أرشيف المقالات

الدعاء من وسائل الاتصال بالله وتقوية الروح

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2الدعاء من وسائل الاتصال بالله وتقوية الروح   إن روحَ الإنسان هي وسيلة الاتصال بالله؛ فهي نفخة من روح الله، وبها يواصل الإنسان الاتصال بخالقِه، شريطةَ خُلوِّ قلب الإنسان من أي علائق أرضية، ويوضِّح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث التالي: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعةٌ يظلُّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه: الإمام العادل، وشابٌّ نشأ في عبادة ربِّه، ورجل قلبه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجل طلبتْه امرأة ذاتُ منصبٍ وجمال، فقال: إني أخافُ اللهَ! ورجل تصدَّق أخفى؛ حتى لا تعلمَ شماله ما تنفقُ يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه))؛ صحيح البخاري.   فذكرُ الرجلِ اللهَ وهو خالٍ من شوائب الدنيا يحقِّق هذا الاتصال، ويعطينا الرسول صلى الله عليه وسلم الدليلَ على صحة الاتصال وتحقُّقه بأن تفيضَ العين بالدمع، وما أحلى هذه اللحظات في حياة الإنسان؛ ففيها غذاء لروحه باتِّصالها بمصدرها الذي أتَتْ منه! إنها المعيَّة مع الله، والاتِّصال الدائم به.   وأذكرُ هنا واقعة حدَثتْ معي (كاتب هذه الأحرف): ففي يوم عرفةَ، وعلى أرض عرفة كنت مع فوجٍ من الحجاج، وقبل غروب شمس عرفةَ بساعة تقريبًا طلب منا مرشدُ الفوج بأن نتصالح وقتَها مع أي إنسان بيننا وبينه خصومة أو جفوة، وذلك بالاتِّصال به عن طريق التليفون المحمول ومصالحتِه، ثم طلب مني (العبد لله) أن أذكِّر الفوج بأهمية وفضل الدعاء في هذه اللحظات، فألهمَني الله، فقلت لهم: لقد تصالَحْتم مع غيركم من الناسِ بالاتصال بهم تليفونيًّا، فهيَّا بنا نتصالح مع الله، هيا بنا نتصل باللهِ، نتصالح معه.   فاستغربوا هذا القول، فقلتُ لهم: إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم علَّمنا كيف نتصل بالله في حديثه عن السبعة الذين يظلُّهم الله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، بقوله: ((ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) وذكرت لهم أن شرط هذا الاتصال أن تخلوَ نفس كلِّ واحد منكم من علائق الأرض، ومن حولكم على الأرض الآن، فمن استطاع ذلك فاضَتْ عيناه بالدمع.   ثم بدأنا الدعاء، حيث أخذ فرد "المكرفون" وأخذ في الدعاء ونحن نردِّد من خلفه، فلم تدمَعِ الأعين، ثم تكرر ذلك مع آخر، ولم تدمع الأعين، إلى أن أخَذ "المكرفون" ثالث، ولكن بلهفة وأخذ في الدعاء بصوت فيه شوقٌ لله، ففاضت الأعينُ، وأخذ الجميع في البكاء مع استمرار الدعاء إلى أن غابَتْ شمس يوم عرفةَ، ونحن على هذا الحال، وكلُّ مَن حولنا من الأفواج الأخرى قد خرج للنفيرِ من عرفة، ونحن في مكاننا على حالنا في بكاءٍ، ثم قررنا أن نظلَّ في المكان حتى انصرف الحجيج، ثم انصرفنا بعد ذلك.   يا لها من لحظات سعادةٍ مع الله! أخي القارئ، والذي نفسي بيده لقد فاضت عيناي وأنا أكتبُ لك آخر هذه السطور، إنها الروح! وما أدراك ما الروح؟! قل هي من أمر ربي.   إن الدعاءَ هو اتِّصالٌ بالله دون واسطةٍ، فقد قال الله تعالى لرسوله: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].   وقد بشَّر سبحانه وتعالى عبادَه بسَعةِ فضله، وعظيم جُودِه وكرمه، بالاستجابة لدعائهم، وسماعه لطلبهم، فقال: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].   بل حذَّر سبحانه عبادَه من نسيان الدعاء، وتَرْك التضرُّع، والإعراض عن الالتجاء إلى الله، فقال: ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾ [الفرقان: 77].   وقد جاء في الحديث الشريف عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدعاء مخُّ العبادة))؛ رواه الترمذي؛ وذلك لأن كل إنسان يدعو ربَّه فإن قلبه ولُبَّه وكل مشاعره تكون حاضرةً معه، متضرِّعة بين يدي الله، خاشعةً له ظاهرًا وباطنًا، وهذه غايةُ العبوديَّة لله تعالى، وهي أشرف أحوال الإنسان، وأفضلها، وأسعدها؛ إنه التجاءُ الضعيف إلى القوي، ورجاء الفقير من الغنيِّ، وتضرُّع من لا يملك من الأمر سببًا إلى مفتِّح الأبواب ومسبِّب الأسباب؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن ينفعَ حذرٌ من قدر، ولكن الدعاءَ ينفع مما نزل وما لم ينزل؛ فعليكم بالدعاءِ عبادَ الله))؛ رواه أحمد والطبراني، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الدعاءُ يردُّ البلاء))؛ رواه أبو الشيخِ عن أبي هريرة.
فيجبُ علينا امتثالُ أمرِ الله تعالى وأمر رسوله بالدعاء، والمسارعة إلى ما يحبُّه الله سبحانه، فأكثر ما يحبُّه من عباده التوسُّل إليه، والضَّراعة بين يدَيْه؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس شيءٌ أكرمَ على الله عز وجل من الدعاء))؛ رواه الترمذي عن أبي هريرة.   والقرآن الكريم به كثيرٌ من نماذج الدعاء، ورقائق من الالتجاء لله، ومناجاة الأنبياء لربِّهم، وصلتهم به، تلك الصلةُ التي لا تنقطعُ ما دام يربطها حبلُ الدعاء والنداء.
فهذا آدم عليه السلام يقعُ في الخطيئة فلا يجد موئلًا ولا ملجأً إلا في هذا الدعاء الحزين: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].
وهذا نوحٌ عليه السلام يدعو قومَه ألفَ سنة إلا خمسين عامًا، حتى إذا يَئس من هدايتِهم نادى ربَّه ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا ﴾ [سورة نوح: 28].
وهذا سيدنا إبراهيم يناجي ربَّه بهذا الدعاء المؤثِّر النابع من أعماق القلب المتصل بالله العارف به: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 83 - 89].
ولنتدبَّر هذا المقطع القرآني الرقيقَ الذي يحدِّثنا عن أكرم رسلِه وهم يَلُوذُون بخالقهم، ويلتجِئون إليه: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ * وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 83 - 90].
ففي الدعاء إحساسٌ بالافتقار والالتجاء إلى الله عز وجل والخوف من الله، والانكسار بين يديه، والثقة به وحدَه؛ لذلك يجب على الفردِ في الدعاء أن يلحَّ فيه، ويتضرَّع إلى الله بقلب مخبتٍ منيبٍ، يسأله القبول والرضا، ويشعر بضعفه وحاجته إلى عون ربه عز وجل؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ [المؤمنون: 60]: أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ فقال: ((لا يا بنت الصديق، هم الذين يصلُّون ويصومون، ويتصدَّقون، يخافون ألا يقبلَ منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات))؛ أخرجه: أحمد، والحاكم.
فانطرح على عتبةِ عبوديته انطراحَ الفقير الكسير، وارتمِ في أحضان رحمته كما كان يفعل سيد المرسلين؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يدعو ويقول: ((اللهم إنك تسمعُ كلامي، وترى مكاني، وتعلمُ سرِّي وعلانيتي، لا يخفى عليك شيءٌ من أمري، وأنا البائس الفقير المستغيثُ المستجير، الوَجِل المشفق، المقرُّ المعترفُ بذنبه، أسألك مسألةَ المسكين، وأبتَهِلُ إليك ابتهالَ المذنب الذليل، وأدعوك دعاءَ الخائف الضرير، مَن خضعَتْ لك رقبتُه، وفاضَتْ لك عَبرتُه، وذلَّ لك جسمُه، ورَغِم لك أنفُه، اللهم لا تجعلني بدعائك شقيًّا، وكن بي رؤوفًا رحيمًا، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين))؛ أخرجه الطبراني.   وهناك العديدُ من الأدعية التي تهتزُّ لها القلوب، وتتزكَّى بها النفوس، وتفيض لها العيون، وتخشع عندها الجوارحُ، وتلتقي بخالقها الأرواح على بساط العبودية الصحيحة.



شارك الخبر

المرئيات-١