.   وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


[1] أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل، وصححه الشيخ الألباني في صحيح السيرة النبوية (ص: 200 - 205)، وهذا مما توقف فيه شيخنا في الصحيح المسند من أسباب النزول (ص: 172 - 173). [2] أخرجه البخاري (3 / 173 - 7 / 154 - 8 / 274، 410، 411)، ومسلم، والنسائي (1 / 286)، وأحمد (5 / 433)، وابن جرير في تفسيره (11 / 27)، والسياق له وكذا مسلم، والزيادة الثانية له في بعض الأصول، كما ذكره الحافظ عن القرطبي، ويشهد لها رواية البخاري وغيره بمعناها، ووردت القصة من حديث أبي هريرة باختصار عند مسلم والترمذي، انظر للفائدة أحكام الجنائز؛ للألباني (ص: 95).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١