أرشيف المقالات

الصين بين التوافق وانتهاز الفرصة

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
قبل ما يقرب من أسبوعين من الغزو الروسي لأوكرانيا، زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بكين لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، واجتمع بالرئيس الصيني شي جين بينغ، وتمخض الاجتماع عن إعلان مشترك بين الدولتين يتضمن وثيقة مكونة من 31 بندا في خمسة آلاف كلمة، وصفه بعض المراقبين بأنه تدشين لتحالف بين القوتين العالميتين، تتضمن أربعة محاور تتعلق بوقف التدخل في منطقة نفوذ الصين ثم في منطقة نفوذ روسيا، وبعدها التخلي عن التهديد بالأسلحة غير التقليدية والصواريخ، وأخيراً الدعوة إلى نظام متعدد القوى.
وبعد اندلاع الحرب، أدرك الجميع بلا شك أن بوتين فعل خطة التحالف مع الصين، ليؤمن تحالف قوي ضد أمريكا التي ستتزعم بحسب تقديراته المعارضة لحربه الى مدى لا يعلمه الا الله.
وتوجه الجميع مترقبا رد الفعل الصيني على الحدث، خاصة أنها أحد الأطراف بل القوة الأهم والتي تستهدفها الولايات المتحدة لتحول بينها وبين الصعود عالميا.
ولكن رد الفعل الصيني جاء غامضا، فعبر وزير خارجيتها وانغ يي عن ضرورة احترام أراضي الدول وسيادتها بما في ذلك أوكرانيا، وفي نفس الوقت أكد الوزير الصيني على وجوب التعامل بشكل مناسب مع مخاوف موسكو.
الأمر الذي دفع الكثيرون إلى التساؤل عن حقيقة موقف الصين من الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا:
كيف ترى الصين الغزو الروسي لتلك البلد؟
هل تؤيد الصين مهاجمة روسيا لأوكرانيا حتى تتمكن هي لاحقا من غزو تايوان؟
لماذا لم يتم تفعيل التحالف الصيني الروسي، والذي جرى الإعلان عنه قبل أيام قليلة من الغزو الروسي لأوكرانيا؟
وما تأثير الضغوط الأمريكية على الصين في موقفها من الحرب؟
كل هذه الأسئلة والخواطر التي يجري تداولها، ونحن نتابع ما يجري من حرب على الأراضي الأوكرانية، وموقف الدول المختلفة من هذه الحرب وخاصة القوى الكبرى التي تتطلع الى الصدارة في النظام الدولي.
لذلك للإجابة على هذه الأسئلة وكشف حقيق الموقف الصيني من الحرب يجب أولا تحليل التطلعات والأهداف الكبرى للصين، ثم نظرة الصين لهذه الحرب ومدى تأثيرها على الطموحات الصينية وأهدافها الاستراتيجية.
الصين وحلم الهيمنة
بنت الصين استراتيجيتها للمنافسة في ترتيب النظام الدولي على أساس نظري فيما أطلقت عليه استراتيجية الصعود السلمي، وهي في جوهرها تعني الانتقال تدريجياً إلى مرتبة لاعب أساسي في العلاقات الدولية ولكن دون تهديد أمن واستقرار النظام الدولي، أو هي التسلل الناعم لأحشاء النظام الدولي.
وبالتدريج أخذ هذا المفهوم يظهر في خطابات زعماء الصين السياسيين؛ ففي عام 2003 صرح رئيس وزراء الصين في تلك الأوقات وين جياباو خلال زيارته الرسمية للولايات المتحدة قائلاً: الصعود الصيني هو صعود سلمي لأن الصين تتطور بالاعتماد على قواها الخاصة، وفي مستوى العلاقات الخارجية أيَّدنا دائماً علاقات التعاون والصداقة بين الدول المختلفة التي نعُدَّها دائماً مثل إخوتنا وأخواتنا.
وفي 29 ديسمبر من السنة نفسها أعاد هو جيتناو السكرتير العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي وهو بمثابة رئيس الصين في تلك الفترة، أعاد تأكيد مصطلح الصعود السلمي للصين بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاد ماوتسي تونغ زعيم الحزب الشيوعي التاريخي للصين، والذي توفي في السبعينيات من القرن الماضي، وقد أشار الرئيس الصيني إلى استمرار التمسك بطريق الاشتراكية ذات الخصوصية الصينية.
وكانت المرة الأخيرة التي تحدَّث فيها الرئيس الصيني هو جينتاو علنا عن مفهوم الصعود الصيني في منتدى آسيا السنوي الثالث عام 2005م، وقد شدد على الطابع الذي يميز الظهور السلمي للصين الذي ساعد على استقرار آسيا والعالم.
فمنذ ذلك الوقت استعمل كل من جينتاو وجياباو مصطلح التطور السلمي بدلا من الصعود السلمي لأن هذا المصطلح فسر تفسيرا سيئا في العالم الذي نظر إليه على أنه تطور سريع ومهدد.
وهنا اختلف الباحثون في الاستراتيجيات حول مفهوم التطور السلمي الذي استعمله المسؤولون الصينيون بدلاً من مفهوم الصعود الذي تعود جذوره إلى عام 1978م عندما أطلق الاستراتيجي الصيني دينغ سياوبينغ قولته الشهيرة: علينا أن نراقب بروية، وأن نحصن موقعنا ونتعامل مع الأحداث بهدوء، وأن نخفي طاقتنا وننتظر وقتنا، ونكون جيدين في المحافظة على البقاء بعيداً عن الأضواء، وألا ندعي القيادة مطلقا.
وعلى ما يبدو فإن الصينيين لا يودون الظهور بمظهر المنافس على الترتيب في سلم النظام الدولي بل يريدون الصعود بصمت وبأقل قدر من الجلبة وتسليط الأضواء عليهم ليستمر صعودهم ولتفادي المقاومة العالمية من طرف القوى الكبرى...
وهذا الظهور السلمي من أكبر خواص التمدد الاستراتيجي الصيني.
ولكن في مقابل هذه الاستراتيجية الناعمة المقدمة للخارج، تحاول الصين ألا تضيع أهدافها الاستراتيجية أمام أجيال الشباب الصينيين حتى لا تذوب طموحاتهم أو يتبخر الهدف الاستراتيجي؛ فقد دعا العقيد في الجيش الصيني ليو مبينغ في كتابه الذي أصدره في عام 2010، تحت عنوان الحلم الصيني الذي نشر باللغة الصينية إلى أن تتخلى الصين عن تواضعها فيما يتعلق بأهدافها على الساحة العالمية وأن تتحدى الولايات المتحدة على الزعامة العالمية.
وفي كتابه يعكس ليو الطموحات القومية الصينية المتصاعدة؛ إذ جاءت الدعوة للتخلي عن التواضع فيما يتعلق بالأهداف العالمية والقفز لكي تصبح الصين رقم واحد في العالم، كما حذَّر أيضاً من أن صعود الصين سيزعج واشنطن وهو ما يزيد من خطر الحرب وإن كانت بكين تأمل في صعود سلمي.
وقال ليو: إن هدف الصين الكبير في القرن الحادي والعشرين أن تصبح رقم واحد في العالم القوة العليا.
وكتب ليو - وهو أستاذ في جامعة الدفاع الوطني ويدرب الضباط الشبان في جيش الصين -: إذا لم تتمكن الصين في القرن الحادي والعشرين من أن تكون رقم واحد في العالم أي أن تكون القوة العليا فإنها ستصبح - حتماً - مهمشة.
هذان الخطابان المزدوجان: خطاب موجه للخارج يصور الصين كقوة تريد المشاركة مع القوى الأخرى ولا تريد الاستفراد بالنظام الدولي، ثم خطاب موجه للداخل يدعو الشباب إلى عدم التخلي عن حلم الوصول إلى القوة الأولى في العالم...
فبينما يتبنى الخطاب الأول الناعم الساسة الرسميون فإن الخطاب الحقيقي يتبناه الأكاديميون القوميون؛ خاصة الذين يخاطبون الشباب الصيني وبذلك يسهل التنصل من الخطاب الأصلي أمام الخارج الذي يراقب بعناية الخطاب الرسمي الصيني.
الصين واستغلال الفرصة
وفق تقارير استخباراتية أذاعتها محطة سكاي نيوز فإن الصين كانت على علم مسبق بالعملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، وطلبت من كبار المسؤولين الروس الانتظار حتى انتهاء أولمبياد بكين قبل بدء الهجمات، فيما نفت السفارة الصينية في واشنطن صحة التقرير، مؤكدة أن المزاعم المذكورة في هذا التقرير مجرد تكهنات لا أساس لها، تهدف إلى تحويل اللوم وتشويه سمعة الصين.
ولكن لا يمكن تصور أنه في ظل أجواء الشراكة الروسية الصينية عندما زار بوتين بكين قبل الحرب بأيام، أنه لم يخبر نظيره الصيني بما عزم عليه.
الصين تطبق كما أسلفنا الاستراتيجية الثلاثية لصعود القوى الكبرى باحترافية بالغة وهي: مهادنة القوى العالمية وعدم التدخل في بؤر الصراعات، ثم التحرك في الفراغ الحاصل في أي منطقة واستغلال الأزمات، وأخيرا مرحلة تحدي النظام الدولي.
والمرحلة الأخيرة لم تخطوها الصين بعد، ولكنها لا زالت تسير في مرحلتي المهادنة واستغلال الأزمات.
فالموقف الصيني من هذه الحرب يمكن تفسيره تبعا للمسيرة الصينية في مرحلتي الصعود، وهما التوافق واستغلال الفرصة.
فالصين حريصة على عدم الظهور بالمظهر المتواطئ مع روسي، بل المتعاطفة مع معاناة أوكرانيا، وفي نفس الوقت تطالب الغرب بضرورة مراعاة الأمن الجيوسياسي لروسيا، وتطبيقا لذلك رفضت الصين الموافقة على قرارين لمجلس الأمن والأمم المتحدة يدينان العملية العسكرية الروسية، لكنها لم تصوت ضدهما أيضا بل لجأت إلى الامتناع عن التصويت.
وفي نفس الوقت التي تحث الصين جميع الأطراف للعودة إلى طاولة المفاوضات وإجراء الحوار، نجد أنها تعارض فرض العقوبات المفرطة على روسيا.
الصين لا تريد أن تخسر أسواق الغرب، وفي نفس الوقت لا تريد خسارة حليف قوي سينفعها بلا شك عندما تبدأ أمريكا في الاستدارة اليها وبدء الصراع معها.
ستعمل الصين على استغلال تلك الأزمة الدولية واطالة أمدها، لأن ذلك سيؤدي إلى تشتيت انتباه واشنطن بعيدا عن منطقة المحيطين الهندي والهادي باتجاه أوروبا، وبالتالي سينخفض الضغط الأميركي عليها.
الصين تعي جيدا أنها لم تصل بعد الى مرحلة تحدي النظام الدولي، لذلك ستستمر في السير على حبل مشدود في المسارين الحاليين: التوافق مع الجميع، واستغلال الفرصة والاستفادة من الأزمة لصالح مشروعها العالمي الذي تسير اليه بتأن وحرص.
_________________________________________
الكاتب: حسن الرشيدي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣