أرشيف المقالات

تفسير الربع الأخير من سورة العنكبوت

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
2سلسلة كيف نفهم القرآن؟[ 1] الربع الأخير من سورة العنكبوت
الآية 46: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ - وهُم اليهود والنصارى - فلا تجادلوهم في الدين ﴿ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ يعني إلا بأحسن طُرُق المُجادَلة (مِن الرِفق واللِين والقول الجميل، والدعوة إلى الحق بأيسر الطرق الموصلة لذلك، وتَجنُّب الغضب أثناء الجدال) ﴿ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾: يعني إلا الذين أعلَنوا الحرب عليكم، فهؤلاء قاتِلوهم حتى يؤمنوا أو يَدفعوا لكم الجِزْيَةَ التي تفرضونها عليهم، (واعلم أنّ الجِزْيَة هي قَدْر مالي مُحَدَّد يَدفعه أهل الكتاب لِوُلاة أمور المسلمين في كل سنة مقابل حمايتهم)، ﴿ وَقُولُوا ﴾ لأهل الكتاب: ﴿ آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ (وهو القرآن) ﴿ وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾ (وهي التَوراة والإنجيل)، ﴿ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ﴾ (وهو اللهُ الواحد الأحد الصمد، الذي لا شريكَ له ولا ولد) ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ أي خاضعونَ له بالطاعة والانقياد.   الآية 47، والآية 48: ﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ يعني: وكما أنزلنا الكتب على الرُسُل التي قبلك أيها الرسول، فكذلك أنزلنا إليك هذا الكتاب الموافق للكتب السابقة (فهو مُصدقٌ لما فيها مِن صِحَّة، ومُبيِّنٌ لِما فيها من تحريف)، ﴿ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ مِن بني إسرائيل (كعبد الله بن سَلام وأصحابه) ﴿ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أي يؤمنون بالقرآن (لأنهم عرفوه حق معرفته)، ﴿ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ يعني: ومِن هؤلاء العرب - من قريش وغيرهم - مَن يؤمن بالقرآن، (ويُحتمَل أن يكون المقصود: ومِن هؤلاء المشركين مَن سيُؤمن بالقرآن مُستقبَلاً، وبالفِعل، فقد آمَنَ كثيرٌ منهم)، ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ﴾ أي: لا يُنكر القرآن وبراهينه الواضحة إلا الجاحدونَ المُعانِدون.   ♦ ومِن مُعجزاتك أيها الرسول أنك: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ يعني إنك لم تقرأ كتابًا قبل نزول القرآن عليك، ولم تكن تكتب حروفًا بيمينك (لأنك لا تعرف القراءة ولا الكتابة)، ولو كنتَ قارئًا أو كاتبًا مِن قبل أن يُوحَى إليك ﴿ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾: أي لَشَكَّ هؤلاء المُعانِدونَ (الذين يريدون إبطال نُبُوّتك)، ولَقالوا: تَعَلَّمه مِن الكتب السابقة (ولكنهم يَعلمون أنك نشأتَ بينهم أُمِّيّاً، وكذلك أهل الكتاب يَجدون في كُتُبهم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لا يَكتب ولا يَقرأ)، فلذلك لم يَبقَ لهم ما يَحتجّون به، فللهِ الحمدُ والمِنّة.   الآية 49: ﴿ بَلْ هُوَ ﴾ أي القرآن ﴿ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ - أي واضحات الدِلالة - ﴿ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾: أي يَحفظه العلماء في صدورهم، ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ (وهم الذين يَعلمون الحق ثم يميلون عنه، لأنه لا يوافق أهوائهم الفاسدة).   ♦ ويُحتمَل أن يكون المقصود مِن قوله تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ يعني: بل الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته مذكورة في بعض آيات التوراة والإنجيل، محفوظة في صدور علماء أهل الكتاب،  ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا ﴾ التي في التوراة والإنجيل والقرآن ﴿ إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ وهم المادِّيون من اليهود والنصارى، الذين يأكلون ويَترأّسون على حساب الحق والعياذ بالله.   الآية 50: ﴿ وَقَالُوا ﴾ أي قال المُشركون: ﴿ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾: يعني: هَلاَّ جاءته مُعجزات مَحسوسة مِن عند ربه (كَعَصا موسى وناقة صالح)، ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾: يعني إنما هذه المُعجزات مِن عِند الله تعالى، فهو القادر على المَجيء بها إذا شاء، أما أنا فلا أملك ذلك، ﴿ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ ﴾: أي أخوّفكم مِن عذاب اللهِ تعالى إن لم تؤمنوا، ﴿ مُبِينٌ ﴾ يعني أوضِّح لكم طريق الحق من الباطل.   الآية 51: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ﴾: يعني ألم يَكْفِ هؤلاء المشركين - ليَعلموا صِدقك أيها الرسول - ﴿ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ (ليتفكروا في حُجَجه وأدلته وقوة بيانه وبلاغته؟!) ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ أي في هذا القرآن ﴿ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي رحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وذِكرى يتذكرون بما فيه من عِبَر ومَواعظ.   الآية 52: ﴿ قُلْ ﴾ لهم: ﴿ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا ﴾ أي شاهداً على صِدق رسالتي، فشهادته تعالى لي بالنُبُوّة هي ما أعطاهُ لي من المُعجِزات الباهرات (كانشقاق القمر وغير ذلك)، وكذلك وَحْيُهُ إليَّ بهذا القرآن الذي أُنذِرُكُم به، والذي لا يستطيعُ أن يقوله بَشَر، وأنتم تعلمون ذلك لأنكم أبْلغ البَشَر.   ♦ وهو سبحانه ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ (ومِن ذلك عِلْمه سبحانه بتكذيبكم بهذا الحق الواضح الذي أرسَلني به إليكم)، ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ ﴾ - رغم هذه الأدلة الواضحة على استحقاق الله وحده للعبادة- ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ الذين استبدلوا النعيم المُقيم بالعذاب الأليم.   الآية 53: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾ أي يَستعجلك كفار قريش بالعذاب الذي أنذرتَهم به (استهزاءً وتكذيباً)، ﴿ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ يعني: ولولا أنّ اللهَ جعل لعذابهم وقتًا معلوماً لا يتقدم ولا يتأخر، لَجاءهم العذاب حين طلبوه ﴿ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً ﴾ أي فجأة ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ - سواء في الدنيا أو في الآخرة - فقد جاءهم عذاب بدر فجأة، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ﴾، وكذلك سيأتيهم عذاب النار فجأة، كما قال تعالى: ﴿ بَلْ تَأْتِيهِمْ ﴾ أي النار ﴿ بَغْتَةً ﴾ أي فجأة ﴿ فَتَبْهَتُهُمْ ﴾ أي يَتحيَّرون عند ذلك ويَخافون ﴿ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ﴾ ﴿ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ أي لا يُمْهَلون للتوبة والاعتذار.   الآية 54، والآية 55: ﴿ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾ - وهو آتيهم لا مَحالة - ﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ إذ تَضِيقُ عليهم ضِيقاً شديداً، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ﴾ (أي: دَعَوا على أنفسهم بالهلاك)، ويُغَطِّيهم عذابها مِن فوق رؤوسهم ومِن تحت أقدامهم، كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾، وتُفَصَّل لهم ثيابٌ من نار تغطي أجسادهم، كما قال تعالى: ﴿ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَار ﴾، ﴿ وَيَقُولُ ﴾ اللهُ لهم وهم يُعَذَّبون: ﴿ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾: أي ذوقوا جزاءَ ما كنتم تعملونه من الشِرك والمعاصي، (أَعَاذَنا اللهُ وإخواننا المؤمنينَ من جهنم).   الآية 56، والآية 57: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ (والمَعنى: إن كنتم أيها المؤمنون في ضِيقٍ من إظهار الإيمان وعبادة الله وحده، فهاجِروا إلى أرض الله الواسعة، ولا ترضوا بالبقاء مع الكفار حتى لا يُجبروكم على عبادة غيري).   ♦ ولا يَمنعكم الخوف من الموت ألاَّ تهاجروا في سبيلي، فـ ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ أي ستذوق مَرارة مُفارقة الروح للجسد (سواء المهاجر أو غيره) ﴿ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ فنُثِيبكم على هِجرتكم وصَبركم، بمختلف أنواع النعيم في الجنة.   الآية 58، والآية 59: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ - بإخلاصٍ للهِ تعالى، وعلى النحو الذي شَرَعه - ﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا ﴾ يعني: لَنُسكِننَّهم من الجنة غُرَفًا عالية ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ أي تجري أنهار الماء واللبن والعسل والخمر من تحتها ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ (فحياتهم فيها أبديةٌ، وفرْحَتهم فيها لا توصَف)، ﴿ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ يعني نِعْمَ جزاءُ العاملينَ بطاعة الله: هذه الغرف في جنات النعيم.   ♦ ومِن صفات هؤلاء المؤمنين أنهم هم ﴿ الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ على أوامر اللهِ تعالى لهم - وإن كانت مُخالِفةً لِهَواهم -﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ أي يَعتمدون على ربهم وحده، فبذلك استحقوا هذه المَنزلة العظيمة.   الآية 60: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ﴾ يعني: وكثير من الكائنات ﴿ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ أي لا تدَّخر غِذاءها للغد كما يفعل ابن آدم، ومع ذلك فـ ﴿ اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ أي يرزقها سبحانه كما يرزقكم، فيُسَخِّر لها الأسباب، ويُهيئ لها الفرص فتأكل وتشرب كما يأكل الأقوياء القادرين، (إذاً فلا عذر لمن تَرَكَ الهجرة خوفاً من الجوع والفقر)، ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ السَّمِيعُ ﴾ لأقوالكم (ودعائكم له بتوسعة رزقكم)، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بأحوالكم وأفعالكم وخواطر قلوبكم فاحذروه.   الآية 61: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ﴾ يعني: وإنْ سألتَ أيها الرسول هؤلاء المشركين: ﴿ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ على هذا النظام البديع المُتقَن ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ أي ذَلَّلَهما لمنافع العباد: ﴿ لَيَقُولُنَّ ﴾: ﴿ اللَّهُ ﴾ هو الذي فعل ذلك وحده، ﴿ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ يعني: فكيف يُصرَفون عن توحيد الله تعالى - خالق كل شيء ومُدَبِّره - ويعبدون معه غيره؟!   الآية 62: ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ﴾ أي يُوَسِّع الرزق ﴿ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ ﴿ وَيَقْدِرُ لَهُ ﴾ أي: ويُضَيِّقه سبحانه على مَن يَشاءُ منهم (فالتصرّف كله بيديه سبحانه، وله الحِكمةُ البالغة في تضييق الرزق وتوسعته؛ لأنه سبحانه الأعلمُ بما يُصلِح عباده مِن الفقر والغنى) ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.   ♦ واعلم أنّ هذه الآية قد نزلتْ رَدّاً على المشركين الذين قالوا لفقراء المؤمنين: (لو كنتم على الحق لم تكونوا فقراء)، وهذا تمويه منهم، إذ في الكافرين فقراء أيضاً.   ♦ واعلم أيضاً أن هذا التضييق يكون في مصلحة المؤمن (لأنه يكون تكفيراً لذنوبه أو رَفعاً لدرجاته)، ولعل هذا هو السبب في أن الله تعالى قال: (وَيَقْدِرُ لَهُ) أي يضيقه له (يعني لمصلحته)، ولم يقل: (وَيَقْدِرُ عليه)، واللهُ أعلم.   الآية 63: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ﴾ - أيها الرسول -: ﴿ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ ﴿ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا ﴾ أي: أخرج به النبات من الأرض (بعد أن كانت يابسة لا خيرَ فيها)؟، ﴿ لَيَقُولُنَّ ﴾ مُعترفين: ﴿ اللَّهُ ﴾ هو الذي فعل ذلك وحده، ﴿ قُلِ ﴾: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ الذي أظهر حُجَّته عليهم ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ أي لا يُمَيِّزون بين الحق والباطل، إذ لو عَقَلوا: ما أشركوا مع الله غيره.
الآية 64، والآية 65، والآية 66: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ في غالب أحوالها ﴿ إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ أي تلهو بها القلوب وتلعب بها الأبدان) لِما فيها من الزينة والشهوات)، ثم تزول سريعًا، ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ أي هي الحياة الحقيقية التي لا موتَ فيها ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ يعني: (لو كان الناس يعلمون ذلك، ما فَضَّلوا دار الفَناء على دار البقاء).   ♦ ثم أعطى سبحانه للمشركين دليلاً على توحيده (بشعورهم الفِطري) عند ركوبهم السفن في البحر قائلاً: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ﴾: يعني إذا ركبوا السفن، وارتفعت الأمواج مِن حولهم وخافوا من الغرق: ﴿ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ يعني أخلصوا له في الدعاء حتى يَكشف عنهم شدتهم، ونسوا حينئذٍ شركائهم، ﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ ﴾ وزالت عنهم الشدة: ﴿ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ أي عادوا إلى شِركهم، فأشرَكوا بربهم المُنْعِم عليهم بالنجاة وعَبَدوا معه غيره (إنهم بذلك يُناقضون أنفسهم، إذ يُوَحّدون اللهَ ساعة الشدة، ويُشركون به ساعة الرخاء) ﴿ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ ﴾ أي: لتكون عاقبتهم أن يَجحدوا بما آتاهم اللهُ مِن النعم (ومنها كَشْف البلاء عنهم) فيَستحقوا العذاب، ﴿ وَلِيَتَمَتَّعُوا ﴾ أي: ليُكملوا تَمَتُّعهم في هذه الدنيا ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ عاقبة شِركهم وعِصيانهم (وفي هذا تهديدٌ ووعيدٌ لهم).   الآية 67: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا ﴾: يعني ألم ير كفار مكة أنّ اللهَ جعل لهم مكة حَرَمًا آمنًا، يأمَن فيه أهلها على أنفسهم وأموالهم ﴿ وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ أي يُتَخَطَّفون خارج الحرم (غير آمنينَ على أنفسهم من القتل والأسر والسرقة)، ﴿ أَفَبِالْبَاطِلِ ﴾ - وهو الشِرك - ﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾؟! ﴿ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ ﴾ التي خَصَّهم بها - وهي الأمن في الحرم - ﴿ يَكْفُرُونَ ﴾ فيعبدون غير المُنعم سبحانه؟!   الآية 68: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ يعني: ومَن أشدُّ ظلمًا ﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ فزَعَمَ أنّ له شركاء في العبادة ﴿ أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ﴾ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم؟! ﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ﴾: يعني أليس في النار مَسكنٌ لمن جحدوا توحيد الله تعالى، وكَذَّبوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم؟! (بلى، فإنّ جهنم هي بئس المُستقَرّ لهم).   الآية 69: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ﴾ أي جاهَدوا أعداء الله تعالى، وجاهَدوا النفس والهوى والشيطان، وصبروا على الفتن والإيذاء في سبيل الرحمن: ﴿ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾: أي سوف يَهديهم الله طرق الخير الموصلة إلى جنته، ويُثبّتهم على الطريق المستقيم، وينصرهم على أعدائهم، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (الذين يراقبون ربهم في كل شؤونهم، ويجاهدون أعداءه المشركين، ويجاهدون كل ما يُوَسوِس لهم ويُعَطِّلهم عن الوصول إلى جنته)، فهو سبحانه معهم بالحفظ والعون والتوفيق والنصر على هؤلاء الأعداء.   ♦ واعلم أنّ الإحسانَ قد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مُسلِم -: "أن تعبد اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراهُ، فإنه يَراك"، فالإحسان يَتناول المَعنَيَيْن: (التقوى وإتقان العمل) لأنّ مَن راقبَ اللهَ تعالى، أتقَنَ عمله وحَسَّنه.   ♦ ومِن لطيف ما يُذكَر هنا أنّ أحد السلف كان يقول: (ظللتُ أجاهد شهوتي، حتى أصبحتْ شهوتي: المجاهَدة)، والمعنى أنّ مُجاهَدته غلبتْ شهوته، حتى أصبح يتلذذ بهذه المجاهَدة.


[1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو تفسير الآية الكريمة. • واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير