أرشيف المقالات

سباق الحسنى

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
2سباق الحسنى
﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 101 - 103].   إنها عملية سباق! المتسابِق فيها: هي "الحسنى". نهاية السباقِ: "لهم".
بداية السباق: "منا".

فما أجملَ الصورةَ، وما أبدعَ التصويرَ! كأنَّ الحسنى تسبِقُ إلى أولئك العباد، لقد حقَّق أولئك درجةً عالية مِن الرضا والحب حتى إن "الحسنى" هي التي تسابِق إليهم، فما أعظمَه من شرف! ونحن (أنا وأنت) بلا شك نتشوَّق إلى معرفة أولئك الموفَّقين؛ لعلنا نكون منهم!
وقبلها لنتعرف على (الحسنى)، وهي الخصلة المفضَّلة في الحُسن، تأنيث الأحسن: إما السعادة، وإما البشرى بالثواب، وإما التوفيق للطاعة، وإما أن تشمل كلَّ ذلك.
ثم إنه سبحانه وتعالى بيَّن شيئًا من أحوال نعيمهم في ثمانية أمور: 1- ﴿ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 101]، واختير اسم إشارة البعيد (أولئك)؛ للإيماء إلى رفعة منزلتهم، ثم بيَّن أنهم مُبعَدون عن النار، فهم ليسوا مِن ساكنيها، بل من المبعَدين عنها، وهذا الإبعاد لدرجة أنهم:
2- ﴿ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ﴾ [الأنبياء: 102]، والحَسِيس صوتُ حريق النار للأجساد - نعوذ بالله -أي مُبعَدون عنها بعدًا شديدًا؛ بحيث لا يَلْفَحُهم حرُّها، ولا يُروِّعُهم منظرُها، ولا يسمعون صوتَها، والصوت يبلغ إلى السمع مِن أبعد مما يبلغ منه المرئي، والحَسِيس الصوت الذي يبلغ الحِسَّ؛ أي: الصوت الذي يُسمَع مِن بعيد، وهذا فيه البُعد النفسي، فسماع صوت النار ومَن فيها يُعكِّر على أهل النعيم نعيمَهم، فأبعَدَهم الله تعالى عن ذلك؛ ليحصلَ لهم النعيمُ الذي لا كدرَ فيه.
3- وبعد أن سلَّمهم من المحذور والمرهوب، بيَّنَ لهم المطلوب والمحبوب:
4- ﴿ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ ﴾ [الأنبياء: 102]: والشهوة طلبُ النفس للذَّةٍ؛ يعني النعيم، وقيل: للنفوس شهوةٌ، وللقلوب شهوة، وللأرواح شهوة، وقال الجُنيد: سبقت العناية في البداية، فظهَرت الولاية في النهاية، وفعل "اشتهت" يعني استمراريةَ تجدُّد الشهوة وتحقيقها، ثم قال:
5- ﴿ خَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 102] دائمة؛ فلا خوف من النهاية، ولا رهبة من الانقطاع.
6- ﴿ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ﴾ [الأنبياء: 103]؛ قيل: فزع الحشر، وقيل: الموت، وقيل: حين إطباق النار على أهلها حين يسمعون: ((يا أهل النار، خلودٌ فلا موت))، فيفزعون لذلك فزعةً عظيمة، وقيل غير ذلك، ولعلها تجمع ذلك كلَّه، والله أعلم.
7- ﴿ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ [الأنبياء: 103]، والتلقي التعرُّض للشيء عند حلوله تعرُّضَ كرامة، والصيغةُ تُشعِر بتكلُّف لقائه، وهو تكلف تهيؤ واستعداد، وهذه استراحةٌ للنفس وطمأنينة، فكيف إذا كان المتلقُّون هم الملائكةَ الحفظة الذين كتبوا أعمالَهم وأقوالهم، ويزدادُ النعيم بلغة الخطاب (الكلام الحسن) من أولئك الملائكة بقولهم:
8- ﴿ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 103]، هذا، باسم الإشارة القريب؛ لتعيين اليوم، وتمييزه بأنه اليوم الحاضر القريب، وإضافة يوم إلى ضمير المخاطبين (يومكم) لبيان التخصيص، فهو خاص لكم، ثم ﴿ تُوعَدُونَ ﴾ تذكيرًا لهم بما وُعِدوا في الدنيا من الثواب؛ لئلا يحسَبوا أن الموعودَ به يقع في يوم آخر؛ أي: هذا يوم تعجيل وعدكم.
وأظنك تشوَّقت (مثلي) لمعرفة أولئك الموفَّقين والمُنعَم عليهم بهذا الفضل الجزيل والنعيم المقيم. أبشر - أخي الكريم - فقد ذكر بعض علمائنا أن الضمير في "أولئك" عامٌّ يعمُّ كلَّ مؤمنٍ مات على الإيمان والعمل الصالح، فما علينا إلا المبادرة والمسارعة في العمل الصالح، والسعي في الثبات عليه إلى حين الممات، ولنختم بدعاءٍ كان حبيبُنا صلى الله عليه وسلم يُكثِر منه: ((اللهم يا مقلبَ القلوب، ثبِّت قلبي على دينك)).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته



شارك الخبر

المرئيات-١