أرشيف المقالات

الأصل الأول لاستمداد الشريعة

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2الأصل الأول لاستمداد الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله معلِّم الأصول، والصلاة والسلام على خير رسول، وعلى آله وصحبه أهل العلم والقلب العقول، واللسان السؤول، إلى يوم البعث والنشور.   اتَّفق الأصوليون على أن القرآن الكريم الأصلُ الأولُ لاستمداد الأصول الشرعيَّة، والعقائد الدينيَّة، والأحكامِ الفقهيَّة، واستدَلوا بأدلة كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]، ومحل الشاهد في هذه الآية قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ﴾، ومعناه في هذا السياق اتبِعوا القرآن، وقوله تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ﴾ [المائدة: 15، 16]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 105]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((تركتُ فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي)).   والقرآن الكريم ناسخٌ لجميع الكتب السماوية قبله؛ فلا يجوز العمل بغيره بعد نزوله، قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48]، وجاء في مسند الإمام أحمد أن عمر رضي الله عنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب، فقال: ((أَمُتَهَوِّكُون - أمتحيِّرون - فيها يا بنَ الخطاب؟! والذي نفسي بيده، لقد جئتُكم بها بيضاءَ نقيَّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذِّبوا به، أو بباطل فتصدِّقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيًّا، ما وسعه إلا أن يتَّبعني))، وقد وصَل إلينا متواترًا بعشر قراءات؛ أي: رواه جمعٌ كثير عن جمعٍ كثير يستحيل تواطؤهم على الكذب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والتواتر يفيد القطع بصحة الثبوت؛ أي: صحيح الإسناد مائة بالمائة.   وكل شيء تجد له أصلًا في القرآن، إمَّا عامًّا وإمَّا خاصًّا، قال تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، فمثال الأصل العام: جواز استخدام الإنترنت، وهذا يستفاد من قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29]، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لَعَنَ اللهُ الواشِمَاتِ والمُستوشمَاتِ، والنَّامِصَاتِ والمُتنمِّصَاتِ، والمُتفلِّجَاتِ للحسنِ المُغيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ"، فبلغ ذلك امرأةً من بني أسدٍ يقال لها: "أُمُّ يَعْقُوبَ" وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: ما حديثٌ بلغني عنك أنَّك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلقَ الله! فقال عبدالله: وما لي لا ألعنُ مَنْ لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟! فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحَيِ المصحف فما وجدتُه! فقال: لئن كنتِ قرأتِه لقد وجدتِه، قال الله عز وجل: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، فقالت المرأة: فإني أرى شيئًا من هذا على امرأتك الآن، قال: "اذهبي فانظري"، قال: فدخلت على امرأة عبدالله فلم ترَ شيئًا، فجاءت إليه فقالت: ما رأيت شيئًا! فقال: "أما لو كان ذلك، لم نجامعها".   وأما مثال الأصل الخاص، فهو تحريم الربا، المستفاد من قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]، وقد بذل أئمَّة الأمة وعلماؤها أعمارَهم لخدمة القرآن وبيان معانيه، ووضع المناهج والطرق الصحيحة لتأويله على مُراد ربِّ العزة.   إن من المباحث الأصولية المهمة في علم أصول التفسير: مبحثَ طُرق التفسير؛ لأنه بمعرفة هذا المبحث العلميِّ المرموق يكتسب الطالبُ المنهجيةَ الصحيحةَ التي يَستخرج بها المعنى الصحيح من كتاب الله، ويميِّز بين التفسير المعتبر وغير المعتبر؛ لذلك قال غير واحد من المحققين: مَن حُرِم الأصول، حُرِم الوصول.   والتفسير في اللغة: الكشف؛ نقول: فسر الفرَس: إذا رفع عنه الغطاء، وفي الاصطلاح: هو الكشف عن معاني كتاب الله تعالى بكتابه، وسنة رسوله، وتأويل صحابة نبيِّه، ولغة تنزيله.   القسم الأول: تفسير القرآن بالقرآن: لا شك في أن أقوى تفسيرٍ لآيات الله ما بيَّنه الله تعالى عن نفسه، وأخبَر فيه بمراده؛ إذ إنه تعالى يُجمل بعض الآيات ثم يُفصِّلها في الآيات التي بعدها أو تبعد عنها في السورة نفسها أو غيرها، وينقسم تفسير القرآن للقرآن إلى أربعة أنواع: أولًا: نسخُ القرآن بالقرآن: مثاله قوله تعالى في سورة النحل: ﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ [النحل: 67]، تفيد هذه الآية الكريمة جواز السُّكر قبل أن يُرفع بالتحريم في آية المائدة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90].   ثانيًا: تخصيص القرآن لعموم القرآن: مثاله قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234]، فعِدَّةُ الأرملة أربعة أشهر وعشرة أيام، وقد خصَّ الله تعالى الحامل الأرملة بأن جعَل عدتها وضعَ حملِها بالولادة أو السَّقط، إذ قال: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4].   ثالثًا: تقييد القرآن لمطلق القرآن: مثاله قوله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ﴾ [الماعون: 4]، فهذه مطلَقة، قُيِّدت بقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون: 5].   رابعًا: تفصيل القرآن لمجمل القرآن: مثاله قوله تعالى: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ [الغاشية: 1]، هذه مجملة، فُصِّلت بقوله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴾ [الغاشية: 2] إلى آخر السورة.   القسم الثاني: تفسير السُّنة للقرآن: وينقسم بدوره إلى أربعة أنواع: أولًا: نسخُ السُّنة للقرآن: ومثاله قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 180]، تفيد هذه الآية جواز الوصية للوارث، وقد رُفع هذا الحكم بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا وصيةَ لوارث)).   ثانيًا: تخصيص السنة لعموم القرآن: ومثاله قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ﴾ [المائدة: 3]، وقد خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالإباحة: الحوتَ والجرادَ من عموم الميتة، والكبدَ والطحالَ من عموم الدم، إذ قال: ((أُحِلَّتْ لنا ميتتان ودمَان؛ فأما الميتتان: فالجراد والحوت، وأما الدمان: فالطِّحال والكبد)).   ثالثًا: تقييد السُّنة لمطلَق القرآن: ومثاله قوله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 38]، في هذه الآية أطلَقَ سبحانه وتعالى قطع اليد في أي مسروق، فجاءت السُّنة فقيَّدته بأكثرَ من ربع دينار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تُقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا)).   رابعًا: تفصيل السُّنة لمجمَل القرآن:ومثاله قوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، فَصَّل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإجمالَ بقوله: ((الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله)).   القسم الثالث: تفسير القرآن بأقوال الصحابة: فقد اتفق الأصوليون والمفسِّرون على اعتبار تفسير الصحابة للقرآن الكريم؛ لكونهم شهدوا التنزيل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُقرُّهم على فهمهم، ويسدِّدهم في خطئهم، ويجيبهم عن أسئلتهم، ولكونهم أذكى الناس، وأتقاهم قلوبًا، وعربًا أقحاحًا، يقول تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]، ويُشترط لهذا القسم شرطان: الشرط الأول: أن يصحَّ الإسناد إلى الصحابي؛ لأنه لا يمكن أن يُعزى القول إلى أحد من غير التثبُّت منه، وذلك أَولى في كتاب الله وفي شرعه الحنيف.   الشرط الثاني: ألا يخالف قولُ الصحابي آيةً قرآنيَّة أو حديثًا نبويًّا؛ لأن العصمة في كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة، والصحابيُّ إن أصاب في اجتهاده فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات: 1]، وعند اختلافهم في التفسير، إن كان يجوز الجمع بين أقوالهم، فهو من باب التوسع في المعنى وخلاف التنوُّع، وإن كان يتعذر الجمع بينها، فيُنظر إلى الراجح منها حسب القرائن، قال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59].   ومثال تفسير الصحابي في قوله تعالى: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ [التكوير: 1]، قال ابن عباس: إذا اسودَّت وأَظْلَمَتْ.   القسم الرابع: تفسير القرآن باللغة العربية: قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 193 - 195]، وقال أيضًا: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]، وعند تعارض التفسير اللغويِّ والشرعي، يُقدَّم التفسير الشرعيُّ؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [الحجرات: 1].   ومثاله قوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [البقرة: 43]، فالصلاة لغةً: الدعاء، وفي الشرع: هي عبادة مخصوصة، بشروط مخصوصة، وأقوال وأفعال مخصوصة، في أوقات مخصوصة، وهنا يُقدَّم المعنى الشرعيُّ على المعنى اللغويِّ.   وفي بعض الحالات قد يُقدَّم المعنى اللغويُّ على المعنى الشرعيِّ بالأدلة والقرائن؛ مثل قوله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 103]، فالمعنى هنا: ادعُ لهم؛ بدلالة السياق.   وفي الأخير نرجو الله أن نكون وُفِّقنا لتيسير هذا المبحث الأصوليِّ على طلبة العلم، راجين من الله تعالى أن ييسِّر مرورنا على الصراط، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣