أرشيف المقالات

من وسائل الثبات: القرآن

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2من وسائل الثبات (القرآن)
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلِّم على المبعوث رحمة للعالمين.
أما بعدُ: إن الثبات على دين الله عز وجل مطلبُ كلِّ مؤمن حريص على آخرته، حريص على أن يَلقى الله عز وجل وهو عنه راضٍ، مطلب لكل أحد يريد حُسن الخاتمة، يريد الفوز بالجنة، والنجاة من النار.   قضية الثبات على دين الله عز وجل من أهم وأخطر القضايا التي يعاني منها كثيرٌ من المسلمين، خاصة في هذا الزمان الذي كثُرت فيه الفتن، وذاعت وانتشرت بين الناس، فأحاطتْ بالإنسان من كل مكان؛ فأصبح السقوط سهلًا، والثبات صعبًا إلا على من وفَّقه الله جل وعلا.   لكن الله سبحانه وتعالى، ونبيَّه صلى الله عليه وسلم - قد دلَّانا على وسائل وأسباب للثبات على الدين عند كثرة الفتن وقلة الثابتين، ومن أهم هذه الوسائل وأقواها تأثيرًا: (القرآن الكريم: كتاب الله عز وجل)؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَسَبَبٌ طَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا))؛ فمن ثمار التمسك بالقرآن: (فإنكم لن تضلوا).   القرآن وسيلة للهداية والرحمة للمؤمنين؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾.
[النمل 76-77].   القرآن من أسباب ثبات القلب على الدين بنص كلام العليم الخبير؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 102].   وتأمَّلْ قول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 29، 30]، فمن طلب الهداية والرحمة والثبات على طريق الاستقامة؛ فعليه بكتاب الله جل وعلا.   لكن للأسف كثيرٌ منا يقرأ القرآن ولا يشعُر بهذه المعاني، لا يشعر بالهداية، ولا بالتثبيت؛ وذلك لأنه يقرأ القرآن بلا تدبُّر فلا ينتفع به، فالقرآن مُعين على الثبات، مرقًّق للقلب، لكن لمن تدبر آياته.   يقول وهب بن الورد رحمه الله: "لم نجد شيئًا أرقَّ لهذه القلوب، ولا أشدَّ استجلابًا للحق من قراءة القرآن لمن تدبَّره"؛ حلية الأولياء.   ويقول ابن الجوزي رحمه الله: "إن مواعظ القرآن تُذيب الحديد، وللفهوم كلَّ لحظةٍ زجرٌ جديد، وللقلوب النيِّرة كلَّ يوم به وعيدٌ، غير أن الغافل يتلوه ولا يَستفيد".   ويقول ابن القيم رحمه الله: "تدبُّر القرآن هو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبُّره، وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فَهمٍ ولا تدبر"؛ (مدارج السالكين).   فلا بد من تدبر القرآن، وإلا فلن تلمسَ معاني التثبيت والهداية، وانظر لهذا الفَهم مِن سلفنا الصالحين؛ يقول محمد بن كعب القرظي رحمه الله: "لأن أقرأَ في ليلتي حتى أُصبح: (إذا زلزلت والقارعة)، لا أزيد عليهما، وأتردَّد فيهما وأتفكَّر - أحبُّ إليَّ من أن أَهُذَّ القرآن ليلتي هذًّا، أو قال أنْثُره نثرًا".   ويقول الحسن بن علي رضي الله عنه: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائلَ من ربهم، فكانوا يتدبَّرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار".   وكان أبو العباس بن عطاء رحمه الله يختم القرآن كثيرًا، إلا أنه جعل له ختمةً يَستنبط منها معاني القرآن، فبَقِيَ بضعَ عشرة سنة، فمات قبل أن يَختمها؛ (حلية الأولياء).   ولهذا يقول الإمام النووي رحمه الله: "ينبغي للقارئ أن يكون شأنُه الخشوع، والتدبر، والخضوع، فهذا هو المقصود المطلوب، وبه تنشرِح الصدورُ، وتَستنير القلوب، وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم آيةً واحدة ليلةً كاملة، أو معظم ليلة "يتدبرها" عند القراءة"؛​ (الأذكار للنووي).   وتأمَّل هذا الكلام الجميل للإمام ابن القيم رحمه الله يقول: "فلا شيء أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه هو الذي يُورث المحبة والشوق، والخوفَ والرجاء، والإنابة والتوكُّل، والرضا والتفويض، والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يَزجُر عن الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه، فلو علِم الناسُ ما في قراءة القرآن بالتدبر، لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأ بالتفكر حتى مر بآيةٍ وهو محتاجٌ إليها في شفاء قلبه، كرَّرها ولو مائة مرة، ولو ليلة؛ فقراءة آية بتفكُّر وتفهُّمٍ، خيرٌ من قراءة ختمة بغير تدبُّرٍ وتفهُّمٍ، وأنفعُ للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذَوق حلاوة القرآن".   فمن أراد الانتفاع بالقرآن - وخاصة في باب الثبات على الدين - فليتدبَّر الآيات، ولينظر كيف ثبَّت الله عباده المؤمنين، وكيف ثبَّت الأنبياء والصالحين، وليُمرِّر الآيات على قلبه؛ ليرى تأثيرها، وينتفع بهدايتها، فالعلاقة بين القرآن والقلب كثيرًا ما ذُكِرت في القرآن؛ تأمَّل قول الله عز وجل: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 193، 194]، وقال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وقال تعالى: ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [الفرقان: 32]، وكان صلى الله عليه وسلم من دعائه: ((أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي)).   فالله اللهَ في تدبر القرآن، اجعَل لنفسك وِردًا للتدبر، لا تُفارقه مهما كانت الأعباء؛ لتعيش بالقرآن حياة المؤمنين، ستجد الآيات الكثيرة التي تُثبتك في كل موقف من مواقف الحياة، فتَثبُت بإذن الله على طاعة الله، فتَفوز واللهِ بخيري الدنيا والآخرة، فتعيش نعيمَ الدنيا قبل نعيم الآخرة.   واعلَم أن المؤمنين الخُلَّص إنما يُعرَفون بحبِّهم لكتاب الله جل وعلا؛ يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لا يسأل أحدُكم عن نفسه إلا القرآن، فمن أحبَّ القرآن فهو يحب الله ورسوله".   ويقول ابن القيم رحمه الله: "إذا أردتَ أن تعلمَ ما عندك وعند غيرك من محبة الله، فانظُر محبةَ القرآن من قلبك". ويقول عثمان بن عفان رضى الله عنه: "لو طهَرتْ قلوبُنا ما شبِعنا من كلام ربنا".   فاللهم اجعَل القرآن العظيم لنا في الدنيا قرينًا، وفي القبر مؤنسًا، وفي القيامة شفيعًا، إنك سميعُ الدعاء، وأهْلٌ للرجاء، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن