أرشيف المقالات

التمذهب عند الإمام الشاطبي

مدة قراءة المادة : 22 دقائق .
2التمذهب عند الإمام الشاطبي
التمذهب: تَمَفْعُل من ذهب يذهب، وذهب أصل يدل على معنيين: الأول: يدل على حسن ونضارة، ومنه الذهب المعروف. والثاني: يدل على مضيِّ الشيء، يقال: ذهب يذهب ذهابًا وذهوبًا.   والمذهب: الطريقة والمسلك، ومذهب الإنسان: طريقته التي يسلكها[1]. والمعنى الاصطلاحي للمذهب مأخوذ من هذا المعنى، وقد عُرِّف بأنه المعتقد الذي يذهب إليه[2]. وعُرِّف في الاصطلاح الفقهي بتعريفات[3]، أولها: أنه طريقة معينة في استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية[4].   وفي ذلك يندرج جميع الأحكام الاجتهادية التي يعتقدها الإمام، وقد صار المذهب عند الفقهاء حقيقة عرفية على هذا المعنى، وهو يطلق عند المتأخرين من أئمة المذهب على ما به الفتوى، من باب إطلاق الشيء على جزئه الأهم[5].   والتمذهب: هو اتباع إمام اقتفى طريقة معينة في استنباط الأحكام الفرعية من أدلتها التفصيلية. وصور التمذهب حاصلة في كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد، سواء كان عاميًّا صرفًا أم لا، فهل يحق لهؤلاء أن يلتزموا بطريقة معينة من طرائق العلماء، أو بمذهب لأحد العلماء في طريقته الاستنباطية للأحكام الشرعية، بحيث لا يخرج منها إلى غيرها، وقد أشار الشَّاطبي إلى رأيه في هذه المسألة، وفيما يلي نوضح ذلك.   رأي الشَّاطبي: الذي يظهر أن الشَّاطبي يرى أن على المقلد اتباع مذهب معين، وأن ذلك واجب عليه، خروجًا من اتباع الهوى واقتفاء الرُّخَص، ويفهم هذا من قول الشَّاطبي: "واعترض بعضهم[6] على من منع مِن تتبع رخص المذاهب، وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله، فقال: "إن أراد المانع ما هو على خلاف الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي فمسلَّم، وإن أراد ما فيه توسعة على المكلف فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك، بل قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((بُعثت بالحنيفية السمحة))[7] يقتضي جواز ذلك؛ لأنه نوع من اللطف بالعبد، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد، بل بتحصيل المصالح"، قال الشَّاطبي متعقبًا هذا القول: "وأنت تعلم بما تقدم ما في هذه الكلام؛ لأنَّ الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدًا بما هو جارٍ على أصولها، وليس تتبع الرخص، ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها، فما قاله عين الدعوى"[8].   فكلامه السابق يفهم منه جواز اتباع المذاهب في الأصل، ومنع تخير الأقوال من المذاهب، بل إن من التزم مذهبًا خاصًّا فيجب عليه اتباعه، وعدم الانتقال عنه تتبعًا للرخص، ويؤكد ذلك أن الشَّاطبي أنكر على من يفتي بغير المشهور في المذهب، ويتتبع الأقوال المرجوحة، أو الأقوال الأخرى الخارجة عن المذهب، وينقل عن المازري قوله في فتوى له: "ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه؛ لأن الورع قلَّ، بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرة الشهوات، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه، فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب لاتسع الخرق على الراقع، وهتكوا حجاب هيبة المذهب، وهذا من المفسدات التي لا خفاء بها"، وعلق على ذلك الشَّاطبي بقوله: "فانظر كيف لم يستجز - وهو المتفق على إمامته - الفتوى بغير مشهور المذهب، ولا بغير ما يعرف منه بناءً على قاعدة مصلحية ضرورية؛ إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى، فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب، بل جميع المذاهب؛ لأن ما وجب للشيء وجب لمثله"[9].   ويتبين من هذا أن الشَّاطبي يرى وجوب الالتزام بمذهب معين؛ لأنه ألزم باتباع القول المشهور في المذهب؛ حتى لا ينخرم - في نظره - نظام التكليف، ولا شك أن ترك اتباع المذاهب أولى بهذا التعليل، لا سيما وأن كلامه يوحي بذلك، ويؤيده أيضًا قوله: "فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق، فهو أخلق بالاتباع، وأولى بالاعتبار، وإن كانت المذاهب كلها طرقًا إلى الله، ولكن الترجيح فيها لا بد منه؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى...
وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد"[10].   على هذا فلا بد إذًا على رأي الشَّاطبي من اختيار المقلد لمذهب من المذاهب المتبوعة، وإنما كان ذلك واجبًا خروجًا من اتباع الهوى والشهوة، لا سيما مع ضعف الدين وقلة الورع.   وقد وافق الشَّاطبي في وجوب التزام العامي لمذهب معين: الجويني[11]، وإلكيا الهراسي[12]، ومال إليه ابن الصلاح[13]، واختاره ابن السبكي[14]، وتبعه المحلي[15]، والأنصاري[16]، وقال النووي: "هذا كلام الأصحاب"[17].   وهو وجه عند الحنابلة[18]، اختاره ابن حمدان[19]، وابن رجب[20]، وقال الشنقيطي العلوي: "الأصح عندهم أنه يجب على العامي والعالم الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد التزامُ مذهب معين من مذاهب المجتهدين"[21]، واختاره بعض المتأخرين"[22].   وخالفه القائلون بجواز التزام العامي لمذهب معين، وعدم وجوبه: وبه قال الحنفية[23]، ويفهم من كلام المالكية[24]، واختاره أكثر الشافعية[25]، وهو أشهر الوجهين عند الحنابلة، واختاره أكثرهم[26]، وهو قول الجمهور[27].   وذكر الزركشي أنه المفهوم عن مالك حينما منع الخليفة أن يحمل الناس على قوله، ونقل عن بعض الحنابلة أن هذا رأي أحمد؛ لأنه قال لأحد أصحابه: "لا تحمل على مذهبك فيحرجوا؛ دَعْهم يترخصوا بمذاهب الناس"، وسئل عن مسألة في الطلاق؟ فقال: "يقع يقع"، فقال له قائل: "فإن أفتاني أحد أنه لا يقع يجوز؟"، قال: "نعم"، ودله على حلقة المدنيين، فقال: "إن أفتوني جاز؟"، قال: "نعم"[28].   وما ذكر الزركشي عن مالك محل نظر؛ إذ لا يلزم من فعله عدم الإلزام باتباع مذهب من المذاهب؛ لأنه قد يكون لا يلزم باتباع مذهب معين منها، وللعامي الخيرة باختيار أي المذاهب حينئذ.   ويمكن أن نضيف إلى المسألة قولًا ثالثًا، وهو عدم جواز التمذهب، وفي الحقيقة أن من قال بهذا القول هو من منع التقليد مطلقًا، فلا داعي لإفراده هنا؛ لأن الخلاف هنا بين القائلين بالتقليد.   دليل الشَّاطبي ومن وافقه: استدل الشَّاطبي على أن العامي يلزمه اتباع مذهب من المذاهب: بأن عدم تقيده بمذهب من المذاهب يؤدي إلى اتباع الهوى، وتلقط الرخص من المذاهب، وهذا يؤدي إلى سقوط التكليف[29].   مناقشته: يمكن أن يناقش بأننا حينما قلنا بجواز التمذهب وعدم وجوبه، فنحن لا نجيز له تتبع الرخص واتباع الهوى، بل الأمر على خلاف ذلك[30]؛ ولذا فنحن لا نسلِّم بإفضاء قولنا إلى ما ذكرتم؛ فالعامي يلزمه اتباع قول من أفتاه، وإن كان عنده اطلاع فيلزم اتباع قول من يراه آخذًا بالدليل من المفتين.   أدلة الجمهور: استدل الجمهور على جواز التمذهب وعدم وجوبه بما يلي: الدليل الأول: أن الصحابة كانوا يجيزون للعامي أن يستفتي بعضهم في مسألة، وبعضهم الآخر في مسألة أخرى، ولم ينقل عن أحد منهم الإنكار، فكان إجماعًا[31]، ثم إن سلف الأمة لم يلزموا العامة بتقليد واحد منهم، بل كان الناس يقلدون مَن شاؤوا من أهل العلم[32].   مناقشته: نوقش: بأن الناس كانوا قبل الأئمة الأربعة لم يدونوا مذاهبهم، ولا كثرت الوقائع عليهم، حتى عرف مذهب كل واحد منهم في كل الوقائع أو في أكثرها، وكان الذي يستفتي العالم لا علم له بما يقوله العالم قبل سؤاله؛ لأنه لم يشتهر مذهبه في تلك الواقعة، أو لأنها لم تقع له قبل ذلك، فلا يتصور إلا أن يعضده سر خاص، وأما بعد أن دونت المذاهب وفهمت واشتهرت وعرف المرخص من المشدد في كل واقعة، فعدم التزام العامي - والحالة هذه - بمذهب بمعين يُعَدُّ ركونًا إلى الانحلال والاستسهال[33].   جواب المناقشة: يمكن أن يجاب بأننا لا نوافق بأن كل عامي يعرف تلك المذاهب بعد تدوينها، بل جملة كبيرة من العوام لا يعرفون ذلك، كما أنهم لا يعرفون المرخص من المشدد، وعليه فلا يلزم القول بوجوب التزام مذهب معين.   الدليل الثاني: أنه لم يوجب أحد من الأمة اتباع رجل معين في كل ما يقول، وقد نقل الإجماع على أنه لا يحل اتباع رجل في كل حكم يقوله، وقد أثر عن السلف أن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم[34]. الترجيح: لا شك أن القول الذي اختاره الشَّاطبي مبني على مصلحة شرعية رآها، وهو قول له وجه قوي، لا سيما إذا ارتبط بذلك فساد الزمان، وقلة الورع، وضعف الدين، وانحلال الأخلاق، ولكن ما ذكر من آثار تترتب - في نظر موجبي التمذهب - على القول بالجواز، يمكن الجواب عنه بأن الشريعة قد تكفلت بسد الأبواب المفضية إلى تلك الآثار، وإغلاق المنافذ الموصلة إليها؛ فالشريعة رتبت الإثم والزجر الشديد على اتباع الهوى والرخص، وكفى بالإثم رادعًا لمن عقل!   ولا شك أن السلف راعَوْا ذلك حينما لم يوجبوا اتباع قول أحد من الناس، خلا النبي صلى الله عليه وسلم. ولأجل ما سبق، ولما ورد على دليل الشَّاطبي من مناقشة، يترجح لي أن التمذهب جائز وغير واجب، والله أعلم.   منشأ الخلاف: أشار بعض الأصوليين إلى ارتباط هذه المسألة بمسألة أخرى، وهي: هل المقلد له مذهب أو لا؟[35].   فمن قال: إن المقلد له مذهب أوجب أن يكون متمذهبًا بمذهب، ومن قال: إنه لا مذهب له، بل هو تبع لمن أفتاه، فلا يوجب التمذهب للمقلد، بل يخيره[36].   وهذا فيه نظر؛ وذلك لأن من قال: لا مذهب للعامي، لا يريد بذلك العالم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد، ولا كل من عرف الأدلة[37]. ولذا؛ فالمسألة مبنية على ما ذكروا من وجه دون وجه.


[1] انظر: معجم مقاييس اللغة (2/ 362) لسان العرب (5/ 66) القاموس المحيط (111) كلها مادة: "ذهب". [2] لسان العرب (5/ 66) وعنه الكليات (868). [3] انظر: التمهيد (4/ 368) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (195) المسودة (524) أصول ابن مفلح (ط: العبيكان 4/ 1509) مواهب الجليل (1/ 24) بلغة السالك (1/ 8) المعجم الوسيط (1/ 317). [4] معجم لغة الفقهاء (419). [5] انظر: مواهب الجليل (1/ 24). [6] أراد به القرافي؛ فهذا نص كلامه في نفائس الأصول (9/ 3965). [7] رواه أحمد في مسنده (5/ 266) والطبراني في المعجم الكبير (8/ 257/ 7868) والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 430/ 1218) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وضعفه العراقي في المغني عن حمل الأسفار (2/ 1060) ورمز السيوطي لضعفه في الجامع الصغير، ووافقه المناوي في فيض القدير (3/ 203) إلا أنه أشار إلى أن له طرقًا؛ فقد روي عن جماعة من الصحابة، ثم قال بعد ذلك: "ليس يبعد ألا ينزل بسببها عن درجة الحسن"، وانظر للزيادة: كشف الخفاء (1/ 217). [8] الموافقات (5/ 97 - 99). [9] الموافقات (5/ 101 - 102) الاعتصام (1/ 21) وانظر: المعيار المعرب (9/ 228) فتاوى الإمام الشاطبي (176). [10] الموافقات (5/ 280). [11] انظر: البرهان (2/ 885) وانظر: نهاية الوصول (8/ 3919). [12] انظر: أدب الفتوى (139) المجموع (1/ 93) البحر المحيط (6/ 319) تشنيف المسامع (4/ 619). [13] انظر: أدب الفتوى (140). [14] انظر: جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية البناني (2/ 616). [15] انظر: شرح المحلي مع حاشية البناني (2/ 616). [16] انظر: غاية الوصول (152). [17] روضة الطالبين (8/ 101). [18] انظر: الإنصاف (11/ 194) شرح الكوكب المنير (4/ 574). [19] انظر: صفة الفتوى (72 - 82) وانظر: الإنصاف (11/ 194) شرح الكوكب المنير (4/ 576).
[20] انظر: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (29 - 30). [21] نشر البنود (2/ 342). [22] انظر مثلًا: الشيخ محمد الخضر بن سيدي الشنقيطي في كتابه: قمع أهل الزيغ والإلحاد عن الطعن في تقليد أئمة الاجتهاد (76) والحامد في رسالة: لزوم اتباع مذاهب الأئمة حسمًا للفوضى الدينية (8 وما بعدها). [23] انظر: التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 350) فتح الغفار (3/ 42) تيسير التحرير (4/ 253) القول السديد (32) فواتح الرحموت (2/ 406) سلم الوصول (4/ 618 وما بعدها). [24] انظر: مختصر المنتهى مع شرح العضد (2/ 309) شرح تنقيح الفصول (432) تقريب الوصول (447) البحر المحيط (6/ 319) نثر الورود (2/ 658). [25] انظر: الوصول (2/ 368) الإحكام (4/ 238) روضة الطالبين (8/ 101) قواعد الأحكام (2/ 135) التحقيقات في شرح الورقات (643) شرح العضد (2/ 309) البحر المحيط (6/ 319) العقد الفريد (10/ أ - ب). [26] انظر: مجموع الفتاوى (20/ 209) أصول ابن مفلح (ط: العبيكان 4/ 1562) إعلام الموقعين (4/ 201) الإنصاف (11/ 194) لوامع الأنوار البهية (2/ 465). [27] انظر: أصول ابن مفلح (ط: العبيكان 4/ 1562) الإنصاف (11/ 194). [28] انظر: البحر المحيط (6/ 319). [29] انظر: الموافقات (5/ 280) وانظر: أدب الفتوى (139 - 140) المجموع (1/ 93) روضة الطالبين (8/ 101) صفة الفتوى (72) نهاية الوصول (8/ 3919) تشنيف المسامع (4/ 619). [30] انظر: روضة الطالبين (8/ 101) تشنيف المسامع (4/ 619). [31] انظر: نهاية الوصول (8/ 3920) البحر المحيط (6/ 319) إرشاد الفحول (453). [32] انظر: أدب الفتوى (139) صفة الفتوى (72) إعلام الموقعين (4/ 201) البحر المحيط (6/ 319). [33] انظر: البحر المحيط (6/ 319 - 320). [34] انظر: مجموع الفتاوى (20/ 209) إعلام الموقعين (4/ 201) التقرير والتحبير (3/ 350) تيسير التحرير (4/ 253). [35] وفي المسألة قولان: الأول: أن العامي لا مذهب له، وهو وجه للشافعية، اختاره أكثرهم، وقول للحنابلة، اختاره ابن القيم، والقول الثاني: أن العامي له مذهب، وهو وجه عند الشافعية، اختاره القفال المروزي؛ انظر: أدب الفتوى (139) المجموع (1/ 93) صفة الفتوى (71) إعلام الموقعين (4/ 201) الإنصاف (11/ 195). [36] انظر: أدب الفتوى (139) صفة الفتوى (71) إعلام الموقعين (4/ 201) البحر المحيط (6/ 320). [37] انظر: أدب الفتوى (139) المجموع (1/ 93).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١