أرشيف المقالات

ضوابط تحديد الأولويات

مدة قراءة المادة : 20 دقائق .
2ضوابط تحديد الأولويات   إن تحديدَ مراتب الأعمال واختيارَ الأَولى أمرٌ ليس بالهيِّن، بل هو وظيفة العلماء من هذه الأمة، من هنا كان لتحديد ذلك ضوابط لا ينبغي أن يتجاهلها من ينظر في الأدلة، ويعمد إلى تحديد المراتب والأولويات؛ ليقوم فيها بالواجب.
فنذكر من هذه الضوابط ما يلي[1]: 1- الاعتماد على المصادر الأصيلة في الاستدلال والتلقي: لقد بُليت الأمة الإسلامية بألوان من التفرق والاختلاف، وأصابها ما أصابها من الانحراف والبعد عن دين الله عز وجل، ولم يسلم من ذلك بعض الدعاة والمصلحين؛ حيث راح بعضهم يُشرق وبعضهم يغرب، ويتقلب في متاهات علمية وعملية، بلا ضابط علمي أو منهجي، وأصبحت الأولويات الدعوية تحدد في كثير من الأحيان بناء على الاجتهادات والأهواء الشخصية، أو بناء على تجارب ورؤى قاصرة ضيقة الأفق، فرأينا من يقدم ما حقه التأخير، ويؤخر ما حقه التقديم، ولا مخرج للأمة من هذه الكبوة إلا بالعودة الصادقة إلى المصادر الأصيلة للاستدلال والتلقي، وهي الكتاب والسُّنة، أو ما دل عليه الكتاب والسُّنة كالإجماع والقياس ونحوهما، ومن ثم تحدد الأولويات الدعوية، بالرجوع إلى هذه المنابع الكريمة التي لم تكدرها شوائب البدع والضلالات والأهواء.
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾ [الأنعام: 153].
2- النظرة الشمولية للإسلام: إن من فضل الله عز وجل على أمة الإسلام أن جعل هذا الدين دينًا شاملًا لجميع شؤون الحياة، ولا يجوز بحال قصر الدين على شعبة من شعبه وإهمال شعبة الأخرى؛ ولذا قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ [البقرة: 208].
يقول ابن كثير رحمه الله: "يقول الله سبحانه وتعالى آمرًا عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك"[2].
ومن الأخطاء التي تُرتكب في هذا الباب: أ- وضع الجزئيات في موضع الكليات، والاشتغال بها على حساب الكليات؛ فمن الناس من لا يعرف من الإسلام - علمًا وعملًا ودعوة - إلا مجموعة من الفروع، مع إهمال مفرط لأصول الدِّين وأركانه..!
ب- التهوين من شأن السنن، بل والواجبات أحيانًا؛ بحجة أنها من الجزئيات الفرعية التي لا ينبغي الانشغال بها، وإهدار الوقت في تحصيلها..! وكلا هذين الأمرين خطأ بلا شك؛ فكل ما ثبت في الشرع فحقه التقدير، ووضعه في مكانه اللائق به شرعًا؛ فكما أنه لا يجوز الاشتغال بالجزئيات على حساب الكليات، أو تقديم التحسينيات على الحاجيات أو الضروريات، فكذلك لا يجوز الإعراض عن الجزئيات استخفافًا بها، أو تهوينًا من قدرها؛ فإن في ذلك قدحًا في الشارع الحكيم الذي سنَّها وحثَّ على فعلها.
والتوازن مطلوب في إعطاء النُّصوص حقها علمًا وعملًا ودعوة.
ومن الشواهد المفيدة التي تدل على عظيم فقه الصحابة رضي الله عنهم ورسوخهم في العلم والعمل: أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينتظر أخبار فتوح الشام، فقدم عليه عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه يبشره بفتح الشام، وعليه خفان غليظان، فنظر إليهما عمر، فقال: "كم لك منذ لم تنزعهما؟ فقال عقبة: لبستهما يوم الجمعة، واليوم يوم الجمعة ثمان، فقال: أصبت السُّنة"[3].
فحِرص عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أخبار الجهاد في سبيل الله عز وجل وفتح الديار، لم يمنعه من سؤال عقبة عن مسألة علمية ربما يتهاون في شأنها بعض الناس...![4].
3- تقديم ما قدَّمه الشارع الحكيم: فمن الأصول العقدية وجوب تقديم ما قدمه الشارع الحكيم علمًا وعملًا، وإعطاء كل أمر شرعي حقه من التعظيم والإجلال. فالدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة، ونبذ الشرك والبراءة منه ومن أهله، هي المنطلق والأساس الذي بدأ به جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعوتهم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء].
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن قال له: "إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ"[5].
فبدأ بالدعوة إلى التوحيد الذي هو أول واجب على العبد ثم ثنَّى بعد ذلك بالدعوة إلى بقية الأركان، "وفيه دليل على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه هو أول واجب؛ فلهذا كان أول ما دعت إليه الرسل كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36][6].
إن الشرك والخرافات والبدع والضلالات تنتشر في العالم الإسلامي اليوم انتشارًا عظيمًا، حتى أصبح التوحيد الخالص غريبًا في كثير من الديار؛ ولهذا كان الواجب على العلماء والدعاة والمؤسسات الإسلامية أن يتصدروا الدعوة إلى الإيمان والتوحيد علمًا وعملًا، وتقديم ذلك على كل معروف، وأن يحذروا من الشرك وأهله، قديمه وحديثه، ويجعلوا ذلك مقدمًا على التحذير من كل منكر؛ فصلاح التوحيد سبب لكل صلاح بإذن الله عز وجل، كما أن الشرك سبب لكل فساد.
ومع تفوق الحضارة الغربية المادية المعاصرة واغترارها بتفوقها الصناعي غزت العالم كله المذاهب الإلحادية والمبادئ المادية التي كفرت بالله سبحانه وتعالى، وراحت تقدس الأهواء وتعبد المادة وتنفلت من قيود الفضيلة، ومسخت هذه المذاهب الكفرية بعض العقول المريضة في العالم الإسلامي التي انسلخت من دينها وهويتها، وسقطت مسلوبة القوى تحت أعتاب الغرب.
ويحزن المرء أشد الحزن عندما يرى بعض المؤسسات أو المراكز الإسلامية أو الدعاة يقصرون في الدعوة إلى التوحيد الخالص، ويفرطون في الرد على التيارات الإلحادية المعاصرة، ويشتغلون في المفضول على حساب الفاضل، وهذا بلا شك من نقص العلم وقلة الفقه في دين الله سبحانه وتعالى.
4- معالجة حاجات البيئة: تختلف البيئات من حيث احتياجاتها الدعوية، ومن حيث الانحرافات السائدة فيها، ولهذا يجب أن تحدد الأولويات الدعوية التي تتصدر لها المؤسسات والمراكز الإسلامية بناءً على حاجات كل بيئة.
فما يجب تقديمه في البيئة العربية قد يختلف عن البيئة في أوروبا الشرقية أو الغربية أو أفريقيا...
وهكذا. نعم هناك قواسم مشتركة بين جميع البيئات يجب مراعاتها، ولكن هناك اختلافات لا ينبغي إغفالها، وهذا يؤكد ضرورة إدراك بيئة العمل التي تتحرك فيها المؤسسة أو الداعية، والفقه الدقيق في واقع الناس واحتياجاتهم؛ ولهذا كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله..."[7].
فبصَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالواقع الذي سيبلغ فيه دين الله عز وجل؛ ليكون على بينة من أمره. ولهذا قال ابن حجر: "قوله: "ستأتي قومًا أهل كتاب" هي كالتوطئة للوصية ليستجمع همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان"[8].
فتوافر المعلومات الصحيحة هو محور أساس لسلامة التصور واستقامة التخطيط ولهذا لا بد من حرص الدعاة والمؤسسات الإسلامية على توفير المعلومات الصحيحة عن بيئة العمل والبرامج المنفذة والمستجدات الحادثة..
ونحوها، ثم يتم تبادل هذه المعلومات وتوظيفها التوظيف الأمثل.
5- تقديم العناية بالأعمال التي يبنى عليها غيرها: إن من دلائل الحكمة والرشد والفقه في دين الله عز وجل، تقديم العناية بالأعمال والبرامج التي تبنى عليها أعمال كثيرة، ولا يحسن قيامها إلا بإتقانها وإحكامها، والأمثلة التي توضح هذا كثيرة جدًا؛ نذكر منها ما يأتي: أ- العناية بالبناء المؤسسي المحكم: إن البرامج والأنشطة الدعوية المختلفة تحتاج إلى تخطيط وتنظيم، كما تحتاج إلى متابعة دائمة وتقويم مستمر من شتى النواحي المنهجية والعلمية الإدارية والمالية...
وهكذا.
فإذا كان البناء المؤسسي محكمًا باستيفاء جميع الآليات والأدوات العلمية؛ كانت إدارة جميع البرامج والأنشطة - بإذن الله - محكمة، أما إذا كان البناء المؤسسي ضعيفًا فإن إدارة البرامج والأنشطة ستكون في الغالب ضعيفة.
ب- العناية بإعداد الدعاة: فلا يخفى أن لإعداد الدعاة أهمية كبيرة جدًا في النجاح الدعوي؛ فالداعية هو عماد العملية الدعوية، وبناؤه المحكم هو البداية الصحيحة لعمل سليم متين، ومهما صح المنهج وتوافرت الإمكانات المادية فإنه لا مضاء للدعوة نحو الأمام ما لم يعط بناء الدعاة أولوية مطلقة.
وهناك أصول علمية ودعوية عامة يحتاجها جميع الدعاة لا يصح التقصير فيها، وهناك أصول خاصة يحتاج إليها الداعية تختلف باختلاف التخصص وباختلاف البيئة التي ينشط فيها الداعية، فالداعية الذي يخاطب الخاصة يختلف عن الداعية الذي يخاطب العامة، والداعية الذي يخاطب المسلمين يختلف عن الداعية الذي يخاطب النصارى أو الوثنيين، والداعية الذي يعمل في وسط الصوفية الغلاة المتعصبة يختلف عن الداعية الذي يعمل في أوساط أخرى...
وهكذا.
ولهذا فإن العناية بإعداد الدعاة وصقل قدراتهم وتدريبهم كل ذلك من الأوليات المهمة التي تفتح أبوابًا من الخير كثيرة جدًا.
ج- العناية بالعلم الشرعي: فالعلم هو الطريق الصحيح للبصيرة والفقه في دين الله عز وجل، وعليه تبنى كل الأعمال والأنشطة؛ فكلما رسخ العلم استقام العبد على جادة الصراط المستقيم، وسلم من الزيغ والانحراف.
فالعلم مقدَّم على كل عمل، ولهذا قال الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيح: "باب العلم قبل القول والعمل" لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [محمد][9].
والعلم هو طريق الإيمان بالله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحج: 54]؛ فالعلم يبني الإيمان، والإيمان يبني الإخبات، ولهذا رفع الله عز وجل أقدار العلماء وفضلهم على غيرهم.
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
ومن الظواهر اللافتة للنظر في حقل العمل الإسلامي تقصير كثير من المؤسسات الإسلامية في نشر العلم الشرعي؛ مما أدى إلى خلل عريض وشرخ واسع في كثير من الأنشطة والبرامج، وأولى الناس بالعلم والفقه في دين الله عز وجل هم الدعاة والمصلحون؛ لأنهم حملة رسالة عظيمة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].
6- تقديم الأعمال ذات النفع المتعدي إلى الآخرين على النفع الخاص: من تمام الفقه والبصيرة في دين الله عز وجل تقديم الأعمال ذات النفع المتعدي على الأعمال ذات النفع الخاص؛ لأن فوائدها أكثر نفعًا للناس؛ فالذي يتقرب إلى الله تعالى بالعبادة الخاصة مأجور إن شاء الله؛ لكن الذي يتقرب إلى الله عز وجل بالجهاد في سبيل الله عز وجل والسعي في حاجات الناس أفضل عند الله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [التوبة: 19، 20].
فسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من أعمال البرِّ المحمودة؛ لكن الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله أعظم درجة عند الله عز وجل لأن نفعها أعظم للأمة.
7- مراعاة قدرات الأشخاص: تختلف قدرات الناس وملكاتهم باختلاف أشخاصهم؛ فما يصلح لبعضهم قد لا يصلح للآخرين؛ ولهذا كان من الفقه أن يقدم المرء ما يستطيع أن يبدع فيه وينفع به الأمة على الأعمال الأخرى التي نفعه فيها أقل.
فمن وهبه الله عز وجل قوة في الفهم والحفظ وقوة في العقل والبصيرة فالمقدم في حقِّه طلب العلم.
قال الإمام ابن القيم: "إن العلم إمام العمل وقائد له، والعمل تابع له ومؤتم به؛ فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتديًا به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه"[10].
ومن وهبه الله عز وجل شجاعة وقوة في القلب؛ فالمقدَّم في حقه الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...
وهكذا بقية الأعمال، وبهذا يحدث التآلف والتكامل بين أعمال الناس.
ولهذا تنوعت إجابات الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما كان يُسأل عن أفضل الأعمال، وفسَّر الحافظ ابن حجر سبب ذلك بقوله: "اختلف لاختلاف أحوال السائلين؛ بأن أعلم صلى الله عليه وسلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره"[11].
ويحسن التنبيه هنا على خللين يقع فيهما بعض الناس: الأول: أن بعض المربِّين يريد أن يربِّي تلاميذه على هيئة رجل واحد دون مراعاة للقدرات والميول الفردية؛ مما يؤدي إلى ضعف ظاهر في التربية.
الثاني: أن بعض الدعاة قد يضخِّم من أهمية العمل الذي يقوم به بسبب استعراضه فيه وحرصه عليه، وقد يؤدي ذلك أحيانًا إلى ازدراء الأعمال والتخصصات الأخرى والتهوين من شأنها، دون نظر فقهي وبصر علمي، وربما يكون بعض تلك الأعمال المهوَّن من شأنها أولى من العمل الذي يقوم به!! والواجب أن يعطي كل عمل ما يستحقه، وكل عامل ما يتقنه ليحدث التكامل بين العاملين والأعمال.
وقد كان الإمام مالك فقيهًا فطنًا، فعندما كتب إليه عبد الله العمري يحضه على الانفراد والعمل، ردَّ عليه قائلًا: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فربَّ رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له بالصوم، وآخر فتح له بالصدقة ولم يفتح له بالصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البرِّ، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير"[12].
8- الإعراض عن المسائل التي لا ينبني عليها عمل جاد: الاشتغال بالمسائل النظرية التي لا ينبني عليها عمل جاد سبيل من سبل البطالين العجزة الذين يهدرون أوقاتهم وأوقات مؤسساتهم فيما لا نفع فيه للأمة، وكثيرًا ما رأينا من يهدر أوقاته في قيل وقال، وجدل عقيم لا فائدة من ورائه على الإطلاق.
قال الإمام الشاطبي: "كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيها لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعًا؛ والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملًا مكلفًا به؛ ففي القرآن الكريم ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة: 189]، فوقع الجواب بما يتعلَّق به العمل، إعراضًا عما قصده السائل من السؤال عن الهلال....".
ثم قال رحمه الله: "...
ومنها أن الشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها؛ فما خرج عن ذلك قد يظن أنه على خلاف ذلك، وهو مشاهد في التجربة العادية، فإن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي على التقاطع والتدابر والتعصب، حتى تفرقوا شيعًا، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السُّنة، ولم يكن أصل التفرق إلا بهذا السبب؛ حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني، وخرجوا إلى ما لا يعني؛ فذلك فتنة على المتعلم والعالم.
وإعراض الشارع مع حصول السؤال عن الجواب؛ من أوضح الأدلة على أن اتِّباع مثله من العلم فتنة أو تعطيل للزمان في غير تحصيل"[13].


[1] انظر حول هذا المعنى: الأوليات..
وضوابط تحديدها، د.
عادل بن محمد السليم، مجلة البيان، عدد "177" ص/ 22 أغسطس 2002م.
[2] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير "1/ 247".
[3] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، والطحاوي في شرح معاني الآثار، وصححه ابن تيمية في الفتاوى "21/ 178".
[4] والمراد بذلك: هو جواز المسح على الخفين أكثر من المدة المقررة بالسُّنة في حالة الضرورة وقد كانت حالة عقبة رضي الله عنه كذلك، والله أعلم.
[5] أخرجه البخاري، ح "1496" ومسلم، ح "132".
[6] تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص/ 101.
[7] سبق تخريجه.
[8] فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني "3/ 358". [9] صحيح البخاري، كتاب العلم، "1/ 159". [10] مفتاح دار السعادة "1/ 82". [11] فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني "2/ 9".
[12] سير أعلام النبلاء، الذهبي "8/ 114". [13] الموافقات في أصول الفقه: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي "1/ 46 - 51"، دار المعرفة، بيروت ت: عبد الله دراز.




شارك الخبر

مشكاة أسفل ١