أرشيف المقالات

المفاضلة بين الأعمال

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2المفاضلة بين الأعمال
إن من حكم الله عز وجل الباهرة في شريعته أنك ترى الرجل يعمل عملًا فاضلًا في وقت ما، ثم إنك تجد نفس العمل من نفس الرجل مفضولًا في وقت آخر، وقد يعمل اثنان عملًا واحدًا فيسبق أحدهما الآخر، والأعجب من هذا أن يسبق مقلٌّ مكثرًا وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "سبق درهم مائة ألف درهم".
قالوا: وكيف؟ قال: "كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما وانطلق رجلٌ إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها". ومن هنا كان الحديث هنا عن أوجه المفاضلة بين الأعمال والعوامل التي تؤثر في أفعال المكلفين فتجعل عملًا أفضل من آخر.
قال أبو محمد بن حزم: "إن العامل يفضل العامل في عمله بسبعة أوجهٍ لا ثامن لها: وهي المائية "وتعني الماهية"، وهي عين العمل وذاته، والكمية وهي العرض في العمل، والكيفية، والكمُّ، والزمان، والمكان، والإضافة.
1- فأما المائية: وهي أن تكون الفروض من أعمال أحدهما موفاة كلها، ويكون الآخر يضيع بعض فروضه وله نوافل، أو يكون كلاهما وفى جميع فرضه، ويعملان نوافل زائدة، إلا أن نوافل أحدهما أفضل من نوافل الآخر، كأن يكون أحدهما يكثر الذِّكر في الصلاة والآخر يكثر الذِّكر في حال جلوسه وما أشبه هذا، وكإنسانين قاتل أحدهما في المعركة والموضع المخوف، وقاتل الآخر في الردة، أو جاهد أحدهما واشتغل الآخر بصيام وصلاة تطوع، أو يجتهدان، فيصادف أحدهما ويحرمه الآخر؛ فيفضل أحدهما الآخر في هذه الوجوه بنفس عمله، أو بأن ذات عمله أفضل من ذات عمل الآخر فهذا هو التفاضل في المائية من العمل.
2- وأما الكمية: وهي العرض في العمل، كأن يكون أحدهما يقصد بعمله وجه الله تعالى، لا يمزج به شيئًا البتة، ويكون الآخر يساويه في جميع عمله إلا أنه ربما مزج بعمله شيئًا من حُبِّ البر في الدنيا، وأن يستدفع بذلك الأذى عن نفسه وربما مزجه بشيء من الرياء، ففضله الأول بعرضه في عمله.
3- وأما الكيفية: كأن يكون أحدهما يوفي عمله جميع حقوقه ورتبه، لا منتقصًا ولا متزايدًا، ويكون الآخر ربما انتقص بعض رتب ذلك العمل وسنته، وإن لم يعطل منه فرضًا، أو يكون أحدهما يصفي عمله من الكبائر، وربما أتى الآخر ببعض الكبائر ففضله الآخر بكيفية عمله"[1].
وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الفضل بنفس العمل وجودته لا بقدره وكثرته، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30]، ورُبَّ تسبيحة من إنسان أفضل من ملء الأرض من عمل غيره، وكان إدريس عليه السلام يرفع له في اليوم مثل عمل جميع أهل الأرض، وإن الرجلين ليكونان في الصف وأجر ما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض، وقد روي أن أنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبِّحين"[2].
ثم يقول ابن حزم: 4- وأما الكمُّ: كأن يستويا في أداء الفرض، ويكون أحدهما أكثر نوافل، ففضله هذا بكثرة عدد نوافله، كما روي في رجلين أسلما وهاجرا أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استشهد أحدهما وعاش الآخر بعده سنة ثم مات على فراشه فرأى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما في النوم - وهو آخرهما موتًا - في أفضل من حال الشهيد فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم كلامًا معناه: "فأين صلاته وصيامه بعده"[3].
ففضل أحدهما الآخر بالزيادة التي زادها عليه في عدد أعماله.
5- وأما الزَّمان: كمن عمل في صدر الإسلام، أو في عام المجاعة، أو في وقت نازلة بالمسلمين، وعمل غيره بعد قوة الإسلام، وفي زمن رخاء وأمن، فإن الكلمة في أول الإسلام والتمرة والصبر حينئذ وركعة في ذلك الوقت؛ تعدل اجتهاد الأزمان الطوال وجهادها، وبذل الأموال الكثيرة بعد ذلك، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه"[4]، فكان نصف مد شعير أو تمر في ذلك الوقت أفضل من جبل أحد ذهبًا ننفقه نحن في سبيل الله عز وجل بعد ذلك.
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾  [الحديد: 10] ....
وكذلك القليل من الجهاد والصدقة في زمن الشدائد أفضل من كثيرهما في وقت القوة والسعة، وكذلك صدقة المرء بدرهم في زمان فقره وصحته يرجو الحياة ويخاف الفقر، أفضل من صدقة الغني بالكثير يتصدق به في عرض غناه، وفي وصيته بعد موته، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "سَبق درهم مائة ألف درهم".
قالوا: وكيف؟ قال: "كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما وانطلق رجلٌ إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها"[5].
وكذلك صبر المرء على أداء الفرائض في حال خوفه ومرضه وقليل تنفُّله في زمان مرضه وخوفه؛ أفضل من عمله وكثير تنفُّله في زمان صحته وأمنه، ففضل من ذكرنا غيرهم بزمان عملهم، وكذلك من وفق لعمل الخير في آخر أجله، هو أفضل ممن خلط في آخر أجله.
6- وأما المكان: فالصلاة في المسجد الحرام أو مسجد المدينة أو المسجد الأقصى فهما أفضل من ألف صلاة فيما عداهما وتفضل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة درجة وكصيام في بلد العدو أو في الجهاد على صيام في غير الجهاد ففضل من عمل في المكان الفاضل غيره ممن عمل في غير ذلك المكان بمكان عمله وإن تساوى العملان.
7- وأما الإضافة: فركعة من نبي أو ركعة مع نبي، أو صدقة من نبي أو صدقة معه، أو ذكر منه أو ذكر معه، وسائر أعمال البر منه أو معه، فقليل من ذلك أفضل من كثير الأعمال بعده، ويبين ذلك قول المولى سبحانه وتعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ﴾ [الحديد: 10]، وإخباره صلى الله عليه وسلم أن أحدنا لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ نصف مد من أحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وبهذا قطعنا على أن كل عمل عملوه بأنفسهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لا يوازي شيئًا من البر عمله ذلك الصاحب بنفسه مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا ما عمله غير ذلك الصاحب بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان غير ما نقول لجاز أن يكون أنس وأبو أمامة الباهلي وعبد الله بن أبي أوفى وعبد الله بن بسر وعبد الله بن الحارث بن حزم وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وأبي عبيدة وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ وعثمان بن مظعون وسائر السابقين من المهاجرين والأنصار المتقدمين رضي الله عنهم؛ لأن بعض أولئك عبدوا الله عز وجل بعد موت أولئك بعضهم بعد موت بعض بتسعين عامًا فما بين ذلك إلى خمسين عاما وهذا ما لا يقوله أحد يعتد به... فهذه وجوه الفضائل بالأعمال التي لا يفضل ذو عمل ذا عمل فيما سواها البتة.
ويترتب على هذه الوجوه التي ذكرناها أمران: أحدهما: إيجاب الله عز وجل تعظيم الفاضل في الدنيا على المفضول، فهذا الوجه يشترك فيه كل فاضل بعمل أو اختصاص مجرد بلا علم، من عرض أو جماد أو حي ناطق أو غير ناطق، وقد أمرنا الله عز وجل بتعظيم الكعبة والمساجد ويوم الجمعة والشهر الحرام وشهر رمضان وناقة صالح وإبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الله والملائكة والنبيين - عليهم صلوات الله وسلامه - والصحابة أكثر من تعظيمنا وتوقيرنا لأي شيء آخر، فكل ما هو مأمور بتعظيمه فاضل وكل فاضل فمأمور بتعظيمه.
الثاني: هو إيجاب الله عز وجل للفاضل درجة في الجنة أعلى من درجة المفضول، إذ لا يجوز عند أحد من خلق الله عز وجل أن يأمر بإجلال المفضول أكثر من إجلال الفاضل، ولا أن يكون المفضول أعلى درجة في الجنة من الفاضل، ولو جاز ذلك لبطل معنى الفضل جملة، ولكان لفظًا لا حقيقة له، ولا معنى تحته، وهذا الوجه الثاني الذي هو علو الدرجة في الجنة هو خاصة لكل فاضل يعمل فقط من الملائكة والإنس والجن"[6].


[1] الفصل في الملل والأهواء والنحل "4/ 91 - 92".
[2] مجموع الفتاوى، ابن تيمية "4/ 397".
[3] أخرجه أبو داود ح "2526"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، ح "2278".
[4] أخرجه البخاري، ح "3673"، ومسلم، ح "3682". [5] سبق تخريجه.
[6] الفصل في الملل والأهواء والنحل: أبو محمد بن حزم الظاهري "4/ 92 - 94" بتصرُّف.




شارك الخبر

المرئيات-١