أرشيف المقالات

التقنين بين الاجتهاد والتقليد

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2التقنين بين الاجتهاد والتقليد
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه. أما بعدُ: فهذا تسليطٌ خفيف للضوء على مسألة متعلِّقة بالاجتهاد والتقليد، وهذه المسألة تُسمى بلُغة عصرنا (التقنين)، الذي هو إلزام الحاكم أو القاضي بتقليد حكمٍ شرعي في مسائل تتجاذبها الأدلةُ الشرعية، وقد بحَث هذه المسألةَ الكثيرُ من العلماء المعاصرين بين معارضٍ لها ومُجيز، وقد اخترتُ رسالة "التقنين والإلزام"؛ للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله، المنشورة ضمن كتاب (فقه النوازل)، فاختصرتُها في هذه الصفحات، وأنهيتُ هذا المختصر بخلاصة أبديتُ فيها رأيي الشخصيَّ في هذه المسألة.   تاريخ نشوء الفكرة: قيل: إنَّ أول من أنشأ هذه الفكرةَ هو الأديب عبدالله بن المقفع، وقد وردت روايات عن الإمام مالك في مسألة جمع الناس على رأي واحد، ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن هذه الفكرة كانت معطَّلة، حتى اتَّجهت الحكومة العثمانية في أواخر القرن الثالث عشر الهجريِّ إلى إخراج قانون معاملات يتلاءم ورُوحَ العصر، مقيَّدًا بالمذهب الحنفي.   ومما يدل على أن فكرة جمع الناس على مذهب معيَّن غيرُ مقبولة عند العلماء والأئمة السابقين - تفنيدُهم لها في مصنفاتهم؛ كابن عبدالبر والشاطبي، وابن القيم وابن تيميَّة، والشوكاني والشنقيطي.   من أدلة الملزمين: أولًا: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59]، ووجه الدلالة أن وليَّ الأمر وجبَت طاعته فيما لا يتعارض مع أحكام الشريعة وليس بمعصية، والإلزام بالتقنين غيرُ داخل في الأمرين.   ثانيًا: عمل عثمان رضي الله عنه في جمع الناس على مصحف واحد قطعًا للخلاف.   ثالثًا: الأصل في الشريعة أن تكون معلومة لتكون مُلزِمة.   رابعًا: التقنين يكون باختيار جماعة من علماء العصر، والإجماع بقول الأكثر من أهل العصر في قول الجمهور.   خامسًا: ما يترتب على الإلزام من مصالح ويَندفع به مِن مفاسد؛ من ذلك: • الأحكام الواجبة التطبيق بالإلزام تكون محدَّدة، وهذا أدعى إلى تحقيق العدالة والتيسير على الناس. • عدم التدوين كان سببًا لتهرُّب بعض المدَّعين من المحاكم الشرعية إلى محاكم فرنسا. • وجود الخلاف في المذهب الواحد، فقد تُخرَّج قضية واحدة على قولين، فيحكم القاضي بالتشهِّي، وفي الإلزام بأحكام معينة دَفْعٌ لذلك. • وقوع تجاذُب بين حاكم القضية ومُدقق الحكم؛ من حيث تطبيق الحكم الشرعيِّ على واقع القضية؛ مما يُحدِثُ ضررًا واضحًا. • ليس الكثير مَن يتمكَّن من بلوغ مرتبة الاستنباط.   الجواب على بعض أدلة الملزمين: أولًا: الاستدلال بالآية غير متوجه؛ وذلك أن الله تعالى أمَر بطاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحذف فعل الطاعة من أُولي الأمر؛ لأنها تابعة لطاعة الله ورسوله، والطاعة لا تكون إلا في المعروف، وعلى ذلك لا يجوز لمن استبانَت له سُنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يَدَعَها لقولِ غيره.   ثانيًا: أما عن فِعل عثمان رضي الله عنه، فهو جمع الناس على حرف واحدٍ لا على قراءةٍ واحدة، ثم إن هذا قياس مع الفارق؛ فالصحابة أجمعوا على صِحة فِعل عثمان، بينما ثبَت عنهم الخلاف في الكثير من المسائل، ومن الفوارق أنه لا خلاف في وجوبِ العمل بالقراءات الصحيحة، بخلاف التقنين فإنه يُلغي العمل بالأدلةِ.   ثالثًا: أما القول: إن الشريعة الأصل فيها أن تكون معلومة لتكون ملزمة، ففيه إجمال لمعنى العلم، وأيًّا كان المعنى، فهو خارج عن مَحل البحث، أو وجه ضعيف لا يقول به قائلٌ من أهل العلمِ.   رابعًا: أما عن أن التقنين الملزَم به يكون اختيار أحكامه باتفاق أكثر مجتهدي العصر، ويَكتسب الإجماع، فيقال: إن الإجماع لا يَنعقِد بقول الأكثرين من أهل العصر في قول جمهور أهل العلم.   خامسًا: أما عن عدم بلوغ الكثير من القضاة رُتبةَ الاجتهاد، فمذهب الجمهور أن يكون القاضي عارفًا بالأصول التي تَرجِع إليها الأحكام، لا أن يكون عالِمًا حُكمَ كلِّ قضيةٍ بعينِها، فيُولَّى الأمثلُ فالأمثلُ.   من أدلة المنع من الإلزام: أولًا: إن الله تعالى أمر بالتحاكم بالقسط، فإذا ظهر للمجتهد الحاكم حكمٌ يُقابل القول الملزمَ به، فصار القسط والعدل أن يَحكمَ وَفْق مُعتقده، لا بما أُلزِم به.   ثانيًا: إن الله تعالى بيَّن المرجع عند التنازع، وهو الرد إلى الله وإلى رسوله، لا إلى شيء آخر.   ثالثًا: إن مبنى الشهادتين على تجريد الإخلاص لله تعالى، وتجريد المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وفي التقنين الملزم توهينٌ لتجريد المتابعة؛ إذ إن حكمَ القاضي على خلاف ما يَعتقده، تقديمٌ لقولِ غير المعصوم على ما يَعتقده عن المعصوم.   رابعًا: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة))، وفيه: ((رجل عرَف الحق فلم يَقضِ به، وجارَ في الحكم، فهو في النار))، ففيه بيان الوعيد للقاضي إذا حكم على خلاف ما يعتقده حقًّا؛ لأنه عملٌ مُحرَّم؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويجب على القاضي أن يَعملَ بموجبِ اعتقاده فيما له وعليه إجماعًا".   خامسًا: إن هذا الإلزام بقول مُقنن، لم يَسبِق الحملُ عليه في صدر الإسلام، ولا في القرون المفضَّلة، بل المعهود عنهم خلافُه.   سادسًا: ما يترتب عن الإلزام من مفاسد؛ منها: • حال التقنين لم يَثبت على وتيرة واحدة، بل هو بين المد والجزر. • العمل به على خلاف الإجماع. • ظلم النفس بترك الحق لغيره بلا مرجِّح.   • إن القاضي واحد من اثنين: إما مجتهد أو مقلِّد؛ فالمجتهد لا يُمكن قَبوله الإلزامَ، والمقلد لا يَعتقد إلا تقليدَ إمامه الذي قلَّده وأخَذ مذهبه، وهو من أئمة القرون المفضلة، والمقننة ليست كذلك، فلا يُمكن أخذه بها؛ مما يُفضي إلى تخلِّي القضاة عن تولِّي ولاية القضاء.   • إن في التقنين الملزم به حَجْرًا على الأحكام الاجتهادية؛ إذ يمنع مثلًا تغيُّر الفتوى بتغيُّر الزمان.   • عدم إمكانية تقييد الأعراف؛ لأنها تختلف باختلاف البلدان، وكثير من الأحكام الشرعية متروكٌ ضبطُها إلى الأعراف. • تَحوُّل القاضي إلى آلة. • تكثر الشكوى من قِلة المجتهدين، لكن في هذا الإلزامقضاء على هذه القلة، لقطع طريق العلم والحِرمان من استقلال النظر. • إن في هذا الإلزام هجرًا للمكتبة الإسلامية، وتضييعًا لجهود علمائها ورجالها.   الخلاصة: بعد سرد الخلاف وأدلة الطرفين باختصار، تبيَّنَ لي: 1- أن التقنين ليس نازلة من النوازل؛ وإنما هو - من حيث الأصل - امتداد لفعل الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، ولا سيما في بعض المسائل العامة.   2- ينبغي التفرقة بين المفتي والقاضي؛ فالمفتي غيرُ ملزم بالتقنين، بينما القاضي يُلزَم بذلك.   3- توسُّع الدول الإسلامية، وانقسامها إلى دول مستقلة - حرَسها الله وحفِظها من كل سوء - يَستدعي توحيد أحكام القضاء داخل الدولة نفسها، وهذا لا يتمُّ إلا بالتقنين.   4- التقنين لا يُلغي الاجتهاد، ففي حال وجود النوازل وتجدُّد القضايا، فلِعلماء الأمة أو البلد الواحد الاجتهادُ في القضية، والخروج بحكم شرعيٍّ واحد، ولا سيما إذا كانت من اختصاص هيئات القضاء.   5- التقنين لجهازِ القضاءِ داخل البلد الواحد، يقطعُ النزاع والفتن، ويحافظ على جماعة المسلمين، وهذه مِن المقاصد المهمة للشرع. والله تعالى أعلمُ، وصلى الله وسلم وبارَك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن