أرشيف المقالات

موضوع عن الإخلاص

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2موضوع عن الإخلاص
الإخلاص من أعمال القلب، ولهذا فأمره يتعلق بصاحب العمل ذاته، وهو الذي يحكم على نفسه بالإخلاص أو عدمه.
وليس هناك من مقياس بأيدي الناس يقيسون به إخلاص شخص ما، إنما مرد ذلك للشخص نفسه، فهي قضية تخصه أمام الله سبحانه.
وقد ذم الله المنافقين في كتابه الكريم، حين جعلوا من أنفسهم حكامًا يحكمون على نيات الناس ودوافعهم.
أخرج الشيخان عن أبي مسعود قال: لما أمرنا بالصدقة، كنا نحامل[1]، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه.
فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء فنزلت: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ﴾[2] الآية[3].
فالإخلاص ميدان عمله النية، وهي إنما مكانها القلب. قال الإمام الغزالي: "اعلم أن الجاهل يسمع ما ذكرنا..
مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" فيقول في نفسه عند تدريسه، أو تجارته، أو أكله: نويت أن أدرِّس لله، أو آكل لله، ويظن ذلك نية وهيهات!! فذلك حديث نفس، وحديث لسان وفكر، أو انتقال من خاطر إلى خاطر.
والنية بمعزل عن جميع ذلك، وإنما النية انبعاث النفس وتوجهها.."[4].
وهذا الكلام في غاية الدقة، فليست النية كلمة "نويت" ولا هي حديث نفس، وليست خاطرًا يمر سريعًا بالفكر.
وإنما هي عمل يعزم القلب عليه..   الإخلاص يدخل جميع الأعمال: والإخلاص ليس شيئًا مستقلًا قائمًا بذاته، وإنما يقوم بغيره، إذ هو معنى من المعاني، والمعاني لا تقوم بذاتها.
ولذا لا يقال: عمل اليوم فلان إخلاصًا، إلا إذا أردنا أنه عمل عملًا فأخلص فيه.
وإنما نقول: أخلص فلان في عمله، وأخلص في صومه.
وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وابتغي به وجهه"[5]. فجعل الإخلاص وصفًا في العمل. فالإخلاص يدخل جميع الأعمال، وهو ضابط من ضوابط حسن العمل، كما ذكرنا في الفصل السابق.
ولعل هذا المعنى هو الذي دفع الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - ليفتتح كتابه "الجامع الصحيح" بحديث "إنما الأعمال بالنيات"، كما دفع الإمام النووي - رحمه الله تعالى - إلى افتتاح كتابه "رياض الصالحين" بـ"باب الإخلاص وإحضار النية".   الأجر على النية: آن لنا أن نتوقف عند السؤال التالي: هل النية وحدها إذا لم تتجسد في "عمل" محل للأجر أو الوزر؟
وللإجابة على هذا السؤال، يحسن بنا أن نقرأ النصوص التالية: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال: "إن بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم" قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة، حبسهم العذر"[6].
والمفسرون يوردون هذا الحديث في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾[7].
قال ابن كثير في تفسيرها: "قال العوفي عن ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبدالله ابن مغفل المزني، فقالوا: يا رسول الله، احملنا، فقال لهم: "والله لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وهم يبكون، وعزَّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملًا، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه" أ هـ. ثم ذكر ابن كثير حديث أنس برواياته المتعددة.
وإذن، فهؤلاء قامت النية في قلوبهم.
فاندفعوا يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يساعدهم بما يوصلهم إلى أرض المعركة...
ثم كانوا مع المجاهدين بقلوبهم وعواطفهم، قلقين ينتظرون أخبارهم.
فاستحقوا على نيتهم وعزمهم الأجر كله، كما جاء في رواية مسلم: "إلا شركوكم في الأجر".
وفي الجانب الآخر يقول أبو بكرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" فقلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه"[8]. فالمقتول هنا: كانت النية قائمة لديه، لقتل صاحبه لو استطاع.
وإذن فالنية، يقابلها الأجر إنْ كانت في الخير، ويقابلها الوزر إن كانت في الشر. ولكن الأمر الذي لا بد من التأكيد عليه: أن النية - كما قال الإمام الغزالي - ليست مجرد الخاطر، أو حديث النفس، أو قول "نويت" وإنما هي: القصد.
كما قال الإمام النووي، أو انبعاث القلب، كما قال البيضاوي.
يؤيد ذلك: ما جاء في المثالين السابقين، فالذين تولوا وأعينهم تفيض من الدمع.
قصدوا للقيام بالعمل..
ولكن حالت العوائق دون ذلك.
والذي قتل، حمل السيف.
ولو أتيح له لفعل ولكن الخصم كان أسرع.. وفي الحديث: "من همَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة"[9] والهمَّ أول العزم.   الإخلاص والعمل: ما من شك بأن على الإنسان المسلم أن يطالب نفسه بالإخلاص، حتى يجني ثمرة عمله، ولكن هل يترك العمل إذا لم يتحقق فيه الإخلاص؟.
ونترك الإجابة على هذا السؤال للإمام الغزالي، قال: "لا ينبغي أن يترك العمل عند خوف الآفة والرياء، فإن ذلك بغية الشيطان منه، إذ المقصود، أن لا يفوت الإخلاص، وإذا ترك العمل، فقد ضيع العمل والإخلاص جميعًا".
ثم نقل الإمام الغزالي نصيحة أبي سعيد الخراز لأحد تلامذته.
إذ قال: "إن الإخلاص لا يقطع المعاملة، فواظب على العمل واجتهد في تحصيل الإخلاص، فما قلت لك: اترك العمل، وإنما قلت لك: أخلص العمل".
"وقال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الخلق رياء، والعمل لأجل الخلق شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما"[10].   عاجل بشرى المؤمن: نخلص مما سبق إلى أنه على المسلم أن يسعى جاهدًا في تخليص "الأعمال" مما يشوبها من حب الشهرة والمدح وغير ذلك.
ولكن لو مدح الناس إنسانًا على عمل قام به، هل من حرج عليه؟. قال أبو ذر رضي الله عنه: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن"[11].


[1] نحامل: معناها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحضهم على الصدقة، فكان الذي لا يجد عنده ما يتصدق به يذهب إلى السوق فيحمل للناس أمتعتهم بأجر، ثم يأتي ويتصدق به كما فعل راوي الحديث أبو مسعود الأنصاري، وحديثه في البخاري برقم (2273).
[2] سورة التوبة، الآية (79).
[3] متفق عليه (خ 4668، م 1018). [4] إحياء علوم الدين (4/ 373). [5] أخرجه النسائي برقم (3140).
[6] أخرجه البخاري برقم (4423) وهو عند مسلم عن جابر برقم (1911).
[7] سورة التوبة، الآية (92). [8] متفق عليه (خ 31، م 2888).
[9] متفق عليه (خ 6491، م 130).
[10] المهذب من إحياء علوم الدين (2/ 403) للمؤلف.
دار القلم بدمشق.
(1413هـ).
[11] أخرجه مسلم برقم (2642).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن