درر الشيخ علي الطنطاوي (16)
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
درر الشيخ علي الطنطاوي (16)الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ البشرِ نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد كتبَ الفقيهُ والأديب الشيخُ علي الطنطاوي رحمه الله كتبًا ومقالات مليئة بالدرر النفيسة، وهذه هي الدرة السادسة عشرة من كتابه الماتع "رجال من التاريخ"، فقال رحمه الله:
1- كنتُ إذا أردتُ الحديث عن رجل، قرأتُ كل ما تصل إليه يدي مما كُتب عنه، وقيَّدت في ورقة ما أختار من أخباره، وربما بلغ ما أقرؤه عنه عشرات أو مئات من الصفحات، ثمَّ أعمد إلى خبر منها، فأجعله مدخلًا إليها، وأحاول ما استطعت أن أتبع فيها أسلوبًا ينأى بي عن جفاف السرد التاريخي، ويخلص من تخيُّل الكاتب في القصة الأدبية؛ لعلي أصل إلى الجمع بين صدق التاريخ وجمال الأدب، فأوفَّق حينًا، ويجانبني حينًا التوفيق.
2- إن في كتب التاريخ والأدب، والمحاضرات والرحلات - آلافًا من سِيَر العظماء، ليست في كتب التراجم على كثرتها[1].
3- لمَّا كُتب لي أن أزور القارة الهندية وإندونيسيا، رأيت للمسلمين فيها تاريخًا ما كنت أعرفه، ولا كان ممَّا يدرس في المدارس، ولا ممَّا يوجد في الكتب التي اطَّلعنا عليها، تاريخًا ينتظر الباحث المخلص الذي يحيط به، والقلم البليغ الذي يكتبه[2].
4- الإسلام انتشر بالسيف! إنَّها دعوى بلا دليل، والدليل القائم: عليها لا معها، انشروا مصوَّر العالم الإسلامي وانظروا: هل البلاد التي دخل إليها الإسلام عن طريق الفتح أكبرُ وأوسع وأكثر سكانًا، أم البلاد التي دخلها بعد انقضاء عهد الفتوح، وانطواء راياته، ولا يزال يدخل إلى اليوم بلادًا جديدة؟!
هل وصلت الفتوح إلى إندونيسيا وماليزيا وأواسط إفريقية؟ وهل بلغت كوريا واليابان، أم انتشر فيها الإسلام وحده؟[3]
5- هل أكره الفاتحون الأوَّلون أحدًا على الإسلام؟ لقد عرف التاريخ قوادًا فاتحين، كالإسكندر، وجنكيز، وبونابرت، وهتلر، وأمثالٍ لهم كثير، فأين الآن ما فتحوه؟ بقي في البلاد غالبون ومغلوبون، مفتوحة بلادهم وفاتحون.
أمَّا الفتح الإسلامي، فانظر البلاد التي بلغها الفتح هل تميَّز فيها الآن أبناء الجند الفاتحين، من أبناء البلاد الأوَّلين؟
لقد جعلهم الإسلام أمةً واحدة، ليست أمة العرب، ولا أمة الفرس، ولا أمة الترك، ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10][4]، (باختصار).
6- العقيدة مزيجٌ من عقل وعاطفة، فمن سمع أنَّ العاطفة تجيء بالقوة والبطش؟ لقد عرَف التاريخ حكامًا طغاة جبارين، يُكرهون الناس حتى يكونوا لهم تابعين طائعين، يُخضعون أجسادهم وجوارحهم حتى يعملوا لهم ما يريدون، ولكن هل يستطيعون إخضاع قلوبهم حتى تمتلئ بحبِّهم، وعقولِهم حتى ترى الحقَّ معهم؟!
7- تاريخنا أعظم تاريخ، ولكننا أمَّة تجهل تاريخها ...
ولست أعني التاريخ السياسي وحدَه، بل التاريخ العلمي أولًا.
8- تاريخنا السياسي أنظفُ من كل ما يماثله من تواريخ الأمم، ولا يخلو - على ذلك - من أمور لا يحسُن أن ننشئ عليها أولادنا، أمور تقضيها طبيعة البشر الذين يخطئون ويصيبون.
9- إنَّ جبهةً معها الله لا تنكسرُ ولو كان ضدَّها الوجود كله!
10- سيرته صلى الله عليه وسلم الينبوع الصافي لطالب الفقه، والدليل الهادي لباغي الصلاح، والمَثَلُ الأعلى للأسلوب البليغ، والدستور الشامل لكل شُعَبِ الخير[5].
11- أنا من ثلاثين سنة أكتب وأخطب في الهجرة، ما انقطعت عن ذلك سنة، ولا أزال مع ذلك كلما فكرت فيها، بدت لي في أخبارها ملاحظاتٌ وعبر لم تكن قد بدت لي من قبل، ونظرت إليها من جوانب جديدة، فرأيت قديمها جديدًا، فهي كالنبع الذي لا يزداد على الاستسقاء إلَّا غزارة وعذوبة وصفاء[6].
12- الجهاد دفاع عن دعوة الحق أمام من بغى لها الأذى، وسدَّ على أهلها الطريق إلى الشعوب، ومنعهم أن يحملوا إليها العلمَ والحضارة والخير.
13- على المسلم كلما ضاقت به سبلُ النجاح في حي أو بلد أو قطر، أن يهاجر إلى حيث الظفر والعزَّة والحرية، وحيث يكون ذلك كله، وحيث تسودُ العدالة ويعمُّ النور، وحيث ينادي المنادي: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، فذلك وطن المسلم!
14- ليس في الإسلام تقديس لأحد يعلو به عن منزلة البشر، أو يمنحه صفات الألوهية، أو يعطيه العصمة المطلقة، أو يرفعه عن أن تقال في نقده كلمةُ الحق[7].
15- الزواج هو عملُ المرأة الأول، وإن أكبر غايات المرأة أن تكون زوجة وأن تكون أمًّا، لا يغنيها عن ذلك شيءٌ ولو حازت مالًا يملأ الأرض، ولو نالت مجدًا ينطح السماء، ولو بلغت من العلم والرئاسة ما تنقطع دونه الأعناقُ، ما أغناها ذلك كلُّه عن الزواج، ولا مَحَا من نفسها الميلَ إليه، ولا الرغبة فيه.
16- لو خلا بيتٌ من سخط المرأة حينًا، وخلافها حينًا، لخلا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليجد الأزواج في ذلك سلوةً لهم وأسوة؛ فإنها طبيعة المرأة.
17- الدلالُ طبيعة المرأة الجميلة المحبوبة، وهو الثمرة الأولى للجمال، وللشعور بالحب...
والغيرة الثمرة الثانية.
18- المرأةُ إذا لم تصل مع الرجل إلى كل ميدان وصل إليه، فإنَّ لها الفضلَ في إمداده وعونه، فلولا المرأة (المرأة أمًّا، والمرأة زوجًا وسكنًا) ما استطاع الرجال خوض هذه الغمرات.
19- الموتُ خيرٌ من حياة بلا كرامة ولا مجد.
20- ليست سيرة أبي بكر، ولا سيرة عمر، وليست سيرة سعد وخالد، وأولئك الأبطال العظماء، إلاَّ فصولًا متشابهة، أو نسخًا مكررة، من سيرة المعجزة الكبرى في تاريخ البشر، سيرة الانبعاث الأعظم لقوى الخير في الإنسان، سيرة الفتح الذي حيَّر نوابغ القوَّاد، وأعلام المؤرخين.
21- كان الجندي العربي لا يجيء إلَّا متطوعًا، وكان هو الذي يعدُّ لنفسه الراحلة ويعدُّ لنفسه السلاح، ويعد لنفسه الزاد، فإن لم يجد ما يتزود به، عاش على التمرة أو التمرات اليوم كلَّه، فهل سمعتم أنَّ في تاريخ البشر جميعًا مثلَ هذا الجندي؟!
إنه المثل الأعلى في الجندية في كل مكان وكل زمان، كان يُقاتِل وهو جائع، ويقاتل وهو تعبان، ويقاتل وهو مثخن، ويقاتل وهو مريض، قاتَل في الصحاري المتوقدة في المناطق الحارة، قاتل على السفوح المغطاة بالثلج في المناطق الباردة، وقاتل في آسيا وفي أوروبا وفي إفريقية، وقاتل في البَر، وقاتل في البحر، وكان الشاب يقاتل، والشيخ يقاتل، والمرأة تقاتل.
وزرع شهداءه في كل أرض، وسقى بدمه كل ميدان، حتى نشر راية القرآن على ثلث المعمور من العالم في ثلث قرن.
وما قاتَل قَطُّ إلَّا فئةً أكثر عَددًا، وأكمل عُددًا، وما قاتل إلَّا انتصر، وما قاتل إلاَّ دفاعًا عن الحق والخير والمثل الأعلى[8].
22- من كان همُّه الحقيقةَ، لا يبالي بالمظاهر.
23- ما أدري متى يبحث الشاميون عن التاريخ في أرض هذا البلد؟ متى يعلمون أنَّ تحت تراب دمشق القديمة علمًا إنِ استُخرج غيَّر وجه التاريخ القديم، وأحاديث عن الماضين لم تسمعها بعدُ أذنُ بشر، وكنوزًا وتحفًا تغني أهل دمشق[9].
24- كلُّ مصابٍ، في الدنيا من هو أشدُّ منه مصابًا، ومن نظر إلى من هو دونه، رضي واستراح، وليس إلَّا الصبر والثقة بالله.
25- إنَّ من أسهل شيء على الإنسان أن يكبر عمامته، ويعرض لحيته، ويوسع جبته، ويحفظ الآيات والأحاديث والرقائق، ثم يقعد في المساجد فيتكلم، ولا قيمة لذلك في حساب الملَكينِ، ولا وزن له عند الله، إذا لم يكن معه صدق وإخلاص وعمل[10]، إنَّ الكلام وحدَه لا ينفع شيئًا، فإن اتخذه سلَّمًا إلى الدنيا، وطريقًا إلى الكسب، وجعله تجارة، حتى يصير به من أغنياء الدنيا، فهو الخسران الأكبر.
26- الرزاق هو الله، وإنَّ ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك.
27- كان الحاكم يرجو رضا الله ومصلحة الناس حين يأمر وحين ينهى، وكان الناس يتقربون إلى الله بطاعة الحاكم؛ لأنَّهم كانوا يرون طاعته من الدين.
28- إنني ألقي الحديث، وأنتم تسمعون، وكل منَّا قد ملأت ذهنَه مشاغلُ الأرض، ولذَّات العيش الصغار، إننا نعمى بها عن رؤية الحقيقة الكبرى، كمن يضع كفه أمام عينيه، فتسد هذه الكفُّ الصغيرة الفضاءَ الأرحب، إننا اشتغلنا بمناظر الطريق عن غاية السفر، وبصغائر الحياة عن غاية الحياة.
29- المرأة ترضى أن تضحِّيَ بكل شيء في مرضاة زوجها، إلا أن تقدم له أخرى تشاركها حبه، وتقاسمها قلبه.
[1] كثيرٌ من سير عظماء الإسلام لم تُكتب؛ لأنهم كانوا يستخْفون بأعمالهم ابتغاء وجه الله تعالى، فكانوا عبادًا أخفياء أتقياء أنقياء، ولا يضرهم جهلُ الناس بأحوالهم وأخبارهم، ما دام ربُّ الناس يعرفهم.
[2] تاريخ بعض الدول الإسلامية لم يلقَ عناية واهتمامًا من المختصين، وبخاصة المناطق التي لم تشهد صراعات سياسية، أو كان أهلُها لا يتحدَّثون العربية، وهي جزءٌ من تاريخنا الإسلامي وتراثنا الحضاري، ونسأل الله عز وجل أن يسخِّر من طلبة العلم من يكتب لنا هذا التاريخ، أو يترجم لنا ما كُتب بغير العربية.
[3] كُتبت ردودٌ كثيرة على هذه الدعوى، لكن بعضهم بالَغَ في الرد؛ مما أدى به إلى حصر الجهاد في الدفع فقط دون الطلب، بل من المستحسن في الرد بيان الغاية من الجهاد ومقاصده، وأنواعه وآثاره على البلاد والعباد.
[4] الإسلام استقر في النفوس؛ لكمال آياته وحجته الظاهرة البينة، فهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهو موافق للعقل والفطرة والعلم، وصلاحه لكل زمان ومكان؛ ولذا نجد الشعوب التي دخلت في الإسلام هم أشد البشر في تمسُّكهم بدينهم رغم كل يقع عليهم من ظلم وقهر وإجحاف، بل التاريخ يشهد أن كثيرًا ممن شاركوا مع جيوشهم وانتصروا في حربهم على الإسلام وأهله، قد دخلوا في الإسلام بعد أن تبيَّن لهم الرشدُ من الغي.
[5] من الخطأ حصرُ السيرة النبوية في غزواته وسراياه، بل سيرته صلى الله عليه وسلم هي وصفٌ لكل الكليات والجزئيات في حياته عليه الصلاة والسلام وصفاته الخَلقية والخُلقية؛ مما يعطي صورةً متكاملةً في كل شؤون الحياة، ويعين على فهم القرآن والسُّنة، والتطبيق العملي لهما.
[6] كلما أعدت قراءة السيرة النبوية، استخلصت منها فوائدَ وعبرًا.
[7] لا تخلو أمة من الغلو المذموم، وهو من أسباب الهلاك؛ لأنه مجاوزة للحد، ودليل على الجهل، واتباع الهوى، وقلة الفهم.
[8] أثَّر الإسلام في العرب، فنقلهم من أمة مشتتة يسودها الجهل والظلم والكفر والتخلف الحضاري، إلى أمة واحدة قوية عزيزة، تقود العالم نحو العلم والحضارة، والعدل والقيم والمبادئ السامية.
[9] دمشق من أقدم العواصم في العالم، وقامت على أرضها حضارات عديدة.
[10] بل يُخشى على صاحبه الإثم.