أرشيف المقالات

خواطر حول سورة الفتح (6) مناسبات سورة الفتح

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2خواطر حول سورة الفتح (6) مناسبات سورة الفتح   أولًا: مناسبة فاتحة السورة لخاتمة ما قبلها: خُتِمتْ سورة محمد بالدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله، والتحذير من البخل عن الإنفاق في سبيل الله، الذي هو في حقيقته بُخْلٌ على النفس، على اعتبار أن مردَّ هذا الإنفاق على المنفِقِ نفسِه، فاللهُ غنيٌّ عن العالمين، والعباد هم الذين يحتاجون إلى ربِّهم، وحذَّرَت من التولِّي، وإنْ هم فعلوا هذا، فإن الله يستبدل قومًا غيرهم، ولا يكونون أمثالهم.   قال البقاعي: وهدَّد مَنْ أعرضَ باستبدال غيره به، وإن ذلك البدل لا يتولَّى عن العدوِّ ولا يَنكُلُ عنه، فكان ذلك محتمًا لسُفُول الكفر وعُلوِّ الإيمان، وذلك بعينه هو الفتح المبين، ولَمَّا لم يكن منهم تَولٍّ ناسَبَ أنْ يفتتح سورة الفتح بقوله: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1]، على طريق النتيجة لذلك بقوله مؤكدًا إعلامًا بأنه لا بُدَّ منه، وأنه ممَّا ينبغي أن يؤكَّد لابتهاج النفوس الفاضلة به، وتكذيب مَنْ في قلبه مرضٌ، وهم أغلبُ الناس في ذلك الوقت[1].   ثانيًا: مناسبة فاتحة سورة الفتح مع فاتحة التي قبلها: في فاتحة السورة أخبرت أن الذين كفروا بالرسالة وصدُّوا عن سبيل الله - أن الله أضلَّ أعمالهم؛ أي: أبطلَها وأبطل ما عملوا عليه، وأن أعمالهم التي قاموا بها أشْقَتْهم، وما أوصَلتهم إلى الذي أرادوا، وما كان هذا إلا بسبب اتِّباعهم للباطل، وفي مقابلهم أهل الإيمان الذين اتَّبعوا الحقَّ، وفي فاتحة سورة الفتح أخبرَتْ عن الفتح العظيم الذي هو نتيجة الإيمان واتِّباع الحق، وأما أهل الباطل فقد أبطَل الله أعمالَهم كما أخبَر في سورة محمد، فهنا في سورة الفتح حقَّقَ الله لأهل الإيمان أعمالَهم، وأعمالُهم هذه أسعدَتْهم وأوصلتهم إلى الذي هو نتيجة الإيمان والعمل الصالح، ألا وهو الفتح المبين، وما يَتبعه مِن سكينة ونَصْر وهداية، ثم العاقبة يوم القيامة دخول الجنة وإحلال الرضوان عليهم.   ثالثًا: مناسبة افتتاحية السورة مع خاتمتها: 1 – بدأت السورة بقوله: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1]، وفي خاتمتها قال: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ﴾ [الفتح: 27]، قال البقاعي: سورة الفتح مقصودُها مدلولُ اسْمِها الذي يعمُّ فتح مكة، وما تقدَّمه مِن صلح الحديبية، وفتح خيبر، ونحوهما، وما وقع تصديقُ الخبر به من غَلَبِ الرُّوم على أهل فارس، وما تفرَّعَ مِن فتح مكة المشرفة من إسلام أهل جزيرة العرب، وقتال أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد الذي يَجمَعه كلَّه إظهارُ الدين على الدين كلِّه، وهذا كلُّه في غاية الظهور بما نطَق ابتداؤها[2].   2 - قال تعالى في الآية الثالثة: ﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾ [الفتح: 3]، وفي الآية الثامنة والعشرين قال: ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [الفتح: 28]، فالنصر العزيز هو بالفتح الأكبر الذي هو الظهور على كل الأديان.   3 – كان ابتداؤها بالحديث عن الفتح، والوعد بالنصر العزيز، والمغفرة، وتكفير السيئات، وانتهاؤها: ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [الفتح: 28]، و﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29]؛ قال البقاعي: "ردَّ مقطعَها على مطلعِها بالفتح للنبي صلى الله عليه وسلم، والتسكين العظيم لأصحابه رضي الله عنهم، والرحمة والمغفرة، والفوز العظيم لجميع أتباعه وأنصاره وأشياعه رضي الله تعالى عنهم أجمعين" [3].   رابعًا: مضمون السورة مع مضمون ما قبلها: 1 – تحدَّثَتْ سورة محمد عن القتال، وسورة الفتح عن الفتح الذي يترتَّبُ على القتال.   2 – في سورة محمد استفهام استنكاري: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [محمد: 10]، وفي سورة الفتح أخبرت عن الفتح والنصر، وأن دائرة السوء وقَعت على الكافرين، وعن ظهور أهل الإيمان عليهم؛ ممَّا يُدلِّل على عدم انتفاعهم بالنظر في عاقبة مَن قبلَهم ﴿ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ [محمد: 10].   3 – في سورة محمد حديثٌ عن الجهاد، وفي سورة الفتح جاء بيانُ آثار ذلك الجهاد، ألا وهو الفتح؛ قال الغرناطي في البرهان: "ارتباط هذه السورة بالتي قبلها واضحٌ من جهات؛ منها: أن سورة القتال لَمَّا أُمِروا فيها بقتال عدوِّهم في قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [محمد: 4]، وأُشْعِرُوا بالمعونة عند وقوع الصدق في قوله: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾ [محمد: 7] - استدعى ذلك تشوُّقَ النفوس إلى حال العاقبة، فعُرفوا بذلك في هذه السورة، فقال تعالى: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا...
﴾ الآيات، فعرَّف تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بعظيم صُنعه له"[4].   4 - في سورة محمد أخبرت أن مَن يَنصُر الله، فالله ناصرُه لا محالة، وفي الفتح تحقَّق وعْدُ الله.   5 – في سورة محمد جاء الأمر بالاستغفار للنبي ومَنْ معه، وفي الفتح جاء البيان بقَبوله.   6 – في نهاية سورة محمد جاء التحذير بالاستبدال في حال التولِّي، وفي سورة الفتح جاء النصر والغفران والثناء عليهم؛ مما يدلُّ على عدم تولِّيهم وقيامهم بواجب الإيمان والجهاد.   خامسًا: مناسبة خاتمة الفتح مع فاتحة ما بعدها: "لَمَّا وصَف سبحانه عبادَه المصطفَينَ من صحابة نبيِّه والمخصوصين بفضيلة مشاهدته وكريم عشرته، فقال: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، فأثنى سبحانه عليهم، وذكر وصفه تعالى لهم بذلك في التوراة والإنجيل، وهذه خصيصة انفرَدوا بمزية تكريمها ...
فطُولِبُوا بآداب تُناسِبُ عَلِيَّ إيمانِهم، وإن اغتفر بعضه لغيرهم ممَّن ليس في درجتهم ...
وكأن قد قيل: لا تغفلوا ما منَح لكم في التوراة والإنجيل؛ فإنها درجةٌ لم ينلْها غيرُكم من الأُمَم، فقابِلُوها بتنزيه أعمالكم عن أن يُتوهَّم في ظواهرها أنها صدَرت عن عدم اكتراث في الخطاب، وسوء قصدٍ في الجواب، وطابِقُوا بين بواطِنِكم وظواهِركم، ولْيَكُنْ عَلَنُكم مُنبئًا بسليم سرائركم"[5].   سادسًا: مناسبة مضمون السورة مع ما بعدها: 1 – تحدَّثَتْ سورة الفتح عن صلح الحديبية الذي كان فتحًا مبينًا، مع أنه لم يظهَر وجه الفتح لكثير من الصحابة، بل بعضهم قال: كيف نُعطي الدنيَّة في ديننا ونحن على حقٍّ؟! ومع هذا لم يستجب لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أعلمُ بما هو أصلَحُ لهم، وفي سورة الحجرات قال تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّم ﴾ [الحجرات: 7].   2 – سورة الفتح تحدَّثَتْ عن الجهاد وما يَتْبَعُه من نصرٍ وفتوحات، ومِن ثَمَّ دخول الناس في دين الله أفواجًا؛ مما يعني تكوُّن مجتمع إسلامي كبير، وطبيعة الاجتماع قد يحصل فيه مهارشات واختلاف قد يصل إلى القتال فيما بينهم، وفي سورة الحجرات بيَّنَت السبيل في حال حدوث ذلك، وهو الصلح بينهم.   3 – في سورة الفتح تحدَّثَتْ عن النفاق والمنافقين، وهذا الصِّنْف يُبطِن ما لا يُظهِر، وقد يعمل على الإفساد الذي منه نشر الشائعات، ولهذا وُضِع في سورة الحجرات منهجُ التعامُل مع الأخبار؛ إذ به يكون تماسُك المجتمع الداخلي.   4 – النصر والفتوحات التي حصَلت بعد الفتح، نجَم عنها دخولُ الناس أفواجًا في دين الله، وأهل الإسلام أخوة إيمان، وبالتالي سيحصل مَزْجٌ وتداخُلٌ بين أفراد المجتمع الكبير، وفي سورة الحجرات قال: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]، فأرشد بهذا إلى التعارُف، وهذا بدوره يُمتِّن العلاقات بين الأفراد، والميزانُ في الكرامة بين الأفراد هو التقوى.   5 – في سورة الفتح بيَّنَتْ أنه سيكون نصرٌ، وسيدخُل الناس في دين الله أفواجًا، وبعضُ مَنْ يدخُل في الدين قد يدخُل فيه مِن غير قناعة تامَّةٍ، وما دخولهم إذًا إلَّا بسبب تمكين الله للمؤمنين؛ ممَّا يترتَّب عليه إيمانٌ ركيكٌ لا صَلابةَ أو قناعةَ فيه، وقد يُخالِطُه الرَّيبُ، وفي سورة الحجرات تأكيد وبيانٌ لحقيقة الإيمان الذي يريده الله: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحجرات: 15].   سابعًا: مناسبة خاتمة الفتح مع خاتمة الحجرات: لَمَّا خُتِمَتْ سورة الفتح بالحديث عن النبي والذين معه، وفصَّلَتْ ببيانٍ صفاتِهم - ممَّا يُدلِّل على إيمانهم - التي منها الركوع والسجود، وأثَر هذا في وجُوههم، فهو مِن سِيماهم، وهذه الصفات مطابقةٌ لما جاء في الكُتُب السابقة، ووعَدَهم اللهُ بالمغفرة والأجر العظيم جزاءً منه سبحانه، وهو غنيٌّ عنهم، وفي ختام الحجرات جاء وصفُ أهل الإيمان الحق الذين يُصدَّق عليهم، وهو ما جاء في نهاية الفتح، وجاءت المنَّة منه سبحانه عليهم بهذا الإيمان، ونَبَّهم على علم الله، وإحاطته بالغيب، ورؤيته لما يعملون.


[1] البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، (ج 18، ص 274). [2] السابق (ج 18، ص 273). [3] السابق (ج 18، ص 347). [4] الغرناطي، أحمد بن إبراهيم، البرهان في تناسب سور القرآن، نشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، الطبعة: 1410 هـ -1990م؛ تحقيق: محمد شعباني، (ص 307 – 308). [5] السابق، ص 311 – 313.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١