أرشيف المقالات

مقتضى العلم وتقليد مخالفه

مدة قراءة المادة : 32 دقائق .
2مقتضى العلم وتقليد مخالفه
سبق أن بينا رأي الشَّاطبي في اشتراط العدالة، وأنها لا تشترط في صحة الاجتهاد ووقوعه، وفي هذا المطلب نبين رأي الشَّاطبي في حكم تقليد المخالف لمقتضى العلم.   ومقتضى: أصلها من قضى: بمعنى حكم، يقال: قضى به؛ أي: حكَم به، واقتضى الأمر كذا؛ أي: استلزمه، ويقال: افعل ما يقتضيه كرمك؛ أي: افعَلْ ما يطالبك به، واقتضى الأمر الوجوب؛ أي: دلَّ عليه[1].   ومقتضى العلم: هو ما حكم به، واستلزمه، وطلبه من حامله، ودل عليه، وهو ثمرة العلم وفائدته، وعدم تطبيق العلم هو مخالفته؛ فمَن أمر الناس بأمر، ولم يكن مؤتمرًا، أو نهاهم عن شيء، ولم يكن منتهيًا، فهل هو أهل لأن يقتدى به أو لا؟ هذا ما سنوضح رأي الشَّاطبي فيه في السطور الآتية.   رأي الشَّاطبي: فصَّل الشَّاطبي حال المفتي في مطابقة قوله لفعله، فذكر أن المفتي لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون موافقًا فعله لقوله؛ فهو حينئذ موافق لمقتضى العلم. ففتواه حينئذ صحيحة، قد وقعت موقعها، وصدَّقها بفعله، وصاحبُها أهلٌ أن يقتدى ويتأسى به، قال الشَّاطبي عن صاحب هذه الحال: "فهو الصادق الفتيا، والذي يقتدى بقوله، ويقتدى بفعله"[2].   الحالة الثانية: أن يكون فعله مخالفًا لقوله؛ فهو مخالف لمقتضى العلم، وقد قسم الشَّاطبي صاحب هذا الحالة إلى قسمين: القسم الأول: أن تؤدي به المخالفة إلى السقوط عن رتبه العدالة إلى حضيض الفسق؛ ففتواه في هذه الحالة فاسدة غير معتبرة، ولا يصح الاقتداء به، ولا إفتاؤه، ولا استفتاؤه.   قال الشَّاطبي: "فإما أن تؤديه المخالفة إلى الانحطاط عن رتبة العدالة إلى الفسق أو لا، فإن كان الأول فلا إشكال في عدم صحة الاقتداء، وعدم صحة الانتصاب شرعًا وعادة، ومن اقتدى به كان مخالفًا مثله؛ فلا فتوى في الحقيقة، ولا حكم"[3].   القسم الثاني: ألا تؤديَ به المخالفة إلى السقوط عن رتبة العدالة، وقد لخص الشَّاطبي حكم صاحب هذا القسم، فقال: "وإن كان الثاني صح الاقتداء به، واستفتاؤه وفتواه فيما وافَق دون ما خالف"[4].   وقال في موضع آخر: "فأما فتياه بالقول، فإذا جرَتْ على غير المشروع، فلا يوثق بما يفتي به؛ لإمكان جريانها كسائر أقواله على غير المشروع، وهذا من جملة أقواله، فيمكن جريانها على غير المشروع، فلا يوثق بها، وأما أفعاله فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم لم يصحَّ الاقتداء بها، ولا جعلها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح، وكذلك إقراره؛ لأنه من جملة أفعاله"[5]، وقال: "فعلى كل تقدير لا يصح الاقتداء، ولا الفتوى على كمالها في الصحة إلا مع مطابقة القول الفعل على الإطلاق"، ثم قال: "وهو معنى موافق للنقل والعقل، لا خلاف فيه بين العقلاء"[6]. ويلاحظ في أقواله هنا أنه يرى أن فتوى صاحب هذا القسم لا تصح على الإطلاق.   وقال في موضع آخر: "وإن لم تكن مخالفته قادحةً في عدالته، فقبول قوله صحيح، والعمل عليه مبرئ للذمة، والالتزام الشرعي متوجه عليهما معًا - أي على المفتي في الانتصاب للفتوى، وعلى المستفتي في الالتزام بفتواه"[7]. وفي هذا النص ذكر الشَّاطبي أن صاحب هذا القسم يصح الاقتداء به، ما لم تكن مخالفته قادحةً في العدالة.   وعلى هذا فظاهر كلامه في هذه المواضع المختلفة قد يوهم بشيء من التناقض؛ إذ هو قد صرح بأنه لا يصح الاقتداء ولا الفتوى على كمالها في الصحة إلا مع مطابقة القول للفعل على الإطلاق، ثم إنه ذكر أن مَن كان قوله مخالفًا لفعله فيصح الاقتداء به فيما وافق دون ما خالف، هذا مع أن قوله غير مطابق لفعله على الإطلاق.   وكأن الشَّاطبي يلحظ هذا التناقض الذي قد يفهم من ظاهر كلامه، فيجيب عنه موضحًا لمراده فيقول: "إنا إنما تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع، لا في الحكم الشرعي، فنحن نقول: واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق، طابق قوله فعله أم لا، لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل، ولا يطَّرِدُ إن حصل"[8].   وعلى هذا فهو حينما أطلق عدم الصحة لصاحب هذا القسم فهو لا يعني بذلك البطلان، وإنما يريد أن الفتوى تقع صحيحة، ولكن هذا المفتي ليس أهلًا كامل الأهلية للانتصاب للفتوى، كما أن الغالب هو عدم حصول المنفعة بفتواه، لا سيما فيما يخالف فيه بخلاف ما يطبقه من الأفعال موافقًا فيه لقوله، فإن الناس إذا رأوه غير عامل بفتواه لم يتبعوه فيها، وأعرضوا عن الخير الذي يقوله؛ ولذلك قال الشَّاطبي عنه: "فلا يوثق بما يفتي به"[9]. وعلى هذا فإطلاق الصحة من عدمها هنا اصطلاح خاص، وضَّحه الشَّاطبي في مجموع كلامه.   ويبين الشَّاطبي أن مخالفة المفتي لمقتضى العلم مؤثرة في تقليده، وبيان ذلك أن الفتيا تتحصل عن طرق: أولها: القول، والمفتي إذا كانت أقواله تجري على خلاف المشروع، ففتياه من جمله أقواله، فلا يمكن الوثوق بها؛ إذ يمكن جريانها على خلاف الشرع.   ثانيها: الفعل.   وثالثها: الإقرار، وهو مِن الفعل، قال الشَّاطبي: "وأما أفعاله فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم لم يصحَّ الاقتداء بها، ولا جعلها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح، وكذلك إقراره؛ لأنه من جملة أفعاله"[10].   ولا ريب أن كل طريق من هذه الطرق مؤثر على الآخر؛ ولذا فإن المخالفة بالجوارح تبعث وتدل على المخالفة في الأقوال، والمخالفة في الأقوال تبعث وتدل على المخالفة في الجوارح؛ لأن الجميع راجع إلى أمر واحد قلبي، وهو الإيمان الكامن في القلب.   ويفصل الشَّاطبي في التمثيل على مخالفة المفتي لمقتضى ما يفتي به، أو لمخالفة العلم الذي يعلمه، فيقول: "المفتي إذا أقر مثلًا بالصمت عما لا يعني، فإن كان صامتًا عما لا يعني ففتواه صحيحة، وإن كان من الخائضين فيما لا يعني فهي غير صادقة، وإذا دلك على الزهد في الدنيا، وهو زاهد فيها، صدقت فتياه، وإن كان راغبًا في الدنيا فهي كاذبة، وإن دلك على المحافظة على الصلاة، وكان محافظًا عليها، صدقت فتياه، وإلا فلا، وعلى هذا الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر، ومثلها النواهي، فإذا نهى عن النظر إلى الأجنبيات من النساء، وكان في نفسه منتهيًا عنها، صدقت فتياه، أو نهى عن الكذب، وهو صادق اللسان، أو عن الزنا، وهو لا يزني، أو عن التفحش، وهو لا يتفحش، أو عن مخالطة الأشرار، وهو لا يخالطهم، وما أشبه ذلك، فهو الصادق الفتيا، والذي يقتدى بقوله، ويقتدى بفعله، وإلا فلا"[11].   وعلى هذا، فعلامة صدق الفتوى مطابقة الفعل؛ فهو الصدق حقيقةً عند العلماء، والمراد بالصدق مطابقة الواقع، والكذب في الفتيا مخالفة الواقع، وصدق الفتيا هو شرط الانتفاع بفتياه، ومن لم يكن صادقًا في فتياه - ما لم يسقط عن وصف العدالة - فالشَّاطبي يرى عدم تأهله الأهلية التامة للاقتداء به، وإن كان اجتهاده وفتياه قد يوافقان حقيقة الأمر، لكنه ليس أهلًا لأن يقتدى به، أو يتلقى منه. ويصرح الشَّاطبي بذلك، فيقول: "الفتيا لا تصح مع المخالفة، وإنما تصح مع الموافقة"[12].   ولما أن كان المفتي منزلًا منزلة الأنبياء في الانتصاب، كان واجبًا عليه أن يقتفي آثارهم، وأن يتبع خطاهم، وقد كانوا - عليهم السلام - مُتْبِعين للقول الفعل، مؤتمرين بأمر الله، منتهين عما نهى الله عنه؛ ولذلك حكى الله عن شعيب - عليه السلام - قوله لقومه: ﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾ [الأعراف: 89]، وقال: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [هود: 88]، فعَدَّ - عليه السلام - مخالفته لما يأمرهم به، أو ينهاهم عنه، كذبًا يخوِّلُهم ألا يتبعوه بسببه، ولكنه كان هو الصادقَ الأمين.   وذكر الشَّاطبي أن العلماء قالوا بعصمة الأنبياء قبل النبوة من الشرك والكفر[13]؛ لأن القلوب تنفِرُ عمن كان هذا سبيلَه، وهذا ولا شك جارٍ بعد النبوة مِن باب أولى؛ إذ لو كانوا آمرين غير مؤتمرين، وناهين غير منتهين، لكان ذلك أولى منفِّر، وأقرب صادٍّ عن الاتباع.   قال الشَّاطبي: "فمن كان في رتبة الوراثة لهم، فمن حقيقة نيله الرتبة ظهورُ الفعل على مصداق القول"[14].   وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم خيرُ شاهد على ذلك، حتى أنكر على من قال: (يُحِلُّ اللهُ لرسوله ما يشاء)[15]، وغضب على من قال: (إنك لست مثلنا؛ قد غفر الله لك ما تقدَّم مِن ذنبك وما تأخر)، وقال: ((والله إني لأرجو أن أكونَ أخشاكم لله، وأعلَمَكم بما أتَّقِي))[16].   وحين نهى عن الربا كان أول ربًا وَضَعه ربَا عمه العباس؛ حيث قال: ((وأول ربًا أضَعُه ربَا العباس بن عبدالمطلب))[17]، وحينما وضع دماء الجاهلية، قال: ((وأول دمٍ أضعه دمُنا؛ دم ربيعة بن الحارث))[18]. وحين شفع عنده في السرقة قال: ((والذي نفسي بيده، لو سرقَتْ فاطمة بنت رسول الله، لقطعتُ يدها))[19].   ولا شك أن المجتهد إنما نصب للاقتداء؛ لكونه وارث النبوة، فإذا خالف ذلك كان مخالفًا لمقتضى منزلته، وقد انغرس في قلوب الناس الإعراضُ عن اتباع مَن خالف فعلُه قولَه[20].   وخلاصة القول أنه يجب على المجتهد أن يكون فعله مطابقًا لقوله، وألا يخالف مقتضى علمه، فإن فعل ولم ينزل عن رتبة العدالة صح انتصابه للفتوى، وقُبلت فتواه، وصح تقليده، لكنه ليس أهلًا في الحقيقة لما انتصب له، ولا ريب أنه لن ينتفع بفتواه، وإن حصل الانتفاع فهو نادر منقطع لا حكم له.   وقد وافق الأصوليون الشَّاطبيَّ في عدم جواز تقليد مَن سقطت مرتبته عن العدالة، وجواز تقليد من لم تنزل مرتبته عن العدالة[21]. قال الخطيب في شروط المفتي: "ثم يكون عدلًا ثقة؛ لأن علماء المسلمين لم يختلفوا في أن الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين، وإن كان بصيرًا بها"[22].   وقال الغزالي: "أن يكون عدلًا مجتنبًا للمعاصي القادحة في العدالة، وهذا يشترط لجواز الاعتماد على فتواه؛ فمَن ليس عدلًا، فلا تُقبَل فتواه"[23].   وقال ابن الصلاح في أوصاف المجتهد الذي يجوز تقليده: "ثقة مأمونًا متنزِّهًا من أسباب الفسق ومسقطات المروءة؛ لأن مَن لم يكن كذلك، فقوله غير صالح الاعتماد"[24].   أما قول ابن القيم في الفاسق: "والصواب جواز استفتائه وإفتائه[25]، قلت: وكذلك الفاسق، إلا أن يكون معلنًا بفسقه، داعيًا إلى بدعته؛ فحكم استفتائه حكم إمامته وشهادته، وهذا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، والقدرة والعجز؛ فالواجب شيء، والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا مَن يلقي العداوة بين الواجب والواقع؛ فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وإذا عم الفسوق وغلب على أهل الأرض، فلو منعت إمامة الفساق وشهاداتهم وأحكامهم وفتاويهم وولاياتهم لعُطِّلت الأحكام، وفسد نظام الخلق، وبطَلت أكثر الحقوق، ومع هذا فالواجب اعتبار الأصلح فالأصلح، وهذا عند القدرة والاختيار، وأما عند الضرورة والغلبة بالباطل، فليس إلا الاصطبار والقيام بأضعف مراتب الإنكار"[26].   فكلام ابن القيم هذا واضح في المراد، وأن مراده بجواز إفتائه واستفتائه في حال الضرورة والحاجة، ولا شك أن هذا محض المصلحة، فليس قوله مخالفًا لقول العلماء قبله، وإنما هو محمول على أمر خاص، وحالة خاصة.   وقد نص العلماء على ضرورة مطابقة فعل العالم لقوله، وأن العلم الحقيقي إنما هو العمل والتطبيق، وأن العلم بدون عمل وبالٌ على صاحبه، وضرر عليه، وأن الواجب عليه أن يبدأ بنفسه فيقيمها على الخير، فإنه إن كان كذلك وضع الله البركة في قوله، قال القرافي: "ومتى كان المفتي متقيًا لله، وضع اللهُ البركة في قوله، ويسَّر قبوله على مستمعيه"[27].   أدلة الشَّاطبي ومن وافقه: استدل الشَّاطبي على أن المجتهد الذي خالف قوله فعله ليس أهلًا للاقتداء، وأنه لا ينتفع بقوله المخالف لفعله - بأدلة: الدليل الأول: أن من كان يجري في أقواله أو أفعاله أو فيهما على مخالفته الشرع، فما يفتي به سواء كان قولًا أو فعلًا من جملة أقوال وأفعاله التي قد يجري فيها على غير المشروع، فلا يمكن الوثوق بها؛ لإمكان جريانها على غير المشروع كسائر أقواله وأفعاله[28].   الدليل الثاني: أن مطابقة الفعل للقول هو الصدق حقيقة في كلام العلماء؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ [الأحزاب: 23]، وقال في ضده: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ﴾ [التوبة: 75]...
إلى قوله: ﴿ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 77]؛ فاعتبر أنهم كاذبون؛ لمخالفة فعلِهم لقولهم، ومنه قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، ومنه قوله تعالى عن شعيب عليه السلام: ﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾ [الأعراف: 89]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [هود: 88].   فالله أمر بالصدق، وذكَره بعد ذِكر التقوى، مما يدل على أن التقوى لا تكون تامة إلا بالصدق مع الله، وعلى هذا فمن لم يكن صادقًا، فهو كاذب قد خالف تقوى الله، ومن يكن هذا حاله فليس أهلًا لأن يقتدى به[29].   الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على من قال: (يحل الله لرسوله ما شاء)[30]، وحين سئل عن أمر فقال: ((إني أفعله))، فقيل له: (إنك لست مثلنا؛ قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر!)، غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتَّقِي))[31]، ولما نهى عن الربا قال: ((وأول ربًا أضعه ربَا العباس بن عبدالمطلب))[32]، وحين وضع دماء الجاهلية قال: ((وأول دمٍ أضعه دمنا؛ دم ربيعة بن الحارث))[33].   وقال حين شفع عنده في حد السرقة: ((والذي نفسي بيده، لو سرقت فاطمة بنت رسول الله، لقطعتُ يدها))[34]. وهذا منه صلى الله عليه وسلم تأكيد على ضرورة مطابقة الفعل للقول؛ إذ هذا هو تصديق القول حقيقة[35].   الدليل الرابع: أن الله تعالى قص عن شعيب - عليه السلام - قوله: ﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾ [الأعراف: 89]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [هود: 88]، وأثر ما لا يحصى عن نبينا صلى الله عليه وسلم في مطابقة فعله لقوله، وهكذا كان سير الأنبياء - عليهم السلام - ولما أن كان العالم في رتبة الوارث للأنبياء - عليهم السلام - كان من حقيقة نيله للوراثة تصديق الفعل للقول، كما كان الأنبياء - عليهم السلام – يفعلون[36].   الدليل الخامس: أن الله تعالى قد ذم الفاعل بخلاف ما يقول؛ كما في قوله تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 44]، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3]، وقد جاء تأويل هذه الآية عن بعض السلف؛ قال ميمون بن مهران: "إن القاصَّ المتكلم ينتظر المقت، والمستمع ينتظر الرحمة"، فسُئل عن قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2] أهو الرجل يقرظ نفسه، فيقول: فعلت كذا وكذا من الخير، أو هو الرجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإن كان فيه تقصير؟ فقال: "كلاهما"[37]. ولما أن كان الله تعالى قد نهى عن هذا الصنيع، دل على أن صاحبه ليس أهلًا للتقليد[38].   الدليل السادس: أن الشرع إنما نصب الحاكم ليتقدى به في فعله وقوله؛ لأنه بمنزله الوارث للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خالف كان مخالفًا لمقتضى المرتبة، فلا يكون محلًّا للتأسي[39].   اعتراض: ذكر الشَّاطبي اعتراضًا على ما سبق أن قرر، ثم أجاب عنه، وصورة هذا الاعتراض: أنه لا إشكال في أن الأَوْلى والمستحِقَّ للتقديم هو من طابق قوله فعله، وأما أن يقال: إذا لم يكن كذلك فلا يصح له الانتصاب للفتوى، فهذا مشكل جدًّا؛ إذ يترتب عليه: أولًا: أن يتعذر القيام بالفتوى، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا سيما في هذه الأزمنة المتأخرة البعيدة عن زمن النبوة، التي تكثر فيها مخالفة الفعل للقول، ثم من هو الذي لا يزل، ولا يضل، ولا يخالف قوله فعله، باستثناء الأنبياء والرسل - عليهم السلام؟!   ثانيًا: أن العلماء قد ذكروا أنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرًا أو منتهيًا، وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل، والقاعدة: أن كل مكمل أدت مراعاته واشتراطه إلى انخرام الأصل الكلي لم يكن معتبرًا، فكذلك في الفتيا[40].   جوابه: وأجاب الشَّاطبي عن ذلك: بأن هذا السؤال غير وارد على الأصل المقرر؛ لأن الأصل المقرر على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع، لا في الحكم الشرعي؛ فالانتصاب واجب على المجتهد، سواء وافق قوله فعله أم لا، لكنه لا ينفع بفتواه، ولو حصل فلا يطَّرد؛ لأنه إن كان موافقًا فعله لقوله حصل الانتفاع والاقتداء به في أقواله وأفعال، أو كان مظنة لحصول الانتفاع، وإن خالف فعله قوله فإما أن ينحط في المخالفة إلى الخروج عن رتبة العدالة إلى الفسق، وهنا يطرح قوله، ولا يجوز له الانتصاب للفتوى بحال، ولا يصح الاقتداء به، وإما ألا ينحط إلى ذلك، فيصح الاقتداء به واستفتاؤه وفتواه فيما وافق دون ما خالف، فلا ينبغي الاقتداء به فيه[41].


[1] انظر: المصباح المنير (2/ 507) القاموس المحيط (1708) المعجم الوسيط (742) مادة: "قضى".
[2] الموافقات (5/ 268). [3] الموافقات (5/ 273، 274 - 275). [4] الموافقات (5/ 273). [5] الموافقات (5/ 267). [6] الموافقات (5/ 274). [7] الموافقات (5/ 275). [8] الموافقات (5/ 273). [9] الموافقات (5/ 267). [10] الموافقات (5/ 267). [11] الموافقات (5/ 268). [12] الموافقات (5/ 269). [13] انظر: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين (220) عصمة الأنبياء (27) طوالع الأنوار (324) تفسير آيات أشكلت (1/ 178)، وفيه بحث مطول. [14] الموافقات (5/ 270). [15] رواه مالك في الموطأ كتاب الصيام باب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم (1/ 291) وعنه الشافعي في الرسالة (404/ 1109) عن عطاء بن يسار مرسلًا، ووصله عبدالرزاق في مصنفه كتاب الصيام باب القبلة للصائم (4/ 184/ 8412) وأحمد في المسند (5/ 434) عن رجل من الأنصار، هو الذي وقعت له القصة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 169 - 170): "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه ابن حجر في فتح الباري (4/ 151) والزرقاني في شرح الموطأ (2/ 218) وقال أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة بعد أن نقل كلام الهيثمي: "وهو كما قال". [16] رواه مسلم في صحيحه كتاب الصيام باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب (7/ 192/ 1110) عن عائشة رضي الله عنها. [17] رواه مسلم في صحيحه كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (8/ 138/ 1218) عن جابر رضي الله عنه. [18] هو طرف في الحديث الذي سبق تخريجه في الهامش السابق، لكن عند مسلم: (دم ابن ربيعة بن كعب)، وجاء عند أبي داود - كما في سننه كتاب الحج باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 455/ 1905) -: (وأول دم أضعه دماؤنا: دم - قال عثمان - يعني ابن أبي شيبة شيخ أبي داود - دم ابن ربيعة، وقال سليمان - يعني ابن عبدالرحمن الدمشقي شيخ أبي داود -: دم ربيعة بن الحارث)، وذكر القاضي عياض أن في بعض روايات مسلم: (دم ربيعة)، وقيل: هو وهم، والصواب: (ابن ربيعة)؛ لأن ربيعة عاش إلى زمن عمر، وتأوله أبو عبيد، فقال: دم ربيعة؛ لأنه ولي الدم، فنسبه إليه؛ انظر: شرح النووي لمسلم (8/ 149). [19] رواه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، باب منه (5/ 114/ 4304) ومسلم في صحيحه كتاب الحدود باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود (11/ 155/ 1688) عن عائشة - رضي الله عنها - وفيه أن الشافع أسامة بن زيد رضي الله عنهما. [20] انظر: الموافقات (5/ 273). [21] انظر: الإحكام لابن حزم (2/ 120) الفقيه والمتفقه (2/ 303) الحاوي (16/ 119) الفصول في الأصول (4/ 273) رسالة في أصول الفقه (127) العدة (5/ 1595) اللمع (127) البرهان (2/ 871) إحكام الفصول (2/ 728) المستصفى (2/ 350) التمهيد (4/ 392) قواطع الأدلة (2/ 306) بذل النظر (692) روضة الناظر (2/ 346) أدب الفتوى (35) نفائس الأصول (9/ 3839) صفة الفتوى (29) شرح مختصر الروضة (3/ 588) المسودة (555) قواعد الأصول (101) تقريب الوصول (427) جمع الجوامع مع شرح المحلي والآيات البينات (4/ 432) البحر المحيط (6/ 204) التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 294) شرح الكوكب المنير (4/ 545) تيسير التحرير (4/ 183) فواتح الرحموت (2/ 364) قمر الأقمار (2/ 155). [22] الفقيه والمتفقه (2/ 330). [23] المستصفى (2/ 350). [24] أدب الفتوى (35). [25] يعني بذلك مستور الحال. ([26] إعلام الموقعين (4/ 169). [27] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (256) وانظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 4 وما بعدها) فقد ساق ابن عبدالبر آثارًا كثيرة عن السلف في أهمية العمل بالعلم، وأن العلم لا ينفع بدون العمل، وفي ذلك ألَّف الخطيب البغدادي كتابه: اقتضاء العلم العمل. [28] انظر: الموافقات (5/ 267)، وهذا معنى قول الأصوليين: ليس أمينًا على ما يقول؛ انظر: البرهان (2/ 871) أدب الفتوى (35) شرح الكوكب المنير (4/ 545). [29] انظر: الموافقات (5/ 268 - 270). [30] سبق تخريجه (ص 785). [31] سبق تخريجها (ص 785). [32] سبق تخريجها (ص 785). [33] سبق تخريجها (ص 785). [34] سبق تخريجها (ص 785). [35] انظر: الموافقات (5/ 269 - 271). [36] انظر: الموافقات (5/ 269 - 270). [37] رواه ابن المبارك في الزهد (17/ رقم 49) وابن الجوزي في القصاص والمذكرين (35) دون سؤاله عن الآية. [38] انظر: الموافقات (5/ 271 - 272). [39] انظر: الموافقات (5/ 273). [40] انظر: الموافقات (5/ 272). [41] انظر: الموافقات (5/ 273).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١