أرشيف المقالات

فوائد رعاية النظم القرآني والعلم به

مدة قراءة المادة : 42 دقائق .
2فوائد رعاية النظم القُرْآني والعلم به (اثنتا عشرة فائدة)
أولًا: الطريق الرئيس للوقوف على إعجاز القُرْآن. ثانيًا: ترسخ الإيمان في القلب، وتنيره، وتورثه برد اليقين الذي لا يتزلزل ولا يتزعزع، وتزيد من الخشوع والخضوع لله رب العالمين، وتفتح عين القارئ والدارس على ما تقر به عينه. ثالثًا: تساعد المفسر والباحث على فهم النص القُرْآني فهمًا صحيحًا. رابعًا: تميز الضعيف من الصحيح والسقيم من السليم في الروايات التفسيرية. خامسًا: توقف على أسرار ترتيب الكثير من الآيات القُرْآنية، ومعانيها التي حار فيها المفسرون. سادسًا: تأصيل الدراسات القُرْآنية، والتعمق فيها. سابعًا: تعرف علل ترتيب السور والآيات، وتورث اليقين بأن القُرْآن في سوره وآياته وجمله وموضوعاته مرتب بترتيب من الرحمن. ثامنًا: تدفع الشبهات الناشئة عن سوء الفهم للقُرْآن، وتدفع ما يوهم التعارض بين الآيات. تاسعًا: توقف على أسرار التكرار في القُرْآن الكريم. عاشرًا: توصل إلى كثير من أصول الصحاح في القُرْآن الكريم. حادي عشر: تمكن من فهم أسباب النزول، وعدم التحير في فهمها. ثاني عشر: تفتح العيون على الكثير والكثير من وجوه ولطائف البلاغة في القُرْآن الكريم.
أولًا: رعاية النظم القُرْآني والعلم به: هي الطريق الرئيس للوقوف على إعجاز القُرْآن، وكما تقدم من كلام الخطابي: (فالقُرْآن جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنًا أصح المعاني، واضعًا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يرى في صورة العقل أمر أليق به منه...
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجِز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله، أو مناقضته في شكله)
[1]. قلت: وسيتضح هذا جليًّا في ثنايا هذه الرسالة.
ثانيًا: مِن فوائد رعاية النظم القُرْآني والعلم به: ترسيخ الإيمان في القلب، وإنارته، وتوريثه برد اليقين الذي لا يتزلزل ولا يتزعزع، وتزيد من الخشوع والخضوع لله رب العالمين، وتفتح عين القارئ والدارس على ما تقر به عينه.
انظر إلى أبي بكر رضي الله عنه وتمسكه وعزمه وإصراره على قتال مانعي الزكاة مع أن فضلاء الصحابة - كسيدنا عمر رضي الله عنه - لم يوافقوه أولًا على ما قرر وأرادوا صرفه عنه إلى اتخاذ موقف الملاينة معهم، ولكنه رضي الله عنه لم يعبأ بخلافهم، وصمم على رأيه قائلًا: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاةَ حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعها، قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرَفت أنه الحق[2])[3]، أليس هذا اليقين الذي لا يتزعزع بالرغم من مخالفة كبار الصحابة رضي الله عنهم له نابعًا من رعايته لنظم القُرْآن الذي لم يفرق بين الصلاة والزكاة؟ وانظر إلى قول عمر رضي الله عنه: (فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق)، فإذا كان المصرُّ على ترك الصلاة جحودًا لها مباح الدم، فكذلك الجاحد لفرضية الزكاة، وهذا يدل أيضًا على أنه كان أعلم الصحابة رضي الله عنهم بدلالات النظم القُرْآني.
كما أن هذه الرعاية للنظم تؤدي بالمرء إلى ذروة الشوق والمحبة واللذة التي لا يرقى إليها من لا يهتم بنظم الآيات؛ فإن هذه المشاعر وتلك الأحاسيس تزداد بقدر زيادة المعرفة بمحاسن الكلام وحسن النظام وقوة البرهان مما تميز به النظم القُرْآني، ولسنا بحاجة إلى التدليل على هذه القضية وإفاضة القول فيها؛ فهي أوضح من فلق الصبح، وأبين من غرة النهار.
يقول البقاعي: (وبهذا العلم يرسخ الإيمان في القلب، ويتمكن من اللب؛ وذلك أنه يكشف أن للإعجاز طريقين: أحدهما: نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب، والثاني: نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب)؛ اهـ.[4].
قلت: يقصد بهذا العلم العلم بأسرار ترتيب آيات القُرْآن وسوره، وهذا أحد فروع علم النظم، وإذا كان العلم بهذا الفرع يرسخ الإيمان في القلب فما بالنا لو علمنا أسرار جميع فروعه؟! ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
ثالثًا: من فوائد رعاية النظم القُرْآني والعلم به: أنه يساعد المفسر والباحث على فهم النص القُرْآني فهمًا صحيحًا، ويحفظهما من الزيغ والانحراف في تأويل الآيات، فيجعلهما على بينة من ربهما ونور من أمرهما فلا ينخدعان بالباطل وإن جاء في ثوب فاخر، يعجب الخاطر ويبهر الناظر، وبالتالي يمنع ذلك من كثرة الأقاويل، وبالتالي يقطع الخلاف في فهم النص، ويمنع من كثرة ظهور الفرق والمذاهب التي لجأت إلى تعضيد مذاهبها بالتأويلات الفاسدة والضعيفة لآيات القُرْآن الكريم، ولا بد من هذه الرعاية للنظم لعلماء الأمة حتى يعلموا الناس حسب ما فهموا؛ فإنهم إن لم يفهموه واختلفوا فيه فكيف يرشدون الناس؟! انظر مثلًا إلى قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].
ما المقصود بالذي يعرفه أهل الكتاب؟ وما المقصود بالحق الذي كتمه فريق منهم؟ قلت: الضمير في ﴿ يَعْرِفُونَهُ ﴾ [البقرة: 146] في الآية هو الحق الذي كتمه فريق منهم، ولو رجعنا إلى أقوال المفسرين في تعيين ما يعود إليه هذا الضمير لوجدنا الآتي: أولًا: فريق قال: إنه محمد صلى الله عليه وسلم وصفته، منهم البغوي[5]. ثانيًا: وفريق زاد على الرأي الأول تحويل القبلة، منهم الطبري[6]، وابن عطية[7]، وابن الجوزي[8]، وابن كثير[9]. ثالثًا: وفريق زاد عليهما العلم والقُرْآن، منهم الزمخشري[10]، والبيضاوي[11]، والنسفي[12]، وأبو السعود [13] ورجحوا القول الأول (محمدًا صلى الله عليه وسلم وصفته). رابعًا: وفريق زاد على كل ذلك صدقه ونبوته صلى الله عليه وسلم، منهم أبو حيان[14]. قلت: سبب هذا التعدد في تعيين هذا الحق الذي كتمه فريق من أهل الكتاب هو البعد عن رعاية نظم الآيات، وعدم النظر في سياق الآيات، ولو قام علماؤنا رضي الله عنهم بذلك ما وجدنا هذا التعدد في الآراء، فنظم الآيات يوجهنا إلى أن الحق الذي كانوا يعرفونه وكتمه فريق منهم هو: التوجه إلى ناحية الكعبة في الصلاة، وبيان ذلك كالآتي: نظم الآيات القُرْآنية وسياقه قبل هذه الآية يحدثنا عن جعل البيت الحرام مثابة للناس (يعودون إليه مرة بعد مرة) وأمنًا، والأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، وعن عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بتطهير البيت الحرام لقاصديه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125]، ثم يخبر سبحانه وتعالى عن دعوة إبراهيم عليه السلام لمكة وأهلها، فقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 126].
ثم يُخبر سبحانه وتعالى عن رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للقواعد من البيت، ودعائهما بالقبول لهذا العمل، ودعائهما بأن يجعلهما مسلمين له سبحانه وتعالى، وأن يُخرج من ذريتهما أمة مسلمة، وأن يعرفهما مناسكهما، وأن يتوب عليهما، وأن يبعث في هذه الأمة الإبراهيمية الإسماعيلية رسولًا منهم، فقال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 127 - 129].
قلت: وهذا يقرر حقيقة، هي أن الكعبة التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كانت قبلتهما وقبلة ذريتهما من بعدهما، وهذا توبيخ لأهل الكتاب الذين عدلوا عن ذلك، وفي نفس الوقت هو توبيخ للكفار من العرب الذين كانوا يفتخرون ويزعمون أنهم أفضل ذرية إبراهيم، وأنهم يتعلقون بملته، وأنهم زرع إسماعيل وسدنة البيت الذي بناه ثم عدلوا عن مِلته؛ ولذا جاء بعد هذه الآيات قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [البقرة: 130].
ثم بيَّنت الآيات أن دين إبراهيم عليه السلام هو الإسلام، وأنه هو الدين الذي وصى به إبراهيم عليه السلام أبناءه، وهو الدين الذي وصى به يعقوب عليه السلام أبناءه الأسباط (جدودهم وجذورهم). قلت: وهذا توضيح وبيان لملة إبراهيم عليه السلام في الآية المتقدمة، فقال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 131، 132]. ثم انتقلَت الآيات إلى محاورة أهل الكتاب ومجادلتهم والرد على بعض دعاواهم من الآية (133) وحتى نهاية الآية (141)، بعد أن وبختهم وعرضت بهم عدم اتباعهم ملة إبراهيم عليه السلام .
ثم انتقل الحديث عن القبلة مرة أخرى، وما ردده اليهود بشأنها، وكيفية رد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، والحكمة في التوجه إلى بيت المقدس، فقال تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 142، 143].
ثم بيَّنت الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمنى التوجه إلى الكعبة في صلاته، وأن الله حقق له رغبته وأمنيته، وأن أهل الكتاب يعلمون أن التوجه إلى الكعبة في الصلاة هو الحق الذي لا مرية فيه، وأنهم مجادلون مكابرون لا يتبعون هذا الحق مهما جاءتهم الآيات والدلائل على هذا الحق؛ فإنكارهم أحقيةَ الكعبة بالاستقبال ليس عن شبهة حتى تزيله الحجة، ولكنه مكابرة وعناد، فلا جدوى في إطناب الاحتجاج عليهم، وهذه المكابرة وهذه المعاندة وهذا الخلاف هو دأبهم وشنشنتهم من الخلاف؛ فقديمًا خالف بعضهم بعضًا في قِبلتهم، حتى خالفت النصارى قبلة اليهود، مع أن شريعة اليهود هي أصل النصرانية، فقال تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 144، 145].
قلت: هكذا يرشد سياق الآيات ونظمها أن الحق الذي كان يعرفه أهل الكتاب وكتَمَه فريقٌ منهم هو: تحويل القبلة في الصلاة إلى الكعبة، وأن الضمير في ﴿ يَعْرِفُونَهُ ﴾ يعود إليه، ولو وقف علماؤنا أمام سياق الآيات، وراعَوْا نظم الآيات ما رأينا تلك الأقوال المتعددة في تأويل قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا مِن فوائد رعاية نظم الآيات والعلم به.
يقول الفراهي [15]: (عدم التمسُّك بالنظام هو أكبر سبب للولوع بكثرة التأويل؛ فإن النظم هو الذي يوجهك الوجه الصحيح)[16]؛ اهـ. ويقول: (ولكن من تدبر القُرْآن ونظمه الحكيم، اطلع على حسن نظامه، وإعجاز بلاغته، ودقائق حكمته، وفتح عليه باب عظيم من المعاني، وكان على نور عند احتمال التأويلات، فاختار ما هو الحق الواضح، ولم يتمجمج في نبذ الباطل)[17]؛ اهـ.
رابعًا: مِن فوائد رعاية النظم القُرْآني والعلم به: تمييز الضعيف من الصحيح والسقيم من السليم في الروايات التفسيرية، التي طفح بها الكثير من كتب التفسير، بالإضافة إلى الإسرائيليات والموضوعات، وسيتضح العديد من الأمثلة على هذه الفائدة إن شاء الله في الباب الثاني من هذه الرسالة، الفصل الأول بعنوان: (أثر النظم فى بيان الدخيل والإسرائيليات).
خامسًا: من فوائد رعاية النظم القُرْآني والعلم به: الوقوف على أسرار ترتيب الكثير من الآيات القُرْآنية ومعانيها التي حار فيها المفسرون.
يقول البقاعي: (وبذلك[18] أيضًا يوقف على الحق من معاني آياتٍ حار فيها المفسرون لتضييع هذا الباب من غير ارتياب...
.
ومنها قوله تعالى في سورة النساء: ﴿ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ﴾ [النساء: 95] مع قوله عَقِيبه: ﴿ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ ﴾ [النساء: 95، 96] مما تراه وينكشف لك غامض معناه)
؛ اهـ[19].   سادسًا: من فوائد رعاية النظم القُرْآني والعلم به: تأصيل الدراسات القُرْآنية والتعمق فيها؛ فعلم النظم إحدى الدراسات العلمية المتعلقة بالقُرْآن الكريم، ويعنى بجوانب شتى من تقديم وتأخير، أو زيادة أو حذف، أو تعريف وتنكير، أو إبدال شيءٍ بشيءٍ...
إلى آخر ما يتعلق بجُمل وألفاظ القُرْآن الكريم.
سابعًا: مِن فوائد رعاية النظم القُرْآني والعلم به: معرفة علل ترتيب السور والآيات، والتيقن بأن القُرْآن في سوره وآياته وجمله وموضوعاته مرتب بترتيب من الرحمن، وليس ترتيبًا عشوائيًّا، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه الحال؛ اهـ[20]. قلت: وهذا مما يساعد على تربية ملكة البيان، وسيتضح الكثير والكثير من الأمثلة على هذه الفائدة عند الحديث عن الأدلة على وجود النظم في القُرْآن، وعند الحديث عن نظم الآيات، والموضوعات، والسور القُرْآنية في الفصل الثاني من هذا الباب إن شاء الله.
ثامنًا: من فوائد رعاية النظم القُرْآني والعلم به: دفع الشبهات الناشئة عن سوء الفهم للقُرْآن، ودفع ما يوهم التعارض بين الآيات؛ كما سيتضح إن شاء الله في الباب الثاني من هذه الرسالة، كما أن فيه امتثالًا للآيات القُرْآنية الداعية إلى التدبر والتفكر في كتاب الله، كما أن فيه زيادة الشوق والمحبة واللذة للنظر في القُرْآن؛ فإن ذلك يحصل بقدر زيادة المعرفة بمحاسن الكلام، وحسن النظام وقوة الاستدلال.
تاسعًا: من فوائد رعاية النظم القُرْآني والعلم به: الوقوف على أسرار التكرار في القُرْآن الكريم وتوجيه ذلك، كما سيتضح ذلك في الباب الثاني من هذه الرسالة إن شاء الله، يقول البقاعي: (وبه يتبين لك أسرار القصص المكررات، وأن كل سورة أعيدت فيها قصة فلمعنًى أدعى في تلك السورة استدل عليه بتلك القصة غير المعنى الذي سيقت له في السورة السابقة، ومن هنا اختلفت الألفاظ بحسب تلك الأغراض، وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم والإيجاز والتطويل مع أنها لا يخالف شيء من ذلك أصل المعنى الذي تكونت به القصة، وعلى قدر غموض تلك المناسبات يكون وضوحها بعد انكشافها)[21]؛ اهـ.
قلت: وقد أفرد الدكتور/ محمد عناية الله أسد سبحاني فصلًا كاملًا في كتابه: (إمعان النظر في نظام الآي والسور) عن تكرار القصص القُرْآني، وجعله مَعلمًا من معالم النظم في القُرْآن، تناول فيه قصة آدم في القُرْآن الكريم يصلح أن يكون أنموذجًا لهذه الفائدة، فليراجعه مَن شاء[22]، كما أنه تحدث أيضًا في رسالته تلك عن فائدة رعاية النظم في تشخيص المعاني المتكررة، وتحديد مراميها، وضرب مثالًا على ذلك، فليراجعه من أراد[23].
عاشرًا: من فوائد رعاية النظم القُرْآني والعلم به: الوصول إلى كثير من أصول الأحاديث المقبولة في القُرْآن الكريم، وهذا يزيد القلب انشراحًا، وثقة، ويقينًا في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن جملة كبيرة من الأحاديث الصحاح مأخوذة من القُرْآن، كما نص عليه جِلة من العلماء؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ [النجم: 3][24]، ولنضرب مثلًا أو اثنين على هذه الفائدة العظيمة لرعاية النظم: الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن أعرابيًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دُلَّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان))، قال: والذي نفسي بيده، لا أَزيد على هذا، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظُرْ إلى هذا))"[25].
فنرى في هذا الحديث النبي صلى الله عليه وسلم وقد جمع بين الإيمان بالله والعمل الصالح؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان))، وفي رواية أبي أيوب الأنصاري زاد فيه: صلة الأرحام، أليس هذا أصله ما جاء في القُرْآن من قرن الإيمان بالعمل الصالح في العديد من الآيات القُرْآنية؟! فقد قرن المولى سبحانه وتعالى الإيمان بالعمل الصالح جمعًا (الصالحات) إحدى وخمسين مرة، وقرنه به مفردًا (صالحًا) أربع عشرة مرة، قدم في ثلاث آيات منها العمل الصالح على الإيمان في سورة (النحل) آية (97)، وفي سورة (الكهف) آية (110)، وفي سورة (غافر) آية (40)، وعبر فيها المولى سبحانه وتعالى بلفظ الإيمان الصريح بتصاريفه المختلفة، إلا في سورة (الكهف) عبر بالنهي عن الشرك، فقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
الثاني: عن أنس رضي الله عنه: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟، قال: ((وماذا أعددتَ لها؟))، قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسولَه صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أنتَ مع مَن أحببت))، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرَحَنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنتَ مع من أحببتَ))، قال أنس: فأنا أحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمَلْ بمثل أعمالهم[26].
هذا الحديث يبين ويوضح أن هناك طاعات وعبادات وأعمالًا توصل إلى مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، منها: المحبة الحقيقية للنبي صلى الله عليه وسلم، أليس هذا أصله ما جاء في القُرْآن من الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8].
حادي عشر: من فوائد رعاية النظم القُرْآني والعلم به: التمكن من فهم أسباب النزول، وعدم التحيُّر في فهمها، وبالتالي التحير في التفسير؛ فأسباب النزول لا تترجم دائمًا عن السبب الحقيقي لنزول الآية أو السورة، بل كثيرًا ما تكون من قَبيل التفسير، أو التطبيق الواقعي لهما، وقد تتعارض أحيانًا فيما بينها.
يقول ابن تيمية: (وقولهم: نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول: عُني بهذه الآية كذا، وقد تنازع العلماء في قول الصاحب - أي: الصحابي -: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند؟ كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله في المسند، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح؛ كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببًا نزلت عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند، وإذا عرف هذا، فقول أحدهم: نزلت في كذا، لا ينافي قول الآخر: نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما، كما ذكرناه في التفسير بالمثال، وإذا ذكر أحدهم لها سببًا نزلت لأجله، وذكر الآخر سببًا، فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين، مرة لهذا السبب، ومرة لهذا السبب)[27]؛ اهـ.
قلت: فإذا اجتمع في سبب نزول الآية سببان قويان متعارضان، فما الذي يحكم بينهما؟ وهل نأخذ واحدًا منهما دون الآخر؟ أم نجمع بينهما في تفسير الآية؟ أم ماذا نفعل؟ رأي الدكتور/ محمد عناية الله سبحاني أن الحل يكمن في رعاية النظم، فقال: (الموقف يفرض علينا بكل صرامة وجِدٍّ أن نرجع إلى النظام؛ فهو أولى بأن يحل هذه العقدة، وأولى بأن يكشف لنا الأمر بعدما أصبح غُمة علينا)[28]؛ اهـ.
قلت: وهذا بعد تعذُّر الجمع بينهما، وقد ذكر بارك الله فيه عدة أمثلة لذلك مرجِّحًا بين أسباب النزول، مستعينًا برعاية النظم القُرْآني، فليراجعها من أراد[29].
ثاني عشر: مِن فوائد رعاية النظم القُرْآني والعلم به: أن هذه الرعاية تفتح العيون على الكثير والكثير من وجوه ولطائف البلاغة في القُرْآن الكريم: (براعة الاستهلال، الالتفات، حسن التخلُّص ...)، والذي لا يهتم بالنظم وترتيبه يتعذر عليه أن يتذوق بلاغة القُرْآن، ويعجز عن إدراك ميزاته التي أعجزت فرسان الكلام، ولنضرب مثلًا على ذلك: سورة الفاتحة: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 1 - 7].
على الرغم من وجازة تلك السورة فإن التأمل في نظامها، وترابط آياتها، وتآلف معانيها، يُميط لنا اللثام عن العديد من وجوه ولطائف البلاغة فيها، وهذا بعض ما تلمسته من فنون البلاغة فيها[30]: حسن الابتداء، أو حسن المطلع، والحصر والقصر: وحسن المطلع أعم من براعة الاستهلال[31]، وهو أن يبتدئ الشاعر في أول شعره أو الكاتب في أول رسالته بلفظ بديع مصنوع، ومعنى لطيف مطبوع، ويحترز من كلمات يتطير بها، أو يكون فيها ركاكة؛ فإن المطلع أول ما يقرع الأسماع، وربما تفاءل به الممدوح أو بعض الحاضرين، فإن كان حسَنًا لطيفًا أقبل عليه سامعه بكُلِّيته، فوعى جميع ما بعده، وكان في غاية الحُسن ونهاية اللطف[32].
وهذا يتمثل في افتتاح تلك السورة، بل القُرْآن الكريم كله، بحمد الله والثناء عليه؛ قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]. هذا الابتداء الحسن بالحمد والثناء على الله سبحانه وتعالى إشارة إلى نعمه سبحانه وتعالى، وآلائه المتعددة علينا؛ فالحمد لا يكون إلا بعد وصول الإحسان إليك أو لغيرك.
يقول الرازي: (وأما الفرق بين الحمد وبين الشكر فهو أن الحمد يعم ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلى غيرك، وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك)[33]؛ اهـ.
ومِن نِعم الله علينا إنزال القُرْآن الكريم، فناسَب ذلك افتتاحه بالحمد، وصدق الله إذ يقول: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1].
تنسيق الصفات بغير حرف نسق: وهو وصف الشيء بصفات عديدة متوالية متتالية؛ إما لتعظيمه، أو لتحقيره، أو لبيان خصوصية فيه بغير حرف عطف[34]. فحينما افتُتحت السورة بالحمد أتبع سبحانه وتعالى هذا الحمد ببعض الصفات الموجبة لاستحقاقه سبحانه وتعالى هذا الحمدَ، والمعظِّمة له، فقال تعالى: ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 2 - 4]، وبُدئ بوصف الربوبية؛ لأن الرب له التصرف المطلق في المسُود والمملوك بما أراد من خير أو شر؛ ولذا جاء الوصف بـ: (الرحمن الرحيم) بعد الوصف بالربوبية؛ لينبسط أمل العبد في العفو إن زلَّ، ويقوَى رجاؤه إن هفا[35].
ولأن قوله تعالى: ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2] مناسب لقوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6] فإن المهمة الأولى للمربي هي الهداية؛ ولذلك اقترنت الهداية بلفظ (الرب) في القُرْآن الكريم في مواضع كثيرة. من ذلك قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 24] خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62] على لسان موسى عليه السلام، وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 99] على لسان إبراهيم عليه السلام، وغير ذلك.
تكرار الصفات والتأكيد[36]: وهو دلالة اللفظ على المعنى مرددًا، وهو على ضربين: تكرار في اللفظ والمعنى، وتكرار في المعنى فقط، والتكرار المفيد (الذي أتى به لفائدة) في اللفظ والمعنى على ضربين أيضًا: تكرار في اللفظ والمعنى، والمقصود به غرضانِ مختلفان، وتكرار في اللفظ والمعنى، والمقصود به غرض واحد فقط، والتكرار المفيد في المعنى على ضربين أيضًا: تكرار في المعنى، والمقصود به غرضان مختلفان، وتكرار في المعنى، والمقصود به غرض واحد، والفائدة في مجيئه تأكيد ذلك الشيء، وتشييد أمره، وتقريره في النفس، والعناية به، وإن كان اللفظ والمعنى متفقين والغرضان مختلفين، فالفائدة حينئذ الدلالة على الغرضين المختلفين[37].
فقد أتبع سبحانه وتعالى وصف الربوبية للعالمين بوصف الرحمانية مكرَّرًا لينبسط أمل العبد في العفو إن زل، ويقوى رجاؤه إن هفا كما تقدم، وإشارة إلى أن المربي ينبغي أن يتحلى بالرحمة، وأنه لا ينبغي أن يقسو على من يربيهم ويرشدهم، كما أن فيه إشارة إلى أن الرحمة ينبغي أن تكون صفة الرب بكل ما تحتمل من معانٍ؛ فالمالك ينبغي أن يكون رحيمًا بما يملِك وبمن يملِك، والمربي ينبغي أن يكون رحيمًا، والسيد ينبغي أن يكون رحيمًا، والمصلح ينبغي أن يكون رحيمًا، والقيِّم ينبغي أن يكون رحيمًا؛ فالرحمة ينبغي أن تكون وصف الرب بكل معانيها، وقد وصف الله رسوله - المربي الأعظم والمصلح الأعظم - بالرحمة، فقال: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128] [38].


[1] "بيان إعجاز القرآن" (28، 27). [2] (العَناق) بفتح العين والنون: الأنثى من ولد الماعز التي لم تبلغ سنة، وفي هذا دليل على جواز قتال مانعي الزكاة، وإن كان ما منعوه قليلًا، وفي رواية عند مسلم: "لو منعونى عِقالًا" العِقال (بكسر العين وفتح القاف): هو ما يقيد به البعير وغيره، وعلى هذا أكثر المحققين، وهو يشهد لما ذكرت، وقيل: هو زكاة عام، وقوله: (شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه)؛ أي: لقتالهم، وقوله: (فعرفت أنه الحق)؛ أي: بما ظهَر من الدليل الذي أقامه أبو بكر رضي الله عنه. [3] "صحيح البخاري"، كتاب/ الزكاة، باب/ وجوب الزكاة، رقم (1400)، "صحيح مسلم"، كتاب/ الإيمان، باب/ الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، رقم (32). [4] انظر: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" للبقاعي ت (885هـ)، نشر: دار الكتاب الإسلامي القاهرة (1/ 10، 11) في خطبة الكتاب. [5] انظر: "معالم التنزيل" (1/ 164). [6] انظر: "جامع البيان" (3/ 187 وما بعدها). [7] انظر: "المحرر الوجيز" (1/ 223). [8] انظر: "زاد المسير" (1/ 122). [9] انظر: "تفسير القرآن العظيم" (1/ 462). [10] انظر: "الكشاف" ( 1/ 345). [11] انظر: "أنوار التنزيل" (1/ 112). [12] انظر: "مدارك التنزيل" (1/ 98). [13] انظر: "إرشاد العقل السليم" (1/ 176). [14] انظر: "البحر المحيط" (1/ 609). [15] الفراهي: (حميد الدين) عبدالحميد بن عبدالكريم بن قربان قنبر بن تاج علي، الأنصاري الفراهي، ولد عام (1280هـ) نسبة إلى قرية "فريهه" من قرى مديرية "أعظم كره" في الإقليم الشمالي بالهند، وهي الآن ولاية "أترا براديش"، وكان متضلعًا من علوم القرآن، كما كان له باع في اللغة العبرانية، وكان منقطعًا لدراسة القرآن وتدبره، وأراد أن يؤلف تفسيرًا يبرز فيه مناسبات الآيات، ونظام السور، وأسماه: (نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان)، ولكن لم يتيسر له إكماله، فوافته المنية ت (1349هـ) في مدينة متهرا، ودفن بها، له مؤلفات عديدة من خاطره، أغلبها في التفسير وعلوم القرآن، أكثرها باللغة العربية.
انظر: "الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام، المسمى بـ: (نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر)" (8/ 1267)، "إمعان النظر في نظام الآي والسور" (ص: 6) بالهامش بتصرف وزيادة. [16]"دلائل النظام" للفراهي، تقديم: بدر الدين الإصلاحي، نشر: الدائرة الحميدية (المطبعة الحميدية) الهند، الطبعة: الأولى: (1388هـ)، (ص: 25). [17] المصدر السابق : (ص: 42). [18] أي: بمعرفة أسرار النظم والترتيب بين الآيات والسور. [19]"نظم الدرر" (1/ 13، 14) في خطبة الكتاب. [20] المصدر السابق (1/ 5، 6) في خطبة الكتاب. [21] المصدر السابق (1/ 14) في خطبة الكتاب. [22] انظر: "إمعان النظر في نظام الآي والسور" د.
محمد عناية الله أسد سبحاني، نشر: دار عمار عمان، (ص: 272 - 288). [23] انظر: "المرجع السابق" (ص: 168 - 186). [24] انظر: "المرجع السابق" (ص: 258) بتصرف وزيادة، وقد ذكر لهذه الفائدة ثمانية نماذج، وأنا أذكر نموذجين من اجتهادي، وفي ذهني أكثر من عشرة نماذج أخرى تركتها خشية الإطالة، ولله الحمد والمنة. [25] "صحيح البخاري"، كتاب/ الزكاة، باب/ وجوب الزكاة برقم (1397)، وكتاب/ الأدب، باب/ فضل صلة الرحم برقم (5983) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، "صحيح مسلم"، كتاب/ الإيمان، باب/ بيان الإيمان الذي يُدخل به الجنة، وأن من تمسك بما أُمر به دخل الجنة، برقمَيْ (12) و(14)، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وبرقم (15) عن أبي هريرة رضي الله عنه. [26] "صحيح البخاري" كتاب/ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه، برقم (3688). [27] "مقدمة في أصول التفسير" لابن تيمية ت (728هـ)، نشر: دار مكتبة الحياة بيروت، (1490هـ = 1980م)، (ص: 16، 17). [28] "إمعان النظر" (ص: 220). [29] انظر: "المرجع السابق" (ص: 220 - 240). [30] تركت النظر في ( البسملة) للخلاف في عدها آية، وإن كنت أميل وأرجح كونها آية، وهي مع ذلك اشتملت على ثلاثة من فنون البلاغة: أولها: الحذف؛ حيث حذف متعلق الباء من (البسملة)، وتقديره: أبدأ، والسر في ذلك: ألا يقدم في هذا الموضع على اسم الله أحد، فلو ذكر الفعل لذكر فاعله، ثانيها: التكرار في ( الرحمن الرحيم)، إما للتعظيم أو للتأكيد؛ ليتقرَّر في النفس، ثالثها: حُسن الافتتاح، وبراعة المطلع؛ حيث بُدئت السورة ببسم الله. [31] براعة الاستهلال: هو أن يذكر الإنسان في أول خطبته، أو قصيدته، أو رسالته كلامًا دالًّا على الغرض الذي يقصده؛ ليكون ابتداء كلامه دالًّا على انتهائه.
انظر: "مقدمة تفسير ابن النقيب" القسم الرابع والعشرين من فنون البلاغة المتعلقة بالمعاني، "تحرير التحبير" لابن أبي الإصبع المصري ت (654هـ)، (1/ 168) باب/ حسن الابتداءات، "الإتقان" (3/ 363). [32] "روضة الفصاحة" لأبي منصور الثعالبي ت (429هـ)، تحقيق وتعليق: محمد إبراهيم سليم، نشر: مكتبة القرآن القاهرة (ص: 147) النوع السابع والثلاثين، وانظر: "العمدة" لابن رشيق القيرواني ت (364هـ)، (1/ 217، 218). [33] "التفسير الكبير = مفاتيح الغيب" للرازي ت (606هـ)، نشر: دار إحياء التراث العربي بيروت، الطبعة: الثالثة (1420هـ)، (1/ 191). [34] انظر: "روضة الفصاحة" (ص: 129) النوع الرابع والعشرين، "مقدمة تفسير ابن النقيب" (ص: 187) القسم التاسع والخمسين من فنون البلاغة المتعلقة بالمعاني. [35] انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان الأندلسي ت (745هـ)، دراسة وتحقيق وتعليق: عادل أحمد عبدالموجود وآخرين، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة: الأولى (1413هـ = 1993م)، (1/ 132). [36] عدَّ الإمام الثعالبي "التأكيد" فنًّا برأسه من فنون البلاغة، بل عدَّه من أعلى عشرة فنون فيها، وعد له ثلاثة أسباب، منها: التكرار، والقرينة، وإظهار البرهان.
انظر: "روضة الفصاحة" (ص: 55 - 57). [37] انظر: "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" لضياء الدين بن الأثير ت (637هـ)، تحقيق: أحمد الحوفي، بدوي طبانة، نشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع الفجالة بالقاهرة (3/ 3 وما بعدها). [38] "لمسات بيانية في نصوص من التنزيل" لفاضل بن صالح السامرائي، نشر: دار عمار للنشر والتوزيع عمان الأردن، الطبعة: الثالثة (1423هـ = 2003م)، (ص: 34).



شارك الخبر

المرئيات-١