أرشيف المقالات

هل من بشرى للبشر في يوم المحشر؟

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2تأملات قرآنية (6) هل من بشرى للبشر في يوم المحشر؟   ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [1]   حين يتمعن القارئ في الآيات الأولى من سورة الحج فإن نَفسَهُ يكاد يتقطع من هول المشهد، والتصوير الدقيق للموقف يجعلك تعايشه، ساعةٌ مهولةٌ يتزلزل فيها الموجود من حجرٍ وشجرٍ وبشرٍ، ونَقْلُ الصورةِ لنا كاملةً جعلنا نستحضِر صورةَ أرحَمِ مَخلوق في أدقِّ حالةٍ تتجلى فيها رحمتها وهي الأم المرضعة التي تفدي رضعيها بروحها، ولو ملكت أغلى من الروح لفدته، لكن المشهد هناك يختلف، المرضعة ترمي رضيعها وتمضي وهي لا تعلم أنه سقط منها، وهي لا تخشى إلا على نفسها، ولا تريد النجاة إلا لنفسها، والكل مَسلُوب العقل، والإحساس، والإرادة، مضطرب لا يعلم إلى أين يمضي ولماذا يمضي فهم كالسكارى ولكنهم ليسوا سكارى فهم يعلمون هول الموقف، ومن الهول شُدِهوا، فهم طالما سمعوا بهذا اليوم، ولكنهم ضحكوا منه كثيراً، ولم يتخيلوا أن الصاخة والقارعة والواقعة والطامة والآزفة و التغابن والحاقة كلها ستجتمع في يوم واحد، يشيب الولدان لهوله.   ثم يأتي البلسم الشافي لقلوب المؤمنين في خضم هذا الأمواج المتلاطمة حين نعلم مَنْ هو مالكُ الملك، ومَلِكُ الملوك، الذي طالما قرأناه في سورة الفاتحة في قوله تعالى: (مالك يوم الدين) [2] فَتهَدَأُ حينئذٍ النَفْسُ، وتعود القلوبُ إلى الصدور بعد أن بلغت الحناجر، وتقف المآقي في العيون بعد أن كانت تدور.   ويومئذ الملِكُ واحدٌ والجميعُ يأتمرُ بأمره، فلا ظُلمَ، ولا تعسف، ولا واسطة، ولا أقرباء ، الكل سواسيةٌ أمام الله كأسنان المشط، الكل حُفاة عُراة غُرل، الخادم والمخدوم عنده سواء.   والحاكم واحد، والملك واحد، وهذه هي السعادة الكبرى، وهذه هي البشرى الكبرى للمؤمن الذي أحسن العمل، فلا ظلم ولا فوت ، فأحسن العمل واطمئن فلا يجتمع على العبد أمنان كما لايجتمع عليه خوفان، فمن خاف الله هنا أمَّنَه الله هناك، ومن أمِنَهُ هنا خافه هناك ومسه عذابه [3].   وهو مصداق قوله تعالى: ﴿ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾[4]، والفرحة تتوالى وتكبر حين نسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (قَالَ الله عز وَجل: أخرجُوا من النَّار من ذَكرنِي يَوْمًا أَو خافني فِي مقَام) [5]، فكل ذكر وكل فكر وكل خوف عنده بأجر وبدرجات، وحسبنا هنا لتقويم مسار النفوس والعروج بها نحو علام الغيوب قول السري السقطي: أحسن الأشياء خمسة: البكاء على الذنوب، وإصلاح العيوب، وطاعة علام الغيوب، وجلاء الرين - ما يغطي القلب من سواد الذنوب - عن القلوب، وألا تكون لما تهوى رَكُوب.   وقال: خمسة أشياء لا يسكن في القلب معها غيرها: الخوف من الله وحده، والرجاء من الله وحده، والحب لله وحده، والحياء من الله وحده، والأنس بالله وحده [6] فلا أحد يستحق الحب إلا الله، ولا أحد يكون الخوف منه والفرار إليه في آن واحد ويكون منجياً إلا الله.   اللهم اجعلنا ممن يخافونك في السر والعلانية، واقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، واكتبنا مع الذين كتبت لهم الأمن في يوم القيامة. وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.


[1] سورة الحج: 1-2 [2] سورة الفاتحة: 3 [3] عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه جل وعلا ، قال : " وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين ، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة".
صحيح ابن حبان - كتاب الرقائق- باب حسن الظن بالله تعالى - ذكر البيان بأن حسن الظن الذي وصفناه يجب أن يكون مقرونا- حديث:‏641‏ [4] الطور 26 - 28 [5] سنن الترمذي الجامع الصحيح - الذبائح - أبواب صفة جهنم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - باب ما جاء أن للنار نفسين - حديث:‏2582‏ [6] موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق، (قصص تربوية من حياة الأنبياء والصحابة والتابعين والصالحين) تأليف: ياسر عبد الرحمن، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م:1/95.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣