أرشيف المقالات

العداوة الأزلية (6)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2سلسلة تأملات تربوية في بعض آيات القرآن الكريم العداوة الأزلية هذا عدو لك ولزوجك "إبليس" الحلقة السادسة   سادسًا: مرحلة المتابعة: تحذير اللهبني آدم من الشيطان كما حذَّر أبويهما. ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 26، 27].   وبعد أن قصَّ القرآن الكريم قصَّةَ خلق آدمَ وزوجِه، وتصويره ما جرى بينهما وبين إبليس، وكيف أنَّ إبليس قد خدَع آدم وزوجه خداعًا ترتَّب عليه إخراجهما من الجنة، ثم جاء خطاب التكليف لهما، بعد كلِّ ذلك توجَّه الله بالنِّداء لبني آدم؛ ليحضَّهم فيه على تقوى الله، ويحذِّرهم من وسوسة الشيطان، ويذكِّرَهم بنعمه عليهم، وقرن ذلك بتذكيرهم بتجربة أبويهم آدم وزوجه.   لقد جاء هذا الخِطاب في صورة بليغة مجسمة شبيهة بنفس الصورة التي مرَّ بها أبواهم، صورة تُحفَر في الذاكرة بكلِّ آلامها وآمالها، فكان نداء الله لبني آدم: يا بني آدم، تذكَّروا واعتبروا واشكروا اللهَ على ما حباكم من نِعم، فإنه سبحانه قد ألبَس تكوينهم الطيني بلباس الروح التي نفَخها الله في آدم من قَبل، وينفخها في كلِّ مولود بعد الشهر الرابع من بداية الحمل؛ عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: حدثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق -: ((إن أحدكم يجمع خَلْقه في بطن أمِّه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثمَّ يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملَك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلماتٍ: بكَتْبِ رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره، إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذِراعٌ، فيسبق عليه الكتابُ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))؛ رواه البخاري ومسلم.   هذا اللِّباس الروحي هو التميُّز الذي يَمتاز به بنو آدم عن سائر المخلوقات التي خلَقها الله من الطِّين كسائر الدواب في الأرض، وهذا هو التكريم العظيم الذي كرَّم الله به بني آدم: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].
وهذا اللِّباس الروحي الذي مِن أجله أمر الله الملائكةَ بالسجود لآدم، وهو الذي أثار حنق إبليس وكرهه لبني آدم، فخالف أمرَ الله ولم يسجد لآدم، ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ص: 71 - 74].   هذا اللِّباس الذي يجب أن يتحلَّى به الإنسان دائمًا؛ فهو سرُّ تكريمه وتفضيله على كثير مِن خَلق الله، وهو الذي يواري به الإنسان عورتَه الطينيَّة، وهو الذي به يعرف العبد ربَّه، ويكون على اتصال دائم بربِّه، فيكون في معيَّة الله وكنفه؛ لذلك كان التعبير القرآني العظيم عن هذا المعنى بقول الله: ﴿ أَنْزَلْنَا ﴾؛ أي: مِن أعلى، وهذا يدلُّ على السموِّ والرِّفعة، ثم قوله تعالى: ﴿ وَرِيشًا ﴾؛ للتجمُّل والتحلِّي، ما أحلاها من كلمات معبرة!   ثم يصف ربُّ العزَّة سبحانه هذا اللِّباس بقوله: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾؛ أي: إنَّ هذا اللِّباس هو الذي به يحقِّق الإنسان تقواه لربِّه، وهو خير من كلِّ لباس حسِّيٍّ يتزيَّن به البشر.   لقد جاء هذا التذكير لبني آدم؛ لعلَّهم بعد ذلك لا يعودون إلى النِّسيان الذي أوقع أبويهم في المعصية؛ فهذا اللِّباس يصون النَّفس عن الدَّنايا والأرجاس، فإذا تخلَّى عنه الإنسان ارتكب المعاصي والذنوب؛ لذلك عبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يَزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرَ حين يَشرب وهو مؤمن، ولا يَسرق السَّارق حين يَسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبةً يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن))؛ (البخاري).   ثم أَتْبَعَ القرآن النداءَ الأول بنداء آخر مبالغةً في وعظ بني آدم وتذكيرهم بفضل الله عليهم؛ يا بني آدم، لا يصرفنَّكم الشيطان عن طاعة الله؛ بأن تمكِّنوه من أن يوقعكم في المعاصي كما أَوقع أبويكم من قبلُ فيها، فكان ذلك سببًا في خروجهما من الجنة التي كانا يتمتعان بنعيمها، فأخرَجَهما من الجنَّة حال كونه نازعًا عنهما لباسَهما.   وزيادة في التحذير، واستثارة للحذر، ينبِّئهم ربُّهم أن الشيطان يراهم هو وقبيلُه من حيث لا يرونهم، وإذًا فهو أقدر على فِتنتهم بوسائله الخفيَّة؛ وهم محتاجون إلى شدة الاحتياط، وإلى مضاعفة اليقظة، وإلى دوام الحذر؛ كي لا يأخذهم على غرة.   ثم بيَّن سبحانه سنَّته في خلقه؛ بأن جعل الشياطين قُرناء للذين لا يؤمنون، مسلَّطين عليهم، متمكِّنين من إغوائهم، وفي هذا تحذير شديد لبني آدم من الشياطين، كرَّره الله عز وجل مرارًا وتكرارًا؛ ففي أحداث المعركة التي تُصوِّرها القصة بين الإنسان والشيطان مُذكِّرٌ دائم بطبيعة المعركة، إنَّها بين عهد الله وغَواية الشيطان، بين الإيمان والكفر، بين الحقِّ والباطل، بين الهدى والضلال..
والإنسان هو نفسه ميدان المعركة، وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها؛ وفي هذا إيحاء دائم له باليقظة، وتوجيه دائم له بأنَّه جندي في ميدان، وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان!   إنَّ هذا عقدُ استخلاف قائمٌ على تلقِّي الهدى من الله، والتقيد بمنهجه في الحياة، ومفرق الطَّريق فيه أنْ يسمع الإنسان ويطيع ما يتلقَّاه من الله، أو أنْ يسمع الإنسان ويطيع ما يمليه عليه الشيطان، وليس هناك طريق ثالث؛ إمَّا الله وإما الشيطان، إمَّا الهدى وإما الضلال، إمَّا الحق وإما الباطل، إمَّا الفلَاح وإما الخسران...
وهذه الحقيقة هي التي يعبِّر عنها القرآن كلُّه، بوصفها الحقيقة الأولى، التي تقوم عليها سائر التصورات، وسائر الأوضاع في عالم الإنسان.   إنَّ هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادًا له، كانت إيقاظًا للقوى المذخورة في كيانه، كانت تدريبًا له على تلقِّي الغَواية، وتذوق العاقبة، وتجرُّع الندامة، ومعرفة العدو، والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الآمن.   لقد اقتضَتْ رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقرِّ خلافته، مزوَّدًا بهذه التجربة التي سيتعرَّض لمثلها طويلًا؛ استعدادًا للمعركة الدائبة، وموعظة وتحذيرًا.   إنها العداوة الأزلية، والصِّراع الأبدي، والمعركة الدائمة، إلى أن تلقى الله.   فهل عرفتَ عدوَّك الأزلي؟ وما أساليبه في حربك؟ وكيف تُواجهه؟ وهل أعددتَ نفسك لهذه العداوة؟ هل تَشعر بقوَّتك على عدوك؟ وما مدى قوتك؟ وما أدوات قوتك التي تواجه بها هذا العدو؟ وما...؟ وما...؟ وما...؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى البحث عن إجابتها.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢