أرشيف المقالات

عمل المجتهد

مدة قراءة المادة : 37 دقائق .
2عمل المجتهد
لا شك أن العالم المجتهد لعِظَم منزلته قد أناط الشرعُ به أعمالًا كثيرة، وبما أن البحث مرتبط بالشَّاطبي فإننا سنعرض لأهم الأعمال التي ذكرها الشَّاطبي، والتي لها تعلق بموضوع البحث، وأول هذه الأعمال وأهمها: الاجتهاد في المسائل والأحكام الشرعية، وهذا هو موضوع المطلب الآتي: المطلب الأول: الاجتهاد، بيانه، وحكمه لغير المجتهد: رأي الشَّاطبي: سبق بيان معنى الاجتهاد، وأنه استفراغ الوسع في تحصيل العلم، أو الظن بالحكم. وعليه، فبذل الوسع لتحصيل الحكم الشرعي هو الغاية من تحصيل شروط الاجتهاد، وهو أهم أعمال المجتهد، بل هو منبعُ أعماله؛ إذ هو الأصل الأصيل، والركن الركين. ولا شك أن عملية الاجتهاد مقصورة على المجتهد المستوفي لشروط الاجتهاد؛ ولذا كان الاجتهاد معتبرًا في حالة واحدة، وذلك إذا صدر عن أهله، كما قال الشَّاطبي: "الاجتهاد المعتبر شرعًا، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد"[1].   أما حكم الاجتهاد لغير المجتهد: فالشَّاطبي يرى أنه اجتهاد صادر عن غير أهله؛ فهو اجتهاد مَنهيٌّ عنه، وهو رأي وهوًى، وضلال وغوًى، وصاحبه آثم لا محالة[2]. قال الشَّاطبي عن أنواع الاجتهاد: "الثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه؛ لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض، وخبط في عَماية، واتباع للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه، فلا مِرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذي أنزل الله؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة: 49]، وقال تعالى: ﴿ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26]"[3]. وقال أيضًا: "ولما كان العامي حرامًا عليه النظر في الأدلة والاستنباط، كان المخضرم الذي بقي عليه كثير من الجهالات مثله في تحريم الاستنباط والنظر المعمول به، فإذا أقدم على محرم عليه كان آثمًا بإطلاق"[4].   وقد جعَل الشَّاطبي هذا التقحم المنهي عنه سبيلًا إلى الغَواية، وطريقًا إلى البدعة، لا سيما إذا وقع في كليات الشريعة؛ إذ حقيقة اجتهاد صاحبه إعمال الجزئي في هدم الكلي. قال الشَّاطبي: "فتراه آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها، حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها، ولا راجع رجوع الافتقار إليها، ولا مسلِّم لِما روي عنهم في فهمها، ولا راجع إلى الله ورسوله في أمرها؛ كما قال: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59]"[5]. وما سبب ذلك إلا الضعف في فهم مقاصد الشرع، والاتباع للأهواء، فيتخذ من متشابه الشريعة مطية له، معرضًا عن محكمها.   قال الشَّاطبي: "ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح، واطراح النصفة، والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر، ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة، وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب؛ فإن العاقل قلما يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك، مع العلم بأنه مخاطر"[6]. ومِن خلال النظر في كلام الأصوليين يتبين أنهم متفقون مع الشَّاطبي في هذه المسألة[7].   وعلى هذا، فالموضع موضع اتفاق؛ ولذلك اشترط الأصوليون هذه الشروط لنيل رتبة الاجتهاد، وألزموا العامي بسؤال أهل العلم، ولم يعتبروا الاجتهاد من ناقص الأهلية[8]، أو ممن لم يستفرغ وسعه[9]، ومَن كان غير كامل الأهلية لا يمكنه أن يستفرغ تمام الوسع. قال الشافعي: "فأما مَن تم عقله ولم يكن عالمًا بما وصفنا، فلا يحل له أن يقول بقياس؛ وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه...
وكذلك لو كان حافظًا مقصر العقل، أو مقصرًا عن علم لسان العرب لم يكن له أن يقيس من قبل نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس، ولا نقول: يسع هذا - والله أعلم - أن يقول أبدًا، إلا اتباعًا لا قياسًا"[10]. قال الجويني: "أجمعوا أنه لا يحل لكل من شدا شيئًا من العلم أن يفتي، وإنما يحل له الفتوى، ويحل للغير قبول قوله في الفتوى إذا استجمع أوصافًا...
ثم ذكر شروط الاجتهاد"[11].   المطلب الثاني: الفتوى: الفتوى في اللغة أصلها فتى، وهو أصل يدل على معنيين: الأول: يدل على طراوة وجدة. والثاني: يدل على تبيين حكم. ومن الأول: يقال: هذا فتى بيِّن الفتاء؛ أي: طري السن، والفتيُّ من الإبل: الطري. ومن الثاني: الفتيا، يقال: أفتى العالم إذا بين الحكم، وجمعها فتاوي بكسر الواو، وقيل: يجوز الفتح للتخفيف[12]، ومن هذا اشتق المعنى الاصطلاحي للفتوى.   وتعريف الفتوى في الاصطلاح لم يتطرق له الشَّاطبي؛ ولذا فسأقتصر على تعريفها عند غيره من الأصوليين، ولعل من الغريب أن تعريف الفتوى لم يحظَ بكبير عناية من قِبل المتقدمين من علماء الأصول، ولعل ذلك نتيجة وضوحها نوعًا ما، وقد عرفها القرافي بأنها: إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة[13]، وفي موضع آخر ذكر أنها: إخبار عن حكم الله الذي فهمه - يعني المفتي - عن الله عز وجل في أدلة الشريعة[14]. ومن التعريفات الممكنة للفتوى أنها: إخبار عن الله بحكمه، أو إخبار عن الله بحكمه مع معرفة دليله[15]، أو هي تبيين الحق عند السؤال[16]. وعرفها بعض المحْدَثين بأنها: إخبار عن الله تعالى عن دليل شرعي لمن سأل عنه في أمر نازل[17]. وعرفها بعضهم بأنها: بيان حكم الله تعالى بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول[18].   وهذه التعريفات متقاربة المعاني، غير أنه يمكن أن يلاحظ ما يأتي: أولًا: من التعريفات ما قيدت باشتراط أن يكون المفتي عارفًا بالدليل، ومنها ما أهملت هذا القيد، وفي نظري أنه من ماهية المفتي؛ إذ لا بد أن يكون عالمًا بدليل فتواه، ومن ليس كذلك فهو متقول بلا دليل، أو ناقل عن غيره، وليس أحدُ هذين بمُفْتٍ شرعي. ثانيًا: أن منهم من قيد الحكم الذي يخبر به المفتي بأنه حكم فهمه عن الله، ومنهم من أهمل هذا القيد وجعله مخبرًا بحكم الله، وفيه نظر، والأول أصوب؛ لأنه مجتهد في فتواه، وقد يكون على خطأ فيها، وحينئذ لا يكون مخبرًا عن حكم الله حقيقة، وإنما عن حكم الله ظنًّا منه، وكذلك القول في لفظة الحق، فإن أراد الحق مطلقًا فهذا خطأ؛ لأنه قد يفتي بما هو حق عنده، خطأ عند غيره، وقد يكون مخطئًا في حقيقة الأمر، وإن أراد بالحق المعمم حقًّا خاصًّا، والمراد الحق عند المفتي فهذا صحيح. ثالثًا: أن منهم من قيد الفتوى بالسؤال، أو بالسؤال في أمر نازل، ولا يظهر لي أن تقييد الفتوى بالسؤال فحسب وجيه؛ إذ قد يفتي العالم في حكم نازلة تطلب الأمر بيان حكمها دون أن يسأل عن ذلك، وأما تقييدها بالسؤال في أمر نازل فهو يخرج جواب العالم على سؤال التعلم عن كونه من الفتوى، ومن تأمل الكتب المؤلفة في جمع فتاوى العلماء رأى أنهم يدرجون الأجوبة التي سببها أسئلة خارجة مخرج التعلم ضمن الفتاوى؛ ولهذا أرى أن التعريف المختار للفتوى هو أنها: إخبار عن حكم الله قطعًا أو ظنًّا بدليل شرعي لسؤال أو نازلة.   وقولي: قطعًا أو ظنًّا، مفيد بأن الفتوى قد تكون في القطعي أو الظني؛ وذلك أن العالم إذا سئل عن مسألة قطعية كحكم الربا عمومًا أو الزنا أو حكم الصلاة أو الزكاة فأجاب، فإن جوابه يعتبر فتوى منه بما هو حُكم الله يقينًا، وإن كان في مسألة اجتهادية فهو لا يجزم فيها بأن ما أفتى به هو حكم الله، وإنما يغلِب على ظنه ذلك. وقولي: بدليل شرعي، يفيد أنه لا بد أن يكون في فتواه مستندًا إلى دليل شرعي، وحينئذ يكون مفتيًا عن دليل وبينة بما أفتى به، وليس ناقلًا للفتوى عن غيره. وقولي: لسؤال، يشمل سؤال التعلم وغيره مما صدر بسبب نازلة. وقولي: أو نازلة، يندرج فيه بيان العالم لحكم مسألة نازلة تطلب الأمر بيان حكمها، ولو لم يسأل عن ذلك. وقولي: لسؤال أو نازلة: يخرج بيان العالم لحكم مسألة لغير هذين الأمرين، كأن يبين الحكم في درس علمي أو نحو ذلك.   المسألة الأولى: خصائص المجتهد المفتي: لا شك أن الفتوى منزلة عظيمة في الدين، ومكانة رفيعة في الشرع، ويكفي لبيان ذلك أن المفتي موقِّع عن الله، ويكفي لمنصب الإفتاء فخرًا أنه منصب تولاه بنفسه رب الأرباب، فقال تعالى: ﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ﴾ [النساء: 127]، وكفى بما تولاه الله تعالى شرفًا وجلالة[19]، وإذا كان المفتي ينوب عن الله، وينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ولا ريب يحتل مكانة لا مثيل لها، وإذا كان كذلك، فلا غرابة أن يختص بخصائص تميزه عن غيره ممن لم يحتل تلك المكانة، وقد ذكر الشَّاطبي جملة مما يتميز به المفتي، وتطرق لها تطرقًا متميزًا، وبيان ذلك فيما يلي: رأي الشَّاطبي: ذكر الشَّاطبي أن من خصائص المجتهد المفتي أنه قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة[20]، ووارث عنه مهمة البيان؛ ولذا واجب عليه أن يقوم بالبيان بأقواله وأفعاله، وهذا هو معنى الوراثة[21]، وهو نائب عن الشارع في الحكم على أفعال المكلفين[22]، "فالمفتي مخبر عن الله كالنبي، وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي؛ ولذلك سُمُّوا أولي الأمر، وقُرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59][23]"[24]. ولذا فهو أهل للاقتداء؛ لأنه عامل بعلمه؛ فقوله مطابق لفعله، ولو لم يكن كذلك لم يكن أهلًا للاقتداء[25].   بل إن المجتهد لما أن كان قائمًا بأداء مصالح كفائية للأمة، كان في حقيقته - كما قال الشَّاطبي - خليفة الله[26] في عباده بحسب قدرته، وما هيئ له من ذلك[27]. وبمثل ما قال الشَّاطبي نقل عن سهل بن عبدالله التستري حيث قال: "من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء - عليهم السلام - فلينظر إلى مجالس العلماء...
وهذا مقام الأنبياء فاعرفوا لهم ذلك"، ونقله عنه ابن الصلاح[28]، والنووي[29]، وابن جماعة[30]، وابن القيم[31]، وأقروه على ذلك. ولا يخفى ما للمفتي من منزلة ومكانة في الدين، وقد تتابعت أقوال العلماء في الإشادة بمنزلة العلم وحامل العلم[32]، حتى سماه بعض العلماء: موقِّعًا عن الله، وخلفًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم[33].   أدلة الشَّاطبي ومن وافقه: استدل الشَّاطبي على أن المجتهد المفتي قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم بأدلة: الدليل الأول: أنه قد جاء من النقل ما يفيد ذلك، أو يفيد أن المجتهد قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه أن الله سبحانه تعالى قد سمى النبي نذيرًا، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ ﴾ [النازعات: 45]، وسمى أهل العلم بذلك فقال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 122]، وكذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم))[34]؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل العالم وريثَ النبي؛ فهو إذًا قائم مقامه، كما أن الوارث يقوم مقام الموروث[35]. وأيضًا ما جاء في الحديث: ((بينا أنا نائم أُتيتُ بقدح من لبن، فشربت حتى إني لأرى الريَّ يخرج من أظفاري، ثم أعطيتُ فضلي عمرَ بن الخطاب))، قالوا: فما أولتَه يا رسول الله؟، قال: ((العلم))[36]؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل عمر كالقائم مقامه؛ لمنزلته في العلم؛ فهو بمعنى الوارث. ونحو ذلك من الآيات والأحاديث التي أشارت إلى أن العالم في منزلة النبي صلى الله عليه وسلم[37].   الدليل الثاني: أن المفتي نائب مناب النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الأحكام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب))[38] وقوله: ((بلِّغوا عني ولو آية))[39]، وقوله: ((تَسمعون، ويُسمَع منكم، ويُسمَع ممن يَسمَع منكم))[40]. وإذا ثبت هذا، كان قائمًا مقام النبي صلى الله عليه وسلم[41].   الدليل الثالث: أن المجتهد المفتي شارع من وجه دون وجه، وبيان ذلك أن ما يبلغه من الشريعة على وجهين: إما أن يكون منقولًا عن الوحي وهو فيه مبلغ؛ فهو قائم مقام النبي في الإخبار بالأحكام، وإما أن يكون مستنبطًا من الوحي، فهو فيه قائم مقام النبي في إنشاء الأحكام، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع، فإذا كان للمجتهد أن ينشئ الأحكام عن طريق اجتهاده فهو شارع أيضًا، وإذا ثبت كونه شارعًا لزم اتباعه وقبول ما قاله، وهذا من الخلافة للنبي - صلى الله عليه وسلم. وأيضًا إذا كان ناقلًا فإنه لا بد في النقل من النظر في المنقول من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية، ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام، وهذا راجع إلى نظره واجتهاده؛ فكان في كلا الحالين قائمًا مقام الشارع. ويؤيده ما ورد: ((أن مَن قرأ القرآن، فقد أُدرجت النبوةُ بين جنبيه))[42]. وبهذا ثبت أنه قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم[43].   مناقشته: نوقش هذا الدليل: بأننا لا نسلم بأن المفتي يعتبر شارعًا للأحكام، وأنه واجب الاتباع لما يلزم من اتباع جميع المجتهدين، وهذا تناقض محض[44]. جوابه: يمكن أن يجاب بأن هذا الوجه لا يقدح في أصل المسألة، وإنما هو تعقب لرأي الشَّاطبي في إطلاقه لفظة الشارع على العالم، وكأن الشَّاطبي تبع في ذلك أهل اللغة؛ فإنهم يطلقون الشارع في اللغة على العالم الرباني العامل المعلم[45]، ولم يرد هؤلاء بذلك أنهم مصدرو الأحكام، فلا مشرع إلا الله، وإنما أرادوا أن العالم مظهِر للشرع، وهذا لا مرية فيه، غير أن الأَولى ترك هذه الكلمة[46]. وأما قول الشَّاطبي: إنه واجبُ الاتباع، ففيه تفصيل لا بد منه؛ وذلك أنه إن كان إنما أمر بمقتضى العلم فتجب طاعته، وإلا فلا[47]، ولا يلزم من ذلك التناقض؛ لأن العامي - كما يرى الشَّاطبي - عليه الاجتهاد في أعيان من يقلد من العلماء إذا اختلفت عليه فتاويهم[48].   المسألة الثانية: حُكم انتصاب المجتهد للفتوى: الانتصاب: من نصب، وهو أصل يدل على إقامة شيء، يقال: نصبت الرمح: إذا أقمته، ويقال: تنصب الغراب؛ أي: ارتفع، يعني قام في مكان مرتفع[49]. وانتصاب المجتهد للفتوى؛ أي: قيامه بها، وأداؤه لها، وفي هذه المسألة نبين رأي الشَّاطبي في حكم قيام المجتهد بالفتوى.   رأي الشَّاطبي: يرى الشَّاطبي أن من أعمال المجتهد الواجبة الانتصاب للفتوى؛ حيث يقول: "فنحن نقول: واجب على العالم المجتهد الانتصابُ والفتوى على الإطلاق، طابَق قوله فعله أم لا"[50]. وهذا الحكم عند الشَّاطبي مقيد بقوله في بيان حكم الجواب على العالم إذا سأله المتعلم: "فليس الجواب عنه بمستحق بإطلاق، بل فيه تفصيل، فيلزم الجواب إذا كان عالمًا بما سئل عنه، متعينًا عليه في نازلة واقعة"[51].   وعلى هذا فالانتصاب للفتوى في الجملة واجب على المجتهد إذا لم يكن ثم غيره ممن يقوم مقامه، أما إن كان ثم من يقوم مقامه، فلا يجب عليه الانتصاب؛ لأن الفتوى من الواجبات الكفائية التي يتعلق بها مصلحة الأمة جميعًا[52]؛ ولذا كان لازمًا على المجتهد القادر القيام بها، بل إن الشَّاطبي يرى أن على المجتهد القيام بالمصلحة العامة من فتيا ونحو ذلك إن لم يكن ثَم من يقوم بها، وإن كان يخشى مِن وقوعه في مفسدة، فالمصلحة العامة مقدمة حينئذ؛ لأنه لا سبيل إلى تعطيل المصالح العامة، وإقامة الدِّين والدنيا لا تتم إلا بذلك[53]. وقد وافق الشَّاطبيَّ على ذلك كثيرٌ من الأصوليين[54].


[1] الموافقات (5/ 131). [2] انظر: الاعتصام (1/ 107) الموافقات (3/ 213). [3] الموافقات (5/ 131). [4] الاعتصام (1/ 107). [5] الموافقات (5/ 142 - 143). [6] الموافقات (5/ 143)، وانظر: الاعتصام (1/ 160، 177 - 178، 2/ 396، 398). [7] انظر: الرسالة (511) الحاوي (16/ 118) الفقيه والمتفقه (2/ 330 وما بعدها) الإحكام لابن حزم (2/ 120، 122) اللمع (127) غياث الأمم (179 - 180) التلخيص (3/ 457) المنخول (571) قواطع الأدلة (2/ 353) إحكام الفصول (2/ 728) الإشارة (328) إعلام الموقعين (1/ 35، 4/ 156 - 157)، وانظر: بعض النقول عن بعض العلماء المتأخرين في صلاح العالم بإفتاء العالم للعمادي (28 وما بعدها). [8] انظر: صفة الفتوى (6، 12) قرة العين (86). [9] انظر: الإحكام (4/ 184) شرح المحلي على جمع الجوامع مع الآيات البينات (4/ 352 - 353). [10] الرسالة (511). [11] التلخيص (3/ 457). [12] انظر: معجم مقاييس اللغة (4/ 473) أساس البلاغة (324) المصباح المنير (2/ 462) كلها مادة: "فتى". [13] الفروق (4/ 53). [14] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (97). [15] ذكر هذين التعريفين ابن حمدان في صفة الفتوى (4) تعريفًا للمفتي، فنقلتهما بتصرف. [16] ذكر هذا التعريف المارديني في الأنجم الزاهرات (242) تعريفًا للمفتي، فنقلته بتصرف. [17] الفتيا ومناهج الإفتاء لمحمد سليمان الأشقر (9). [18] الاجتهاد في الشريعة الإسلامية لمحمد صالح موسى (202). [19] انظر: إعلام الموقعين (1/ 9). [20] انظر: الموافقات (5/ 235، 262) الاعتصام (2/ 345). [21] انظر: الموافقات (4/ 76 - 77، 5/ 253، 262) الاعتصام (2/ 345). [22] انظر: الموافقات (5/ 179، 337). [23] قد فسرها جابر، وابن عباس، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وابن أبي نجيح، بالعلماء الفقهاء، وهو اختيار مالك، وقيل: إن المراد بها الأمراء، واختار الجصاص، والقرطبي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، أنها عامة للأمراء والعلماء؛ انظر: سنن سعيد بن منصور (ت: آل حميد 4/ 1287) جامع البيان (4/ 151) جامع بيان العلم وفضله (2/ 28 - 29) الفقيه والمتفقه (1/ 126) أحكام القرآن للجصاص (2/ 264) معالم التنزيل (2/ 239) مجموع الفتاوى (11/ 551، 28/ 170) الجامع لأحكام القرآن (5/ 259) إعلام الموقعين (1/ 8) تفسير القرآن العظيم (1/ 530). [24] الموافقات (5/ 257). [25] انظر: الموافقات (1/ 141). [26] اختلف العلماء في إطلاق هذه اللفظة: فقيل بالجواز، وقيل بالمنع، وفصل ابن القيم فقال: "إن أريد بالإضافة إلى الله أنه خليفة عنه، فالصواب قول الطائفة المانعة منها، وإن أريد بالإضافة أن الله استخلفه من غيره ممن كان قبله، فهذا لا يمتنع فيه الإضافة؛ انظر للخلاف في ذلك: منهاج السنة النبوية (1/ 508 - 509) مفتاح دار السعادة (1/ 151 - 153، 162) زاد المعاد (2/ 474) معجم المناهي اللفظية (156). [27] انظر: الموافقات (2/ 301). [28] انظر: أدب الفتوى (27). [29] انظر: المجموع (1/ 44). [30] انظر: تذكرة السامع والمتكلم (35). [31] انظر: مفتاح دار السعادة (1/ 911). [32] انظر مثلًا: جامع بيان العلم وفضله (1/ 48 وما بعدها) الفقيه والمتفقه (1/ 70 وما بعدها / 105 وما بعدها) إحياء علوم الدين (1/ 13 وما بعدها) المجموع (1/ 40 وما بعدها) تذكرة السامع والمتكلم (27 وما بعدها) مجموع الفتاوى (20/ 231 - 232) إعلام الموقعين (1/ 7، 3/ 220) مفتاح دار السعادة (1/ 48 وقد أفاض في الموضوع وأطال)، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب التفسير من ذكر لفضل العلم والعالم، لا سيما حول الآيات المتعلقة بذلك، كما لا يكاد يخلو كتاب من كتب الحديث من تبويب دالٍّ على فضل العلم وأهله. [33] انظر: المجموع (1/ 73) نفائس الأصول (9/ 4092) إعلام الموقعين (1/ 8 - 9) أدب الفتوى (27). [34] رواه أبو داود في سننه كتاب العلم باب الحث على طلب العلم (4/ 57/ 3641) والترمذي في جامعه كتاب العلم باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة (5/ 48/ 2682) وابن ماجه في مقدمة سننه باب فضل العلماء والحث على طلب العلم (1/ 81/ 223) وأحمد في المسند (5/ 196) والدارمي في مقدمة سننه باب في فضل العلم والعالم (1/ 110/ 342) وابن حبان في صحيحه كتاب العلم باب الزجر عن كتبة المرء السنن مخافة أن يتكل عليها دون الحفظ لها (1/ 289/ 88) والبغوي في شرح السنة كتاب العلم باب فضل العلم (1/ 275/ 129) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - وصححه ابن حبان، وحسنه حمزة الكناني، وابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/ 63)، وضعفه بعضهم باضطراب سنده، وقال ابن حجر في فتح الباري (1/ 160): "لكن له شواهد يتقوى بها"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 694). [35] انظر: أدب الفتوى (27) تذكرة السامع والمتكلم (29) مفتاح دار السعادة (1/ 66). [36] رواه البخاري في صحيحه كتاب العلم باب فضل العلم (1/ 33/ 82) ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عمر رضي الله عنه (15/ 130/ 2391) عن ابن عمر رضي الله عنهما. [37] انظر: الموافقات (5/ 253 - 254). [38] رواه البخاري في صحيحه كتاب العلم باب ليبلغ العلمَ الشاهدُ الغائبَ (1/ 40/ 105)، ومسلم في صحيحه كتاب القسامة باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (11/ 139/ 1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه. [39] رواه البخاري في صحيحه كتاب أحاديث الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل (4/ 175/ 3461) عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. [40] رواه أبو داود في سننه كتاب العلم باب فضل نشر العلم (4/ 68/ 3659) وأحمد في مسنده (1/ 321) وابن حبان في صحيحه كتاب العلم (1/ 263/ 62) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (207/ 92) والحاكم في المستدرك كتاب العلم (1/ 95) والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الشهادات باب الشهادة على الشهادة (10/ 250) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، وليس له علة"، وأقره الذهبي، وقال العلائي في جامع التحصيل (52): "الحديث حسن...
وفي كلام إسحاق بن راهويه الإمام ما يقتضي تصحيحه أيضًا"، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (4/ 340/ 2947)، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 389/ 1784). [41] الموافقات (5/ 245 - 255). [42] رواه الحاكم في المستدرك كتاب فضائل القرآن (1/ 552) والبيهقي في شعب الإيمان باب في تعظيم القرآن (2/ 522/ 2591) من طريق ثعلبة بن يزيد عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - مرفوعًا، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وأقره الذهبي والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 325)، وقد جاء موقوفًا على عبدالله بن عمرو، رواه أبو عبيد في فضائل القرآن باب حامل القرآن وما يجب عليه أن يأخذ به من أدب القرآن (1/ 289/ 117 - 118). [43] انظر الموافقات: (5/ 255 - 256). [44] انظر: تعليق مشهور حسن على الموافقات (5/ 255). [45] انظر: لسان العرب (7/ 87) القاموس المحيط (946) تاج العروس (11/ 240) كلها مادة "شرع". [46] انظر: تغير الفتوى لبازمول (58) وللفظة شارع انظر: معجم المناهي اللفظية (303). [47] انظر: إعلام الموقعين (1/ 8). [48] انظر: ص 823 من هذا البحث. [49] انظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 434) القاموس المحيط (176) مادة: "نصب". [50] الموافقات (5/ 273)، وانظر منه: (2/ 411، 5/ 265). [51] الموافقات (5/ 372). [52] انظر: الموافقات (2/ 301 - 302). [53] انظر: الموافقات (3/ 95)، وانظر: الاعتصام (1/ 249). [54] انظر: اللمع (127) قواطع الأدلة (2/ 303، 355) أدب الفتوى (58) المجموع (1/ 53، 79) صفة الفتوى (6) المسودة (512) معيد النعم (67) كشف الأسرار (4/ 26 - 27) البحر المحيط (6/ 207) الإنصاف (11/ 190) التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 292) تيسير التحرير (4/ 179 - 180) فواتح الرحموت (2/ 362 - 363) إرشاد الفحول (422).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن