أرشيف المقالات

روعة الفجر

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
للفجر بريقٌ خاص، سرٌّ من هيبةٍ وبهاء، لا يدركه إلا الأنقياء، فالفجر عابرٌ غريبٌ، لا يكشف عن نفسه إلا لمن كانت نفسه شفَّافةً صافية، لا شوائب فيها ولا عوالق ولا تعرُّجات، مُترفِّعة عن التشعُّبات، تعلو فوق كلِّ زلَّة.
 
الفجر ُ حياة القلوب ، ومحورُ المتدافعاتِ والمتداخلات، هو سرُّ اندماجِها وتفكُّكها...
الفجرُ مركز كل انطلاقة، وبداية تجدُّد الحركة والولادات الطويلة المتكررة...
الفجر نهاية الليل المعتم، وبداية النور المتجدِّد المتخفي وراء الظُّلمة...
مغبونٌ مَنْ لا يقدر أن يرى روعة الفجر، من لم يتمكَّن ولو مرةً من تلمُّحِ نور النهار يتسلَّل رويدًا رويدًا عبر نافذة الفجر المستكينة، ويعانق شمس الشروق تطلُّ بوجهها الدافئ الحاني؛ محرومٌ مغلوبٌ على أمره.
 
أن ترقبَ الصبح القريب يتسلَّل عبر دائرة حياتك السحرية المغشاة بالضباب...
أن تلمس خيط العتمة القاني ينسحب من بطانية الليل رويدًا رويدًا حسيرًا كسيرًا، لتحلَّ مكانَه أنوارُ الضحى المتلألئة بعد اجتياز سكينةٍ عائمةٍ مبحرة تمخر عباب السحَر...
أن تستظلَّ بفيء شجرة، ولو على بُعْد أميال، أو عبر صدى الخيال...
 
أن ترقب ولادة زهرة جديدة، تفتَّحت للتوِّ وأعلنت عن براءتها، عن عطرها الزاكي بمنتهى البهجة والعطاء...
ذاك اصطفاء واغتناء...
ذاك ملكٌ حصريٌّ لا يناله إلا الأخيار والمصطفَون...
أن تنطلق ليومك البهيِّ على مهل، تسير على حبل الصفاء ساكنًا متبخترًا، لا شيء يُعيقك أو يدفعك لتركض...
أن تظل مستمسكًا بعروة السكينة الوثقى حتى النهاية، ذاك هو الفجر بأبهى صوره...
 
أن تُسدل الستار على عنقود غضبٍ تدلَّى منك ذات غفلة...
أن تقتلع حبَّاته حبَّةً تلو حبة...
أن تمضغها بكلِّ حبٍّ وأريحيَّة...
أن ترشَّ الماء على نبتةٍ تسلَّقت جذع الغياب وغدت كئيبة، أن تنعشها عن سابق إصرارٍ وترصُّد...
ذاك هو الفجرُ بلا ريب!
 
أن تتلوَ آياتٍ من الذكر الحكيم...
أن تتفتَّح في داخلك حدائقُ غنَّاء، وجنات فاضت صفاءً وسعادة وأزهارًا غير مقطوفة...
أن تعلن للضوء عن بداية حلم جديد سافر فيك منذ مدة...
أن تخبره بأنك قررتَ أخيرًا أن تدعوه ليدوس أرض الحقيقة، ويحط على بارقة من سطوح الأمل...
أن تُرافقه بكل اندفاعك، ممسكًا يده بقوَّة؛ لئلا يفلت منك على حين غِرَّة ويضيع...
أن تنزع من ذاكرةٍ تماهت فيك كلَّ ما يعيق جمال رُوحك، ويُواري تورُّد وجْنتَيْكَ...
أن تلتمس بياضًا في قلوب جفَّت وداهَمَ غُصنَها اليباسُ...
أن تُعطيها كامل الأسباب لتُزهر، وتعطيكَ حبَّاتٍ جديدة...
ذاك هو الفجر بكل بساطة..
 
أن تعود نقيًّا كقطرات الندى...
أن تتساقط على امتدادِ العشب الذابل، ترويه بكلِّ محبة، بغير إسرافٍ ولا تقطير...
 
أن يطرق سمعَك صوتُ الأذان الصاعد من مئذنةٍ لامست أقصى مداها...
أن تصعد رُوحك معها بكل ما أوتيَتْ من اندفاعٍ وطُمأنينة، وتعود محمَّلةً بأنوارٍ لا تعرف الانطفاء...
أن تصير (الله أكبر) لكَ عنوانًا ودليلًا...
أن يصير الذكر نفَسًا من أنفاسك دون علمكَ...
 
أن تندمج مع الخرير والعبير والزفير، مع الجداول والسكنات...
أن تسير بعكس هواك...
أن تحاول تشتيت حزن مضى عبيرُه، فغدا كئيبًا وحيدًا حبيسَ الذاكرة...
أن تمنَّ عليه بقطراتٍ من فرح، وبسمات شفيفة متساقطة، لست ضنينًا بها...
أن تتأمَّل عمق السماء، تُفتِّش عن نجمة بين الحنايا والطيَّات وأجنحة الطيور السابحة السارحة، تمسُّها بيديك...
أن تسمع صوت سيَّارة أُدير مُحرِّكُها للتوِّ...
أن يصير الصوت الهادر نغمًا، يصفو ويسكن في وجدانك...
 
أن تتنفس الهدوء النابض يعلو شيئًا فشيئًا مُغمِضًا عينيكَ، لترى سرورك واندهاشك، وعلى قلبك فرحٌ يطفو...
أن تنتزع الفرحة العارمة من قلب المشهد الحي الرحيب وتوزِّعها على كل قلب بائس كئيب يمر أمامك، أو يلامس ناظريك...
ذاك هو الفجرُ المعلَن...
 
صحوة البركةِ الدافقة، وتفجُّر الحياة بأبهى معانيها...
ديكٌ موقنٌ فصيح يُسبِّحُ ويصيح؛ ليوقظ المؤمنين للصلاة...
رائحة الفجر الباهرة المنعشة، وصوتُه الحلو الناعم حين يتنهَّد قبل الضجيج بهمسةٍ ليس إلَّا.
 
الفجر هو اجتياز النفق الضيِّق، ورؤية الحياة الحلوة الشاسعة على وسعها...
 
الفجر أن تصيرَ حرًّا من قيودكَ وأفكارك، من كلماتك وأنفاسكَ والهفوات، من كل ظلٍّ شاحبٍ عابر قد يُشتِّت انطلاقك أو يعرقل خطاك إبَّان المسير...
الفجر أن تصحو صامتًا يقظًا والغافلون نيام، وأن تُجدِّد النية والعهد والقيام؛ ليغفو الكلام، وترتاح رُوحك...
 
الفجر أن تعود طفلًا هاربًا يحبو، يكبر قليلًا ثمَّ يتلاشى ليعود لنقطة البداية من جديد...
وهكذا دواليك، دون أن تلطِّخه الأوهام بإحدى معانيها؛ بل يمنُّ عليها هو بما أوتي من براءة نفسه، وخضرة رُوحه، وازدهار معانيه...
 
فكن من أهل الفجر، تعِش هنيًّا سالِمًا أبدَ الدهر...

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١