أرشيف المقالات

حوار أذهب حيرتي

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
2حوار أذهب حيرتي   جاء ذلك اليومُ وبدأتْ رياح الحَيرة تعصفُ بقلب (مؤمن) يغدو ويروح يسأل مَن لقيه، لكن لا جدوى، الناس بين مؤيدٍ ومعارض، لا أحد يبصِّره بالحق المؤيَّد بالدليل حتى يطمئنَّ قلبه، مجرد آراء، كلٌّ يُدلي بدلوه، نظر إلى السماء، علَّق قلبه بربه، وفجأة: أخي صالح، متى قدمت من سفرك؟! قد حضرتَ في وقتك، أريد أن أسألك سؤالًا حيَّرني، ألسنا نحبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس يومُ مولدِه يومَ سعادة وفرح؟ أليس يومًا أشرقت فيه شمس الهدايةِ وعمَّت أرجاء الكون؟ أليس مِن حقِّنا أن نحتفل بهذا اليوم محبةً لمن ولد فيه وتعظيمًا؟ ألم يكن هو صلى الله عليه وسلم أوَّل المحتفلين بذلك اليوم؟   ألم يَقُلْ عن صيامه يوم الاثنين: ((ذاك يوم ولِدتُ فيه))؟ لماذا إذًا يقول كثير ممن نحبهم ونُقدِّرهم من أهل العلم: هذا الاحتفال بدعة وليس من الدين؟ أجبني أخي.   صالح: سأجيبك يا أخي، وأوضح لك الأمر في عدة نقاط، ولكن قبل أن أجيبك اسألِ الله أولًا أن يشرحَ صدورنا لاتباع الحق وأن يرزقنا الإنصاف؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبغضَ الرجالِ إِلى اللهِ الألدُّ الخصِم))؛ (صحيح البخاري 2459)؛ أي: المخاصم بالباطل الذي يتضح له الحق ويظهر، ثم يصِر على الباطل. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: ما ناظرتُ أحدًا إلا قلت: اللهم أَجْرِ الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعَني، وإن كان الحق معه اتبعـتُه. وقال أيضًا: ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببتُ أن يوفَّق ويسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه؛ أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (9/118).   أولًا: سأذكر لك الأدلة على أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة: عن عبدالله بن مسعودٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن شر الأمور محدثاتها، وإن كل محدثةٍ بدعةٌ، وإن كل بدعةٍ ضلالة))؛ صحيح، تخريج كتاب السنة للألباني 25. فكل شيء حادثٍ مخترَع في الدين فهو بدعةٌ وضلالة، فيكون محرَّمًا بنص كلام النبي صلي الله عليه وسلم، والاحتفال بالمولد النبوي أمرٌ حادث وجديد، جاء بعد القرون الثلاثة المفضلة؛ إذًا فهو بدعة.   مؤمن: أنتَ تقول: (حادث مخترع في الدين)، ونحن إذًا احتفلنا بمولده صلى الله عليه وسلم لم نشرع في الدين صلاةً ولا صيامًا، نحن نحتفل ولسنا نشرع؟ صالح: كيف تقول ذلك؟ اتخاذ يومٍ ما عيدًا يحتفل فيه، هذا من الدين، العيد من التشريع، ودليل ذلك من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ ولهم يومانِ يلعبون فيهما، فقال: ((ما هذان اليومان؟))، قالوا: كنا نلعبُ فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلَكم بهما خيرًا منهما؛ يوم الأضحى ويوم الفطر))؛ (صحيح أبي داود 1134).   مؤمن: حتى وإن قُلنا: هذه بدعة؛ لأنها في الدين، فهي بدعة حسنة، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن سنَّ في الإسلام سُنةً حسنةً، فله أجرها وأجرُ مَن عمل بها، من غير أن ينتقص من أجورهم شيئًا، ومَن سنَّ في الإسلام سُنةً سيئةً، فعليه وزرها ووِزْر مَن يعمل بها، من غير أن ينتقص من أوزارهم شيئًا))؛ (صحيح النسائي 2553)؟ صالح: "سن" ليس معناها اخترع شيئًا جديدًا في الدين، ولكن معناها: (أحيا سُنة قد تركها الناس زمانًا)؛ فالسنة هي قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره؛ أما قول أو فعل غيرِه، فلا يسمى سُنة، والدليل على ذلك سببُ هذا الحديث نفسه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ الصحابة على الصدقة لَمَّا رأى هؤلاء الفقراء - الذين كان عامَّتهم أو كلهم من (مُضر) - فقام أحد الصحابة فجاء بصُرَّة مِن طعام ووضعها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتابعه الناس على ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، والصدقةُ مشروعةٌ، وليست شيئًا مخترعًا، أليس كذلك؟   مؤمن: نعم، فما معنى قول الشافعي: "البدعة بدعتان: محمودة أو مذمومة"؟ صالح: أكمِلْ كلام الإمام يرحمك الله، قال الشافعي رحمه الله: "البدعة بدعتان: محمودة ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم"، فمن العلماء مَن يُعرِّف البدعة بأنها كل حادث وجديد، سواء كان في الدين أو في غيره، فإن كانت في الدين، فهي البدعة الشرعية المحرَّمة، وإن لم تكن في الدين وكانت في أمور الدنيا، فليست هي البدعة شرعًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم))؛ صحيح مسلم 2363؛ كاختراع السيارات والطائرات والصواريخ وغير ذلك. فمَن أحيا سُنة تركها الناس، وأصلها في الدين، فليست هذه بدعة شرعًا، وإن أطلقنا عليها بدعةً لُغةً؛ لأن الناس تركوها زمانًا فهي شيء جديد، لكن أصله في الدين، فهذا هو معنى ((سنَّ سُنة حسنة))؛ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لَمَّا جمع الناس على إمامٍ واحد في صلاة التراويح في رمضان، فقال: "نِعْمَت البدعة"، فقد سماها (بدعة) لغةً، وإن لم تكن بدعة شرعًا؛ لأن قيام رمضان في جماعة لم يخترعه عمر رضي الله عنه، بل فعله النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، لكنه تركه خشية أن يُفرَض على الأمة.   مؤمن: وما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم عن سببِ صيامه يوم الاثنين: ((ذاك يومٌ وُلِدتُ فيه))؛ (صحيح مسلم 1162)؟ صالح: قال ذلك عن يوم الاثنين مِن كل أسبوع، وليس عن يوم الثاني عشر من ربيع الأول، فمَن أراد أن يتبع النبيَّ صلى الله عليه وسلم حقيقةً، فليَصُمْ يوم الاثنين من كل أسبوع، لا أن يجعل يوم الثاني عشر من ربيع الأول يومَ عيدٍ، ولو كان ثلاثاء أو أربعاء أو جمعة، فهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم قط، ولم يَصُمْ يوم الثاني عشر من ربيع الأول، ولا أمر بصيامه، فكيف يقال: إنه احتفل بيوم مولده؟   مؤمن: ولكن الشيخ فلانًا قال ذلك، وقال: يجوز الاحتفال؟ صالح: عمَّن ستُسأل أخي مؤمن يوم القيامة؟ عن اتِّباعك للشيخ فلان، أم عن اتباعك للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وقد قال الله عز وجل: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 65]. مؤمن: هذا أولًا، فما هو "ثانيًا"؟ صالح: ثانيًا أن ابتداع شيء في الدين، معناه أن الدين لم يكتمل، أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُبلِّغ أمَّتَه البلاغ المبين، وهذا باطل لا محالة؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ [المائدة: 67]. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وهذا الاحتفال إن كان مِن كمال الدين، فلا بد أن يكون موجودًا قبل موتِ النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن مِن كمال الدين، فإنه لا يمكن أن يكون من الدين؛ اهـ. ثالثًا: السعيدُ مَن تمسَّك بالكتاب والسُّنة، واتَّبع الطريق الموصلة إلى ذلك، وهي اتِّباع السلف من الصحابة والتابعين ومَن تبعهم بإحسان، هؤلاء هم مَن شهِد الله لهم بالعدالة، فقال تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]، وشهِد لهم نبيُّه صلى الله عليه وسلم بالخيرية، فقال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلُونهم، ثم الذين يلونهم))؛ صحيح البخاري 3651.   ولم يُنقَل عن أحد منهم أنه احتفل بالمولد النبوي، مع أن سبب الاحتفال موجود، ومع ذلك لم يفعلوه، وقد كانوا أشدَّ منا حبًّا للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمًا له، وهم على الخير أحرص، حتى أرَّخ عمر رضي الله عنه - باتفاق الصحابة رضي الله عنهم - بالهجرة، ولو كانوا يحتفلون بيوم مولده صلى الله عليه وسلم لأرَّخوا به، وكذلك مَن تبعهم بإحسان من أئمة السلف جميعًا؛ ومنهم الأئمة الأربعة أعلام المذاهب الفقهية المشهورة.   قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "فأما ما اتفق السلف على تركه، فلا يجوز العمل به؛ لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يُعمَلُ به"، هؤلاء هم الذين أمَرَنا النبي صلى الله عليه وسلم باتباعهم، فقال: ((فإنه مَن يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنتي وسُنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدَثاتِ الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة))؛ سنن أبي داود 4607.   ونحن عباد الله مُتَّبِعون لا مُشرِّعون ولا مبتدعون، (ولو كان خيرًا لسبقونا إليه).   أمَّا أول مَن أحدث الموالد، فهم العُبَيديون في القرن السادس الهجري؛ ليتمكنوا من نشر مذهبهم الباطني وعقائدهم الفاسدة بين الناس، وإبعادهم عن دينهم، هؤلاء العُبَيديون الذين في عهدهم تمكَّن القرامطة مِن قتل الحُجَّاج وتخريب الحج، وخلع الحجر الأسود من مكانه، فهل يقول عاقل: إن هؤلاء اهتَدَوا لشيء مِن الحق لم يعرفه الصدِّيقُ، أو الفاروق، أو عثمانُ، أو علي، أو سائر الصحابة رضي الله عنهم، أو التابعون لهم، أو أئمة السلف؟!   رابعًا: الاحتفال بالموالد عادةٌ نصرانية، فالنصارى هم الذين يحتفلون بأعياد الميلاد، ونحن مأمورون بألا نتشبَّه بهم. عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، ومَن أحب قومًا حُشر معهم)).   خامسًا: الاحتفال بالموالد وسيلةٌ للغلو في الأنبياء والصالحين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والغلوَّ في الدين؛ فإنه أهلك مَن كان قبلكم الغلوُّ في الدين))؛ صحيح ابن ماجه 2473؛ كهذه القصائد والمدائح التي فيها غلوٌّ؛ كقول صاحب البُردة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: فإنَّ مِن جُودك الدُّنيا وضَرَّتها ♦♦♦ ومِن عُلومِك عِلم اللوح والقلم   مؤمن: كل ما قلتَه جميلٌ، ولكني أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأريد أن أحتفل بمولده. صالح: أخي مؤمن، لا تنسَ كلامي لك في بداية حديثنا، أن نتجنب الهوى، وأن نُوطِّن نفوسنا على قَبول الحق ممَّن جاء به. يا أخي، إن الذين لا يرون جواز الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم - خوفًا من الابتداع في الدين - هم أوفى الناس حظًّا بمحبته وطاعته، وتمسكًا بسنته، واقتفاءً لآثارِه، وهم كذلك أعلمُ الناس بسنته، وأحفظ الناس لحديثه، لا يفعلون ولا يتركون ولا يتحرَّكون إلا بهَدْيه، حتى قال قائلهم: "إن استطعتَ ألا تحكَّ رأسك إلا بأثر، فافعل"، هذا دليل المحبة، وهذا فعل المحِب، ليس كمَن ترك العمل وترك اتباع السنة طَوال العام، ثم جاء يوم الثاني عشر من ربيع الأول يحتفل، وهل هذا قدرُ النبي صلى الله عليه وسلم أن نحتفل به يومًا واحدًا في السَّنة؟ أقل ما يجب أن نحتفل به كل يوم من أيام السَّنة.   مؤمن: ولو احتفلتُ في يوم واحد في السَّنة وعملت بسُنته طَوالَ العام، ما العيب في ذلك؟ هل يعذِّبني الله على هذا؟ صالح: أرد عليك بما ثبت عند الدارمي والبيهقي وعبدالرزاق بإسناد صحيح عن سعيد بن مسيب - وهو مِن أفضل التابعين وأعلمهم بالفقه - أنه رأى رجلًا يُصلِّي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه ابن المسيب - لأنه من المعلوم أن سنة الفجر ركعتان خفيفتان - فقال الرجل: يا أبا محمدٍ، أيعذبني الله على الصلاة؟ فقال ابن المسيب: لا، لن يُعذِّبك الله على الصلاة، ولكن يعذبك على خلاف السُّنة.   مؤمن: لا أستطيع أن أقاوم رغبتي، أريد أن أحتفل. صالح: إذًا احتفل يا مؤمن. مؤمن: ها! ماذا تقول؟ أحتفل؟! صالح: نعم، احتفل به كما أمَرَك، احتفل به دون أن تخالف سُنته. مؤمن: كيف ذلك؟ صالح: أن تحتفل به كل يوم في حياتك، باتباع أمره واجتناب نهيه، أن تصوم يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع كما أمرك، أن تقرأ سيرته، وأن تتعلم سنته وتنشرها بين الناس، أن تُحْيي سُنة مهجورة وتدعو الناس إليها، أن تقتدي به في كل أفعالك، وأن تكون مثله في أخلاقك، أن نرى سنته في بيتك وبين أهلك وأولادك، هكذا يكون الاتباع، وهكذا تكون المحبة، وليست المحبة بالأكل والشرب والحلوى. مؤمن: نعم صالح، أنت محق فيما قلتَ، وأنا سأفعل مثلك، فأنا أريد أن أكون مؤمنًا صالحًا متبعًا للسُّنة.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن