أرشيف المقالات

100 دولار ثمن منزل كامل!

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2قصص واقعية (2) 100 دولار ثمن منزل كامل!
قد تدور بك الدنيا، وقد تُعايش أو تسمَع أحداثًا لم تكن تَتَوقَّعها؛ ولكنَّ هنالك أحداثًا تجعلك تقِفُ مذهولًا أمامَها؛ لشدَّة غرابة حبكتها، وتسجُد أخيرًا في خضوع واستسلام لربِّ السماوات والأرض، ولسانُكَ يلهج بـ (لا إله إلا الله، ما أعظمَكَ! لا إله إلا الله، ما أحكمَكَ يا ألله!).   أُمٌّ لثمانية أيتام، يعرض عليها فاعلُ خيرٍ 100 دولار لقضاء حاجات الأولاد مع بعض المواد الغذائية، فما كان منها إلا أن رفضت المبلغ، وقالت: خُذْ هذا المال لعمَّتي (أم زوجها) فهي أحوجُ إليه منِّي؛ فهي لا تملك شيئًا تطعم منه أولاد ابنها الذين ماتَتْ أُمُّهم!   أُمُّ الأيتام هذه تسكن في منزل مهجور، لا تأوي إليه حتى الكلاب والقِطَط؛ لشدَّة تعاسته، فلا باب ولا شُبَّاك ولا سقف متماسك، وهي كانت تحسبه جنَّةً؛ لأنه يُؤْوِيها وصِغارَها الثمانية كما أن أجرة المنزل (أو هو بالأحرى هيكلٌ لمنزل لم يتكامل) قليلةٌ تجمعها من هنا وهناك.   هذه الكَنَّة الصالحة آثرَتْ أُمَّ زوجها على نفسها وأولادها، وهي دائمًا تَطْوَى وأولادها من الجوع؛ لأنهم لا يأكلون إلا مرةً واحدةً في اليوم، وقد لا يفطن إليهم أحَدٌ ليبعث لهم مخلَّفات موائدهم؛ فيبيتون بلا طعامٍ؛   ولكن فالق الحب والنوى ومخرج الخبء يرى ما تفعله، فحنَّن عليها قلبَ مَنْ لا تعرفه، فقد أخبرَ صاحبُ الدولارات المائة أصدقاءه عن أمرها (بعد أن ذَهِل من إيثارها على ما هي فيه من فقر وفاقة) فزاروها في منزلها، ويا لهول ما رأوا! رأوا أطفالًا يتوسَّدون التراب والحصى، ويعيشون عيشة الموتى، لا طعام ولا ملابس ولا نقود ولا مدارس، لا يملكون من الدنيا إلَّا أُمًّا حنونًا صبورًا باسمةً، تهوِّن عليهم ما هم فيه، وتُذكِّرهم بنِعَم الله عليهم (التي لم نرَ منها شيئًا سوى الإيمان)؛ فتكفَّل أحدُهم بشراء منزل للأولاد وأُمِّهم، وقام آخر بشراء الضروري من الأثاث ليسد حاجاتهم.   تقول الأمُّ وعَبَرات الشُّكْرِ لا تُغادر عينيها: أنا حين رفضت (100) دولار لم يَدُر في خَلَدِي أن الله سيُعوِّضني عنها بمنزلٍ يسترني وأولادي.   المأساة الأكبر: تقول أُمُّ الأيتام الثمانية: كنت حزينة جدًّا على عمَّتي التي طردتها عروس ابنها (التي تزوَّجها بعد أن توفيت زوجتُه، وخلفت له ولدين وبنتين)، فهذه العروس استفتحت حياتها الزوجية بطرد الأُمِّ، ومن ثم بدأت بالتفنُّن بتعذيب أطفال زوجها، فهي تسحب الابنتين من شعريهما حتى أصبحتا صلعاوين، أو تعضُّهما من كل مكان وكأن جسديهما النحيلين ما هما إلا ساحة دارت عليهما معاركُ طاحنةٌ، فخلفت عشرات الحفر من آثار الأسنان.   أما الولدان: فالصغير عمره لا يتجاوز الأشهر، وهذا رمَتْ به في الشارع مع العجوز المسكينة بعد أن عجزت عن أن تتخلَّص منه بعد أن رفعته إلى أعلى ما تستطيع، ورمته على الأرض؛ ولكن مشيئة الله كانت فوق مَكْرِ هذه المرأة وحقدها فلم يمُتِ الرضيعُ.   وبقي الولد الكبير الذي لم يتعدَّ عمرُه أصابعَ اليد الواحدة والذي ناله من العضِّ والحَرْق والصعق ما لا يُسطَّرُ على ورق! وبقي الحال هكذا حتى تأكَّد الجيران مما يتعرَّض له الأولاد، وخاصة بعد أن سمِعُوا في إحدى الليالي بكاء إحدى الطفلتين وصُراخَها حتى الصباح، وفي الصباح علمت إحدى الجارات أن الطفلة قد لدغتها عقرب منذ المساء، وهي تصرخ من شدَّة الألم، والأب نائم بجانب زوجته ولم يُحرِّك ساكنًا لإنقاذ الطفلة بالرغم من علمه بالحادث.   أما الحادث الثاني فكان كسر العروس ليد إحدى الطفلتين من شدَّة الضرب، وبعد أن كسرتها أجبرتها أن تبقى في الفراش، وأن تتظاهر بالنوم حين عودة والدها؛ كي لا يُحِسَّ بها، فبقيت هكذا ثلاثة أيامٍ وليالٍ حتى فطن الأبُ إلى نوم ابنته الدائم، فذهب ليراها، فكانت الطامَّة الكبرى أن رأى يدَ ابنته متدليةً لا يلصقها بجسدها إلا الجلد والقليل القليل من الأوتار والعضلات! فذهب بها إلى مستشفى حكومي وجبرها، وكان من سوء حظِّها أن جبيرتها كانت من أسوأ ما يكون.   حين علم الجيران بكل ما يجري تأكَّدُوا وسارعوا إلى إخبار امرأة فاضلة معروفة بحُبِّ الخير، فقامت بإيجاد الجدة العجوز، وأخبرتها بأن تجمع أولاد ابنها عندها، وأخذت أمرًا من المحكمة بإسقاط كفالة الأب لأولاده بعد أن تأكَّد القاضي من سوء المعاملة التي تعرَّض لها الأولاد.   فخرج الأطفال من كنف الأب إلى كنف الجدة لتبدأ معهم رحلة شقاء من نوع جديد، فالجدة حنون ومُحِبَّة، وتخشى الله؛ ولكنها لا تملك من الدنيا إلا ملابسها التي بالكاد تستر جلدها.   تقول الجدة: جمعت الأولاد حولي في هيكل بيت لم يكتمل، لا أبواب ولا شبابيك، ولا حتى سقف متكامل؛ ولكني لم أسأل إلا الله أن يُفرِّج عني وعن الأولاد، وتقول: كنتُ لا أملك إلَّا فراشًا رثًّا أفرشه تحت الأولاد الأربعة، وأغطيهم ببطانية واحدة لا تغني عن البرد؛ ولكن لا وسيلة أخرى أمامي، أمَّا أنا فإني أضع البطانية الثانية على كتفي، وأبقى جالسة حتى الصباح؛ لأني لا أملك ما أفرشه تحتي كما إني كنت أخشى أن ينكشف الغطاء عن الصغار فيمرضوا (في هذه الظروف أرسلت لها كَنَّتُها -زوجة ابنها وهي أُمُّ الأيتام- الـ100دولار).   وتستأنف فتقول: في هذه الأثناء مرَّت من أمام بيتنا سيارةٌ تقودُها امرأةٌ تسأل عن بيت أحد الفقراء؛ ولكنها حين رأت ما نحن فيه، قالت: والله لا أعلم أحدًا أفقرَ منكم، فهَبَّ علينا نسيمٌ من الفَرَج لم نتوقَّعْه، فأنزلت لي فراشًا يكفيني مع الأولاد وبعض الأغراض اليسيرة.   أمَّا المرأة الصالحة التي ضمنت كفالة الأولاد للجدة (وهي الأخرى لم تكن غنية؛ ولكنها تعمل على إيصال الأغنياء إلى الفقراء لمساعدتهم، أو تقوم بإيصال ما يجودون به إلى الفقراء) فقد استأجرت بيتًا للجدة والأولاد، ومن ثم قامت بجَمْع الأغراض من الخيِّرين لكي يُؤثِّثُوا لها بيتًا يليق بهؤلاء الصبية الذين حُرِمُوا الحب والحنان بل الأدهى أنهم عانوا أشدَّ أنواع العذاب، وهم ما زالوا براعمَ لم تتفتَّح.   واحتضنت الجدة الطيبة الباسمة الأولاد، وجلسنا معها، ونحن على يقين أنها كانت سعيدة فيما مضى، وقد يكون هذا سِرَّ ابتسامتها وتفاؤلها، فعُدْنا إلى ماضيها على نيَّة أن نُنْسيَها شقاءَ الحاضِرِ؛ ولكن يا لهول ما رأينا! دهاليز مظلمة لا ترى فيها بصيصًا من الضوء لا في بداية الطريق ولا في نهايته، فهذه العجوز (وكانت علامات الجمال باديةً على مُحيَّاها رغم كبر سِنِّها) قد أُخذت من بين ألعابها وصاحباتها، ولم تكن قد شبعت من اللعب بَعْدُ، لتلج حياة الشقاء والعناء مع زوج مُعْدِم سرعان ما أنجبت له ثلاثة أولاد ليعقب ولادتهم وفاة الوالد، لتبقى الأُمُّ المسكينة التي لم تدخل سِنَّ الشباب بعد وحيدةً مع هؤلاء الأيتام، ورضيت بقدرها؛ ولكن مَنْ حولها لم يدعوها وشأنها، فقد أجبروها على الزواج برجل يكبر والدها بأعوامٍ؛ كي لا يأخذوا منها الأولاد، فتزوَّجَت ثانية، وأنجبت ثلاثة أولاد آخرين؛ ليصبح المجموع ستة أولاد، وما لبث أن مات الزوج الثاني أيضًا، فأصبحت المسكينة مرة أخرى وحيدةً مع صِغارها؛ ولكنها هذه المرة كانت قد بلغت من العقل ما يجعلها ترفض أن يتدخَّل أحدٌ في حياتها.   فاتخذت القرار وعاشت وحدها، وهي المعيلة الوحيدة لصِغارها الستة، فقالت العجوز: كنت أخبز في النهار بأجرة، وفي الليل أعمل كحارسة ليلية في إحدى المعامل، وأحمل معي طوال الليل ما أحمي به نفسي وأولادي والمعمل، واستمرَّت الحال بي هكذا لمدة أربعَ عشرةَ سنة حتى كبر الصبية وبدؤوا يعينونني على مشاقِّ الحياة.   كبروا وتزوجوا وأنجبوا، وكان غاية بِرِّهم أن وجدت نفسي مرمية في الشارع (على يد زوجة الابن الظالمة)، أتوسَّد الثرى، وألتحف الثريَّا.   ونحن إذ نذكر هذه القصة الشائكة الحزينة في أيام عجاف تمرُّ علينا لا يسعنا إلا أن نقول: سبحان المنعم الذي لا ينسى أحدًا! القائل لعباده: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245]، وسبحان مَنْ جعل الرحمة من صفات الأنقياء والأصفياء من عباده! فالرحمة في قلبِ أُمِّ الأيتامِ الثمانية على عمَّتها وأحفادها جعلها الله سببًا لمعرفة المحسنين بحالها ومساعدتهم لها، وعطْف الجدة على الأحفاد وحبهم جعله الله سببًا لأن تجد الجدة العجوز مسكنًا يُؤْوِيها من جديد هي والبراعم الصغيرة التي كانت تُقبِّل يد الجدَّة كلما قدمت لهم الطعام، أو فرشت لهم الفراش، أو نهضت في الليل لتغطيهم، وهؤلاء الصغار لا يَفتُرونَ عن دعاء الله أن يحفظ لهم الجدة، فهي عوَّضتهم عن الأُمِّ المتوفَّاة والأب القاسي، وللأب القاسي وزوجته الظالمة قصة أخرى، فالله يمهل ولا يهمل، ويمد للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.   وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



شارك الخبر

المرئيات-١