تفريط الاتحاديين بحقوق الدولة
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
في خليج فارس والعراق والطرف الشرقي من جزيرة العرب
والتزلف بذلك إلى إنكلترة
إن خليج فارس وشط العرب وبلاد العراق وما يتصل بها من البلاد العربية
خير للدولة العثمانية من الآستانة وما يتصل بها من البلاد الأوربية، ولكن رجال
الدولة وجمهور المتعلمين منهم في مدارس الآستانة مفتونون بعظمة القسطنطينية
ومقامها التاريخي وموقعها الجغرافي ويعدون دولتهم ما دامت هنالك دولة أوربية،
وإن لم يجنوا من هذا الموقع، وهذه النسبة إلا النكال والوبال، والسلاسل
والأغلال، بل فقد الاستقلال وهم مع كل ما أصابهم من الشقاء والخسار في فتح هذه
البلاد الأوربية، ثم في ترك معظمها لا يزالون يعدون بقاءهم في قطعة أرض منها
على شفا من طرف مملكتهم علوًّا وعظمة، وإن كان على حد المثل العامي: علو
ولو على خازوق.
ولو عمرت الدولة تلك البلاد لكان لها منها ثروة تغنيها عن أوربة وتجعلها
دولة آسيوية قوية عزيزة كاليابان بل أهم من اليابان؛ لأنها القلب الذي يصل
الشرق بالغرب.
من المعلوم بالضرورة من السياسة الأوربية الحاضرة أن الدول الكبرى انفرقن
إلى فريقين عظيمين؛ بتنازع إنكلترة وألمانية الأولوية في سيادة العالم، وما أظهر
هذا التنافس والتنازع بينهما إلا سكة حديد بغداد: التي منحتها الدولة العثمانية
للألمانيين، فأقامت بذلك قيامة إنكلترة عليهما وحملتها على موالاة الروسية
ومواتاتها على ما تريد من العثمانية ومن إيران، على معارضتها في إيصال
الألمانيين سكتهم إلى شط العرب أو خليج فارس، فهذا الموقع العثماني العظيم الذي
غير سياسة العالم القديم، وجر على العثمانية والإيرانية الرجز الأليم، لا قيمة له
في نفس ساسة الآستانة، حتى كان من هوانه عليهم ما عهدت به جمعية الاتحاد
والترقي إلى مندوبها حقي باشا الذي أعطته إضاعة طرابلس الغرب مهارة عملية،
في إضاعة الممالك العربية، وذلك أنها أرسلته إلى أوربة ليستميل إليها الدول بما
يبذله لهن من المصالح والحقوق في البلاد العربية العثمانية، تحقيقًا لقول من قال
منهم لبعض أبناء العرب في الآستانة: إنا نبيعكم ونرقي أنفسنا بثمنكم.
بدأ حقي باشا الماهر بأن بذل لإنكلترة منتهى ما تسعى إليه إنكلترة من زمن
طويل في شرق البلاد العربية، بذل لها حقوق الدولة في شط العرب وخليج فارس
وشرقي الجزيرة العربية، وهي تعمل عملها وتمد نفوذها في غربيها وجنوبيها
لتحيط بها من جميع أطرافها، ووالله إنه لو بذل لها الآستانة وما بقي للدولة في
أوربة كله واستبقى ما بذل، لما كان إلا باذلاً الذي هو أدنى ومستبقيًا الذي هو خير.
وإننا قبل بيان ذلك ننشر نبذة لجريدة التيمس من مكاتبها في الآستانة عن مصالح
إنكلترة في البلاد العربية وهي:
كلام التيمس في حقوق إنكلترة في بلاد العرب:
إن اهتمام إنكلترة بما يحدث في البلاد العربية لهو أعظم أهمية مما يتصوره
الناس، فقد استولينا على عدن ولنا حق الحماية على كثير من الزعماء والقبائل في
الداخلية فضلاً عن سلطتنا على أمير عظيم الشأن وهو سلطان لحج ولنا فوق ذلك
نفوذ الحماية على ساحل البلاد العربية الجنوبي إلى عمان ومصالحنا أعظم من
مصالح سوانا وهي مؤيدة بالمعاهدات.
ثم إن زعماء العربان في ساحل القرصان على الخليج العجمي هم تحت
حمايتنا، وتوجد علاقات خاصة بيننا وبين شيخ الكويت وهو عامل عظيم في
سياسة الأعراب، وبذلك نجد أن نصف السواحل العربية كائن فعلاً ومباشرة تحت
نفوذ إنكلترة؛ ولذلك قد تكون الأحوال هناك أحيانًا ذات أهمية خاصة لإنكلترة.
أما عدن بالذات فإنها الآن في شغل داخلي شاغل فقد أدخل فيها مشروع جديد
للضرائب، والغاية منه سد نفقات تحسين المياه، ومنع ذوي السوابق من الدخول
إليها.
هذا المشروع قد أحدث شيئًا من الانقسام والخلاف، وهناك مشروع آخر تحت
النظر لإنشاء ترام بخاري من تواهي إلى الشيخ عثمان، أما تجارة عدن فلا تتقدم
والمناظرة شديدة بينها وبين جيبوتي والحديدة ولا يتيسر لعدن الحصول على نصيبها
من تجارة الداخلية إلا إذا وجدت المواصلات بينها وبين داخلية اليمن، والأحوال
هناك ليست على ما يرام، فالقبائل في نزاع دائم إحداها مع الأخرى، وجميعها مع
الأتراك، والقبائل الموجودة تحت حمايتنا تحارب القبائل الكائنة في آسية تحت
حماية الدولة العثمانية، والجيش العثماني يحارب أتباع إمام صنعاء، وحقيقة الأمر
أن الأتراك لم يستولوا فعلا على اليمن ولم يحسنوا الولاية على القسم الذي
يملكونه.
أما في الساحل الغربي الجنوبي فإن سلطان مكللا الكائن تحت حماية
إنكلترة قد حارب أخيرًا في بلاد حضرموت وهو يزحف على خصومه على أنه لا
يملك إلا ألف مقاتل؛ فلا أهمية لغزواته، والناس لا يعلمون شيئًا عما يحدث في
داخلية البلاد العربية يوميًّا من الغزو والحروب والخلاف الدائم مع أن البلاد العربية
أنجبت فيما مضى رجلاً حمل أتباعه السيف والدين فدخلوا القارات الثلاث ومع أنه
لا ينتظر أن تنجب مثل هذا الرجل فيما بعد؛ فلا يبعد أن تكون عاملاً خطيرًا في
سياسة العالم.
وتكلم المكاتب عن الخلاف القائم بين ابن سعود وابن الرشيد وختم مقالته
بقوله: لئن كان هؤلاء المتحاربون في ظاهر الأمر لا يهمون إنكلترة فربما استطاعوا
يومًا ما بطرق مختلفة أن يؤثروا في مركزنا في خليج العجم المتصل اتصالاً تامًّا
بسلطتنا على الهند. اهـ. هذا ما كتبته جريدة التيمس لسان حال حكومتها في إثر ما كتبته عن حقوق دولتها أو مصالحها في مصر، فهل تجهل حكومتنا العثمانية هذا أم تعرفه وتريد أن تحقق آمال إنكلترة وتنيلها مآربها في البلاد العربية في مدة أقصر مما قدره ساستها لذلك؟ وما هو حظ الدولة من ذلك؟ نحن نعلم كما يعلم كل واقف على السياسة وسير الأمم والدول أن الإنكليز قد مدوا أعينهم فأصابعهم إلى خليج عمان وخليج فارس وشط العرب والعراق منذ ثلاثة قرون، ولكنهم كانوا ينظرون إلى تلك المعاهد خلسة، ويحركون أصابعهم فيها خفية، وما زاد اهتمامهم في الأمر إلا توجه نابليون بونابرت الكبير الهمة الواسع الفكر والطمع إلى سلوك طريق الإسكندر المكدوني ووصل الشرق بالغرب، وإنما هو طريق العراق وذلك الخليج، ومنذ قضى دهاة الأرض وأقطاب سياستها على نابليون ومطامعه جميعًا طفقوا ينفذون مقاصده لأنفسهم بالتؤدة واغتنام الفرص كعادتهم، فاحتلوا مصر بعد إخراجه منها بنحو ثلاثة أرباع القرن. ويظهر أن دولتنا سهلت لهم أن يتمموا الأمر كله في مثل هذه المدة، وكان من حسن حظهم أن سياسة عبد الحميد الخرقاء مكنت لهم في أرض مصر ثم أرادت أن توجد لهم خصما قويًّا في العراق ومنفذه البحري إلى الهند فأعطت امتياز سكة بغداد للألمان وأضرمت نار العداء والتنافس بينهم وبين الإنكليز؛ لمعارضة هؤلاء في مدها ومشايعة الفرنسيين لهم؛ وبيد الفريقين معظم ثروة أوربة. وكانت الدولة العثمانية ولا تزال ترى أن حياتها متعلقة بتنازع دول أوربة الكبرى على المصالح والمنافع فيها، بل كانت محصورة في تنازع إنكلترة وروسية، فأزال هذا التنازع عبد الحميد بسوء سياسته ولكنه استبدل به التنازع بين إنكلترة وألمانية، فجاء بعده الاتحاديون فكانوا شرًّا منه وممن قبله وبعده سياسة؛ لأنهم بما عقدوه من الاتفاق في هذه الأيام بين مندوبهم حقي باشا والحكومة الإنكليزية قد أزالوا هذا التنازع أيضًا، فأزالوا به كل عقبة تحول بين الدول وبين اقتسام بلادهم، ويظن أعداء العرب منهم أنهم بذلوا أهم مواقع البلاد العربية وسلمت لهم الأناضول التركية، ولكن هيهات هيهات، إن عبد الحميد حفر اللغم تحت بلاد الأناضول، والاتحاديون وضعوا فيه البارود وأضرموا فيه النار. * * * وإننا ننشر الآن مواد الاتفاق بين إنكلترة وتركية ثم الآراء فيه، وهذه ترجمته: مواد الاتفاق بين إنكلترة وتركية 1- تعترف الحكومة الإنكليزية بحقوق الدولة العثمانية على قضاء الكويت. 2- تتنازل الدولة العلية عن إدارة شئون هذا القضاء الداخلية إلى حكومة إنكلترة وتعترف بالاتفاق الذي تم مع شيخ الكويت وما له أن لإنكلترة حق التصرف في مسائل الكويت الخارجية. 3- تتنازل الدولة العلية عن جميع حقوقها في جزيرة قطر وتفوض إلى إنكلترة إدارتها وإنشاء الفنارات والمحافظة على الأمن في خليج البصرة. 4- تكتفي إنكلترة بمد سكة الحديد إلى البصرة فقط، وتترك الحق في مدها إلى الكويت لإدارة سكة حديد بغداد، وإنما تطلب تعيين مديرين من الإنكليز في إدارة الشركة المذكورة. 5- يصادق لإنكلترة على امتيازاتها في نهري دجلة والفرات وعلى تأمين متاجرها في البلاد العربية، وفي رواية: ضبط الأمن فيه. 6- تؤلف لجنة مختلطة من العثمانيين والإنكليز لتسيير السفن وتطهير الأنهر وإنشاء الفنارات على شط العرب؛ وتكون الهيئتان: الفنية والتفتيشية، من أعضاء هذه اللجنة من الإنكليز الاختصاصيين. 7- تحفظ حقوق أمير المحمرة على المحمرة. 8- تسوى الحدود العثمانية الإيرانية في أقرب آنٍ. 9- تتنازل الحكومة العثمانية عن حق مراقبتها على القروض المصرية. هكذا ذكرت المواد في بعض الجرائد، وزاد بعضها حقوقًا أخرى لإنكلترة وأدمج في بعض المواد ما ذكر هنا في غيرها، ومن الزيادة ما هو فيه من قبيل الشرح والتفصيل كإدخال جزيرة البحرين أو جميع الجزر هنالك في دائرة نفوذ الإنكليز بحيث صارت جميع مغاوص اللؤلؤ في يدهم، وهي التي لم تقدر الدولة أن تستفيد منها شيئًا لجهل رجالها واحتقارهم للعرب واتخاذهم أعداء لهم. ومن الزايادات التي زادها بعضهم إطالة امتياز شركة بواخر لنش أولنج الإنكليزية في شط العرب والدجلة والفرات وبيع البواخر العثمانية لها حتى لا يبقى في مياه العراق للعثمانيين تجارة ولا بريد إلا وهو في قبضة الإنكليز، ومنها إعطاء حق استخراج المعادن وزيت البترول في العراق إلى شركة إنكليزية، ومن اطلع على ما جرت عليه إنكلترة حديثًا من استعمال زيت البترول في تسيير سفنها الحربيةِ يعلم أن البترول سيرتفع ثمنه وتكون تجارته من أهم تجارات الأرض. وجملة القول أن في شط العرب وخليج فارس والعراق وما جاوره من بلاد العرب من ينابيع الثروة ما لا يوجد مثله، ولا ما يقاربه في غيرها من بلاد الدولة، ولا بلاد غيرها؛ وناهيك بمكانة المكان الجغرافية والطبيعية والحربية والتجارية، فخليج الكويت القاحلة خير من خليج الآستانة، فإن سمي هذا قرن الذهب ولا ذهب فيه ولا فضة، فجدير بذلك أن يسمى خليج اللؤلؤ واللؤلؤ أثمن من الذهب. وقد وهبت الدولة حقوقها العظيمة في تلك البقاع البرية البحرية النهرية للإنكليز في مقابلة وعدها إياها بالمساعدة على زيادة رسوم الجمرك وما تبغيه من عقد الفروض وبيع الامتيازات والأراضي في أوربة واشتراء السفن ونحو ذلك، أعطت أثمن ما عندها نقدًا رجاء أن تُسَاعد نسيئة على شيء مبهم هو مهما عظم أحقر من أحقر ما بذلت! ! للكلام بقية ((يتبع بمقال تالٍ))