الاحتفال لتذكار تأسيس الدولة العلية
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
نرى الأوربيين في مصر يحتفلون في كل عام احتفالات عمومية لدولهم؛
أهمها الاحتفال للجمهورية الفرنسية، والاحتفال لاستقلال إيطاليا وإن لهم في بلادهم
من العناية بذلك أضعاف ما نرى منهم في بلادنا حتى إنهم ليحتفلون للرجال العظماء
الذين خدموا الأمة خدمة جليلة. وبلاد مصر عثمانية؛ ولكنها مستقلة عن الدولة في إدارتها وعامة شؤونها، وقد زال على عهد الاحتلال أكثر ما يذكِّر المصريين بها حتى لغتها؛ فقد كانت التركية إلزامية في مدارس الحكومة المصرية ثم صارت اختيارية ثم اضمحلت وتلاشت. وقد استحسن نفر من نجباء الترك المقيمين في القاهرة أن يحتفلوا في كل سنة بتذكار تأسيس الدولة العثمانية وتكونها في مثل الوقت الذي نودي فيه بعثمان الأول سلطانًا وكان ذلك في 4 جُمَادَى الأولى سنة 699 للهجرة الشريفة الموافق 17 يناير سنة 1300 ميلادية، وقد جعلوا هذا الاحتفال الأول على الحساب الميلادي، ولا أدري أكان ذلك عن اختيار للحساب الميلادي؛ لأنه بالأشهر الشمسية أم السبب فيه أن الفكر أو العزم على الاحتفال كان متأخرًا؟ والرأي الذي لا ينبغي التردد فيه أن يكون الاحتفال بعد هذا العام على الحساب الهجري. تألفت لجنة في إدارة جريدة (ترك) لأجل هذا الاحتفال فوضعت اللجنة قانونًا لتأسيس جمعية خيرية للعثمانيين الذين ليس لهم جمعيات خيرية في مصر؛ وهم المسلمون على اختلاف شعوبهم ولغاتهم فإن للنصارى العثمانيين جمعيات كثيرة منها عدة جمعيات للسوريين خاصة: واحدة للموارنة وواحدة للروم الأرثوذكس وواحدة للروم الكاثوليك.
والسبب في ذلك أن المسلمين متأخرون عن جميع أبناء الملل في الأعمال الاجتماعية، حتى إن مسلمي مصر لم توجد لهم جمعية خيرية إلا من عهد قريب، وكان سبب إيجادها مشعوذ إفرنجي. ولكن قيض الله تعالى لها أفضل رجال مصر في هذا العصر خلقًا وهمةً فثبتت بثباتهم على شدة سعي المسلمين أنفسهم في إسقاطها، ولو لم يكن لها مورد إلا من اشتراك المشتركين فيها لسقطت من زمن طويل فإن الرجل الغني يشترك فيها، وتمر عليه السنون الطوال، ولا يدفع المبلغ الذي تبرع به وفرضه على نفسه.
هذا وهم يرون كثرة الجمعيات المسيحية ويساعدونها.
وقد قضت الصعوبات التي مارسها الذين نهضوا بهذه الجمعية والوشايات التي وجهت إليها من المسلمين - ومنها اتهامهم بأنهم يساعدون مهدي السودان في وقته - أن يجعلوها خاصة بمسلمي مصر فأصبح سائر المسلمين العثمانيين لا ملجأ لمن يصاب منهم أو ينكب في هذه البلاد التي لا تزال أوربا تعترف بأنها عثمانية.
لهذا كان تأسيس جمعية خيرية لمسلمي العثمانيين من أفضل الأعمال الدالة على أن روح الحياة الاجتماعية دبّت في المسلمين؛ أي: في بعضهم، ولكن أعداء أنفسهم من المسلمين سيسعون في إبطال هذه الجمعية، ويتهمونها بمثل ما اتهموا بها أختها المصرية من قبلها، ونسأل الله أن يقيض لها من أهل الجد والثبات ما قيّض للتي قبلها، وأن يهيئ لها أسباب النجاح والفلاح. دعت اللجنة نحو ثمانين رجلاً من العثمانيين من جميع الأجناس إلى فندق الكونتيننتال، وأعدت لهم هناك مأدبة كأحسن ما يؤدب للأمراء والأقيال، وبعد الفراغ من الطعام، افتتح رئيس الحفلة الكلام (هو لطيف باشا سليم) فذكر أن الغرض من الدعوة قد عرف من الرقاع التي أرسلت إلى المدعوين؛ وقال: إنه دعي إلى رياسة الاحتفال الحاضر، ولا يدري السبب في ذلك ثم تكلم كلامًا وجيزًا في سبب ترك مثل هذا الاحتفال في الأحقاب الماضية، والسنين الخالية، أيام عز الدولة ومجدها، وبزوغ شمس سعدها، والقيام به في مثل هذه الأيام، وقد انحطت الدولة في نظر الأنام، فقال ما خلاصته: إن الذي يسبق إلى الأفهام أن الاحتفال باستقلال الدولة العلية الآن ينطبق على المثل (بعد خراب البصرة) فإن هذه الدولة التي أسسها قوم ساقهم حب المعالي إلى إذلال الأمم ودوس هام الدول بسنابك خيولهم فأقاموها بالقوة القاهرة والسيوف الباترة قد وصلت إلى درجة من المجد والفخر، لا تعلوها درجة ولم يحتفل في أيام عزها أحد بتذكار استقلالها.
ثم طرأ عليها الترف والفساد فضعفت وانحطت وقامت دول الغرب تهددها بالمحو والانقراض - وذكر من مجد دول الغرب وتقدمها - وفي هذه الحالة التي نرى فيها الدولة في النزع نحتفل بتذكار استقلالها.
ألا يصح أن يقال: إن هذا (بعد خراب البصرة) . (قال) ماذا نريد بهذا الاحتفال الآن؟ هل نريد أن نفتخر بمجد مضى وانقضى ونغش أنفسنا، ونخدعها بما لا يغني عن ضعفنا شيئًا؟ أم نريد أن نرثي الدولة ونؤبّنها، ونبكي على عزها ومجدها؟ ثم قال: إنه لا يريد أن يسيء الحاضرين، ويوقعهم في اليأس فإنه يوجد في العثمانيين الآن من الفصحاء وأصحاب الأقلام مَن يرجى فيهم الخير للدولة.
وختم كلامه بقوله: إنه قد أسست في القاهرة جمعية خيرية وأشار إلى قانونها بين يديه وأن جمعية الاحتفال عهدت إليه بأن يكلف جلال الدين بك عارف بإلقاء خطبة تركية وصاحب المنار بخطبة عربية.
فقام جلال الدين بك فتلا خطابًا مسهبًا مكتوبًا في ورقات صفق له القوم في أثنائه مرارًا.
ثم قام هذا العاجز منشئ المنار وخطب خطبة عربية ارتجالية سَرَّ العثمانيين عامة، والمصريين منهم خاصة اعتدالُها واختتامُها بالدعاء للسلطان عبد الحميد أيد الله دولته ولم يذكر اسم الرئيس والخطيب التركي. وقد لخصت بعض الجرائد الخطبة فرأينا أن ننقل تلخيص جريدة الراوي؛ لأنه لم يكد يغادر من الأفكار الأٍساسية التي قلناها شيئًا مهمًا إلا قولنا: إن العثمانيين أنشؤوا يشتغلون بتحصيل العلم لما علموا أنه في هذا العصر قوام الدول وأساس القوة؛ لذلك ننقح كلمتين مما جاء في تلك الجريدة ولنا الحق في ذلك؛ لأنه كلامنا وهو: نحتفل اليوم بتذكار استقلال دولتنا العلية العثمانية وقد دعيت إلى الخطابة فرأيت أن أبني على ما قاله سعادة رئيس الاحتفال في فاتحة المقال وهو كلمتان - كلمة في معنى الاحتفال وكلمة في الدولة التي نحتفل لذكرى استقلالها وتكونها: إنما يراد بالاحتفال إحياء الشعور بمجد من يحتفل لأجله والتذكير بتاريخه المجيد، وهل نحن اليوم في حاجة إلى إحياء هذا الشعور وتجديد هذه الذكرى؟ وهل لدولتنا العلية تاريخ مجيد تستحق به أن يحتفل لتذكار تاريخها وتمثيل ماضيها؟ ولماذا لم يسبق للعثمانيين مثل هذا الاحتفال في الزمن الماضي. لا شك أننا اليوم أحوج إلى مثل هذا الاحتفال منا في الزمن الماضي أيام مجد الدولة الأكبر؛ فإن إحياء الشعور بمجد الدولة وتذكّر تاريخها يبعث فينا روح النهوض لتأييد استقلالها، وتدارك ما فرط من خطأ بعض رجالها، وأما سبب تأخيره إلى اليوم فهو أن مثل هذا العمل لم يكن يعهد في بلادنا؛ وإنما هو شيء استفدناه في هذا العصر من الأوروبيين؛ فإننا نرى القوم يحتفلون للتذكير بقيام دولهم وبأعمالهم العظيمة ويحتفلون مثل ذلك لرجالها العظام من الفاتحين وغيرهم. وللدولة العلية العثمانية اسم عظيم في الدول، ولها تاريخ مجيد يحق للعثماني أن يفتخر به، يعلم ذلك من النظر في كيفية تكوينها، ومن سيرتها الحميدة في نشأتها. يذهب الذين لا يعرفون من التاريخ إلا ظواهره إلى أن هذه الدولة قامت بالقوة والقهر، والصواب أنها قامت بالفضيلة؛ فإن تلك الفئة التي جاءت مع أسرة السلطان عثمان الأول من بلاد أرمينيا إلى بلاد الأناطول، ونصرت السلطان علاء الدين السلجوقي وأيدته ثم بنت دولة عظيمة على أطلال دولته بعد سقوطها لم تكن من القوة والكثرة بحيث تملك بلاد الفرس وبلاد الروم وجزءًا عظيمًا من بلاد أوربا. وإننا نعلم أن السلطان محمد الفاتح قد حاصر القسطنطينية العظمى بثلاثمائة رجل ونيف على عدد أهل بدر - رضي الله عنهم - تقريبًا ثم فتحها وهي أمنع مدينة في الأرض وأهلها كانوا أكثر من الترك عَددًا وأحسن عُددًا وأكثر اطلاعًا وعلماءً؛ ولكن العثمانيين كانوا متصفين بالفضائل التي أهمها الاتحاد الذي كان الروم محرومين منه يومئذٍ.
فقد نقل أنهم كانوا يتنازعون في المسائل الدينية والفاتح على أسوار المدينة حتى إن بعض رجال الدين قال: لأن أرى تاج السلطان محمد في مذبح كنيسة أيا صوفيا أحبّ إليَّ من أن أرى فيه كمة (طاقية) على رأس كردينال من كرادلة الكنيسة الغربية! لا تعجبوا من القول بأن الدولة قامت بالفضيلة لا بمجرد القوة والقسوة؛ فإن القوم كانوا في حال بداوة فجاءهم الإسلام فجمع كلمتهم وهذّب نفوسهم حتى كان ملوكهم الأولون على مقربة من سيرة الخلفاء الراشدين؛ فقد نقل المؤرخون أن المؤسس لهذه الدولة السلطان عثمان الذي ترون صورته أمامكم الآن لم يترك لورثته إلا حلة وعمامة مضرجة بالدم، والمعهود في الفاتحين المؤسسين للممالك بالقهر والقسوة أن يتركوا القناطير المقنطرة من الذهب والجواهر والأثاث والماعون. أما سيرة هذه الدولة المجيدة فإنها تعلم من النظر في وجه حاجة الإنسانية إليها عند تكوينها، ومن سيرتها في بلادها.
أما وجه الحاجة إلى دولة مثلها في زمنها فأنتم أيها السادة تعرفونه من الوقوف على تاريخ الأمم التي تأسست الدولة في بلادها. هذه الدولة مؤلفة من أمم وشعوب وقبائل لها لغات مختلفة، وأديان مختلفة؛ ولكن الدولة مسلمة وأكثر شعوبها إسلامية، وأهم عناصرها الأولى المسلمون والروم.
فأما المسلمون فقد كان ملكهم تمزق كل ممزق؛ فأما الدولة العباسية فقد كان التتار قوضوا صرحها ثم زحف الصليبيون على بلادها من كل جانب، وأما الدولة الفاطمية فكانت أيضًا قد زلزلت زلزالها، وهددت من الصليبيين بزوالها، ولا أعد ملوك الطوائف والمماليك في عداد الدول فإنهم كانوا أشبه بالبيوت (العائلات) منهم بالدول - يقوم في البيت رجل عظيم فيجعل له ذكرًا ومجدًا ثم يسقط فيسقط البيت بسقوطه ولا يبقى فيه إلا أثره.
فدول الإسلام قبل العثمانيين ثلاث: الأموية والعباسية والفاطمية وقد كانت هذه الدول اضمحلت وذهب الرجاء منها وبذلك كان المسلمون في حاجة إلى دولة جديدة تجمع كلمتهم وتحمي حوزتهم. أما الروم فقد كانوا في ذلك الوقت أسوأ حالاً من المسلمين، ولولا ذلك ما تيسر للترك تفريق شملهم والاستيلاء على بلادهم وفتح عاصمتهم بعدد قليل.
ذلك أنهم لم يكونوا أقل من العثمانيين عددًا ولا علمًا بالحروب؛ وإنما كان ينقصهم ما كان عند العثمانيين من الفضيلة والوحدة؛ فإن فساد الأخلاق والتنازع في الدين لا يبقي للأمم بقية. سار العثمانيون في تأسيس دولتهم بما تقتضيه الفضيلة الإسلامية من العدل بالنسبة إلى غيرهم من الدول الفاتحة؛ فقد أقروا أهل الملل المخالفة لملتهم على أديانهم ولغاتهم وعاداتهم؛ بل جعلت لهم امتيازًا يتمتعون به إلى الآن؛ حتى إنهم يَفْضُلُون المسلمين في ذلك ببعض الأمور.
وكان يسهل على هؤلاء الممتازين أن يرتقوا في ظل عدل هذه الدولة وفضلها وتحت حمايتها إلى أقصى ما في استعدادهم. فدولة لها مثل هذا التاريخ المجيد يصح لأبنائها أن يفتخروا بها على اختلاف مللهم ونحلهم وأن يحتفلوا لتذكار تأسيسها واستقلالها. ونعود إلى ذكر فائدة الاحتفال.
قلنا: إن الفائدة في هذا الاحتفال هو إحياء الشعور بمجد الدولة والتذكير بتاريخها لأجل السعي في استحياء ما كان نافعًا واجتناب ما كان ضارًّا.
وقد تكلم رئيس الاحتفال عن ضعف الدولة وإحاطة الأخطار بها تنبيهًا وتذكيرًا؛ ولكنه لم يوقعنا في اليأس بالمرة فقد أعرب عن رجائه ببعض فضلاء الأمة.
ونزيد على ذلك فنقول: إنه لا يأس من الدولة فإنها بفضل الله لا تزال ذات قوة عسكرية يشهد لها بها الأعداء؛ وهي قادرة على حماية الأمة؛ وإنما ينقصها قوة هي أم القوى في هذا العصر وهي قوة العلم والصناعة. قلنا: إن هذه الدولة قامت بقوة الفضيلة الفطرية والدينية، وقد كانت هذه القوة كافية لسيادة صاحبها على جميع الأمم؛ إذ كانت متساوية في الجهل؛ ولكن الزمان قد تغير وصار كل شيء فيه مبنيًّا على العلم والصناعة، ولذلك تأخرت الدولة عن غيرها فإنها لم تكن في يوم من الأيام دولة علم وكيف تكون دولة علم، وهي لم تكن لها لغة إلا اللغة البدوية التي لا قواعد لها، ولا تتسع للعلوم والفنون.
إن اللغة العثمانية العذبة التي تعلّم الآن قد وضعت قواعدها النحوية والصرفية أثناء القرن الماضي فأين العلم من أمة وافاها القرن الماضي، وليس لها لغة تعلم بالقلم والكتاب؟ ! فأساس الإصلاح الذي نطلبه لحفظ استقلال الدولة هو العلم؛ فالعلم هو الذي يقوي شوكتها والعلم هو الذي ينمي ثروتها والعلم هو الذي يجمع كلمتها، أرأيتم هذه الشعوب المتفرقة والملل المختلفة لا يمكن أن تكون أمة واحدة إلا بالعلم، العلم هو الذي يقرب بين البعداء، ويصل الأفكار بالأفكار، وهو الذي يمتاز به الإنسان فكل من كان أقرب مني فكرًا كان أقرب مني ودًّا، وإنني لأفضِّل معاملة مَن لا تجمعني به غير صلة الإنسانية على معاملة من تجمعني به كل صلة حتى صلة الدين والنسب القريب إذا كان الأول قريبًا مني بفكره وقلبه، والآخر بعيدًا عني بعقله ولبه؛ لكن العلم الناقص ربما كان شرًّا من الجهل البسيط فإن الجاهل البسيط يكون على شيء من سنة الفطرة يستقيم به عمله بعض الاستقامة؛ ولكن ناقص العلم لا يستقيم على الفطرة ولا يحسن الصناعة العلمية. أقول هذا؛ لأنني أرى كثيرًا من الناس يحصرون السعي في إصلاح الدولة بالإنحاء على القابضين على زمام الأحكام فيها وما هؤلاء الحكام إلا طائفة من الأمة فإذا صلحت الأمة بالعلم والتهذيب فإنها تصلحهم لا محالة.
تشكو الأمة من الحكومة وإننا لسنا أمة في الحقيقة، ولا يمكن أن نكون أمة إلا بالعلم والتهذيب العام والدولة غير قادرة على تعميم التعليم فعلى العقلاء منا أن يسعوا في ذلك لأجل تكوين الأمة. إن لنا صورة الأمة وهي الأفراد المجتمعة؛ ولكن ليس لنا معناها وهو الأفراد المتحدة.
فإذا كانت هذه الصورة التي أمامكم هي السلطان عثمان مؤسس الدولة فهؤلاء الأفراد الذين ترونهم في البلاد العثمانية هم أمة لها أن تطالب بحقوق الأمم هذا ما أقوله وأختصر القول خوفَ الملل. وأختم قولي بالدعاء إلى الله تعالى بأن يؤيد الدولة العلية ويوفق سلطاننا الأعظم عبد الحميد خان ورجال دولته إلى ما فيه خيرها وحفظ مجدها، آمين. غرة ذو الحجة - 1321هـ 18 فبراير - 1904م