أرشيف المقالات

ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
2﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾   قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [المؤمنون: 103 - 111].

من فوائد الآيات: 1- قوله: ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾؛ أي: ثَقُلت سيئاته على حسناته[1].
2- قوله: ﴿ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾: تمثيلٌ لحال خيبتهم فيما كانوا يأمُلونه من شفاعة أصنامهم، وأن لهم النجاة في الآخرة، أو مِن أنهم غير صائرين إلى البعث، فكذَّبوا بما جاء به الإسلام، وحسِبوا أنهم قد أعدُّوا لأنفسهم الخير، فوجدوا ضده، فكانت نفوسُهم مَخسورة كأنها تَلِفَتْ منهم[2].   3- المسألة تجارة رابحة، وتجارة خاسرة، كما يكون في البيع والشراء، فمن ثقُلت موازينه فقد ربِح في تجارته وفاز، ومن خفَّت موازينه فقد خسِر في تجارته وخاب، ولا شكَّ أن العمل في طاعة الله تجارة رابحة لا خسارة فيها؛ كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29، 30][3].

4- قوله: ﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ﴾؛ أي: تَسْفَعُ وجوههم النار، والكُلُوح: أن تتقلَّص الشفتان عن الأسنان، حتى تبدو الأسنان[4].   5- قوله: ﴿ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾: كَلَحَ تأتي بمعاني عِدَّة: عَبَسَ، وأفرَط في العبوس من الضيق والحُزْن، وبمعنى بَهَت فاندهَش وتحيَّر، وتغيَّر لونه، بسبب ما رأى وتعرَّض له من لفحِ النار لوجهه، وبمعنى فَزِعَ، وانْقبَض، وشَحَبَ[5]، فهم كالحون بكل ما تَعنيه الكلمة.
6- نجد أن تركيب كلمة (كَلَحَ) تشعُر فيها بالتغيُّر والانقباض، ومخارج حروف الكلمة فيها حَرَج وشدَّة، واحتكاك، وعندما يَكْلَح الرجلُ يَقْلِصُ لَحْمُ الفمِ، ويَنْقَبضُ كاشفًا عمَّا يُبْطِنُه من أسنان، كما يَحْدُثُ عند الكَشْرِ، والتبسُّم، وقد قالوا: تكلَّح؛ أي: تبسَّم، إلا أنه غَلَب في الأول كما في الآية[6].
7- العمل على الموازين التي تُوزن بها الأعمال يوم القيامة؛ قال سبحانه: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وهذه الأعمال يجعلها الله أجسامًا تُوضع في الميزان بقدرته سبحانه[7].
8- قوله: (اخْسَؤُوا فِيهَا)؛ أي: ذُلُّوا فيها، وانزجِروا كما يُزجر الكلاب إذا زُجِرت، يقال: خَسَأَ الكلب، وخَسَأَ بنفسه[8]، فَخُوطبوا كما تُخاطب الحيوانات، والكلاب من أخسِّ الحيوانات، فهذا قَدْرُهُم، وهذا مقامهم؛ إذْ لا كرامة لهم، ولا مَنْزِلَة.
9- كأنهم قد خُيِّل إليهم بعد السؤال التوبيخي: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ - أنه قد أُذِنَ لهم في الكلام، وأن اعترافهم بذنوبهم قد ينفعهم فيقولون: (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ)؛ أي: يا ربنا تغلَّبتْ علينا أنفسُنا الأمَّارة بالسوء، فصَرَفَتْنا عن الحق، وتغلَّبتْ علينا مَلذَّاتُنا وشهواتنا، وسيئاتُنا التي أفْضَتْ بنا إلى هذا المصير المؤلِم، وَكُنَّا قَوْمًا ضالينَ عن الهدى والرشاد، بسبب شقائنا وتعاستنا.
10- قوله:﴿ خَالِدُونَ ﴾: الخلود: البقاء إلى غير نهاية، ويستعمل بمعنى البقاء مدة طويلة[9]، مُكوثٌ أبديٌّ، وعذاب أبديٌّ، وشقاء أبديٌّ.
11- لا بد من وضع حدٍّ للشهوات التي تقود صاحبَها حتمًا إلى الغفلة، ومعظم الخُسران من بابي الشهوات والشُّبهات، والإنسان العاقل هو الذي يُلْجِمُ نفسه عن الشهوات، ويأتي منها ما أحَلَّه الله تعالى وبالطريقة الحلال، ولا ينغمِس فيها، فينسى آخرته وواجباته.
12- الضلال مصيبة؛ لأنه حيرةٌ وتردُّد، وتِيهٌ وضياعٌ، يؤهِّل صاحبه للشقاوة وللسَّفه، وبالتالي إلى نار جهنم، وعلينا أن نلتمس الصراط المستقيم ونتَّبِعَهُ، وهو الذي يقود صاحبه حتمًا إلى خيري الدنيا والآخرة، فإن لم نحرِص على ذلك، فهو الضلال المبين، وصدق الله إذ قال: ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 22][10].   13- قال ابن قدامة رحمه الله: (العقوبة على قدر الإجرام والمعصية) [11]، وهي قاعدة عظيمة من قواعد العقوبات في الفقه الإسلامي، فإذا ارتكب الجاني جريمته كان من الواجب أن تتلاءَم العقوبة الموقَعة عليه مع الجريمة التي ارتكبها[12]، فجاءت عقوبة هؤلاء المجرمين متناسبةً مع الجُرم الذي ارتكبوه، فكفروا وصدُّوا عن آيات الله، وسخِروا بعباد الله المؤمنين، فكان جزاء عملهم أن تَلفحَ وجوههم النارُ، والخلود فيها.
14- لون آخر من العقاب هو العقاب النفسي؛ حيث يُسكِتُهم الله عن الكلام، ﴿ ولا تُكَلَّمُونَ ﴾، فلم يَعُد هناك لُطفٌ أو رِفْقٌ، أو إيناسٌ لهم أو مَعهم، ولا يُقبَلُ منهم أيُّ كلام؛ لأنهم قضوا وقتهم كله للسخرية من أهل الإيمان، حتى نَسُوا ولم يتذكَّروا أن هناك خالقًا للكون سيُجازيهم بكل أعمالهم[13].   15- قولهم: ﴿ غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ﴾: من معاني الشقوة أنها الألم الذي يملِك كلَّ ملكات النفس، فلا يترك منها جانبًا، يقولون: فلان شقيٌّ؛ يعني: مُضيَّق عليه ومُتعَب في كل أمور حياته، لا يرى راحة في شيء منها، فهم يريدون أن يُبعِدوا المسألة عن أنفسهم، ويُلْقون بها عند الله تعالى، يقولون: يا رب لقد كتبتَ علينا الشقوة من الأزل، فلا ذنبَ لنا، ويقولون: لو شاء ربُّنا ما فعلنا ذلك، ونقول لهم: لقد كتَب الله عليكم أزلًا؛ لأنه سبحانه عَلِمَ أنكم ستختارون هذا[14].   16- قولهم: (﴿ شِقْوَتُنا ﴾: أضافوا الشِّقوة لأنفسهم؛ لأنَّهم سببٌ مُباشر لهذا الشقاء الذي هم فيه، والشقاء ضد السعادة، وتُحِسُّ في كلمة (شِقوة) معاني العُسْر، والشدة، والمحنة، والكرب، والضيق، والشقاء، والعناء، والتعب [15]، فتشمَل كلمة (شِقوة) كل هذه المعاني مجتمعةً لازمة لها غير مُنْفَكَّةٍ عنها؛ لأن الموقف والحال يحتملُها.

17- إذا خفَّت موازين العبد، فهو إيذانٌ بالهلاك والخسران، ومرحلة مؤلِمة يدخل فيها ويواجهها.
18- على المسلم أن يجاهد نفسه بما يستطيع حتى يُثْقِلَ موازينه.
19- وحيث إنَّ كلمة ﴿ كَلَحَ ﴾ جمعت معانيَ كثيرة، فإنها كلَّها تتناسب مع هول الموقف، وجاءت متناسقة مع السياق، ومتناسبة مع الحَدث، وواصفةً الحالةَ البائسةَ، والجوَّ السائد الذي يمرون فيه، ويعيشونه بمرارته وألَمِه وأحزانه، مشهد حيٌّ ومتحرِّك، ماثل أمامنا، وكأنك تراه بارزًا، تُعبِّر عنه الكلمة بأدق تعبير، وأحسن وصف، وأجمل تصوير.
20- أيُّ خسارةٍ أعظم من أنْ يَخسَر الإنسان نَفسه، وهو بأمَسِّ الحاجة إليها، خسارة فادحة، ليس بعدها إلا الندم والتحسُّر.
21- تصطبغ الآيات بلغة الحوار بين الله جلَّ جلاله وبين أهل النار.
22- حتى كلمة (الفائزون) فيها مدٌّ يتناسب مع مكوث أهل الجنة، وبقائهم فيها البقاءَ اللانهائي، فالمدة طويلة وممدودة ليس لها أمدٌ.

23- يكفي أن يقول الله: (أنَّهم الفائزون) ويتمُّ المعنى، ولكن لأن الله خصَّهم وعَنَاهم بالفوز دون غيرهم، وأكَّد هذا الفوز بالضمير (هم).
24- قوله: (مِن عِبَادِي): أضافهم سبحانه إليه إضافةَ تشريفٍ ورِفْعَةٍ[16].   25- قوله: ﴿ ولا تُكَلِّمُونِ ﴾: الإنسان في الغالب لا يستطيع أن يعبِّر عن حاله، وعما في نفسه إلا عن طريق الكلام، فلمَّا يُمنع من الكلام، أو لا يَقدر أن يتكلم، فإنه لا يستطيع أن يتواصل مع الآخرين، ولو تواصَل فسيجد صعوبةً في ذلك، فلما مُنعوا من الكلام بهذا الشكل، انتهى وانقطع التواصل معهم، ولن يستطيعوا التعبير عن أوضاعهم، وفي هذا من الألم الشديد الذي لا يعلمه إلا الله، يضاف إلى ذلك الذِّلَّة والمَهانة والاحتقار لهم.
26- العبرة بمن يضحَك ويسعد أخيرًا، وليس بمن يضحك أولًا، ويخسر ويندم أخيرًا.
27- عاقبة الصبر حميدة: رضا الله، وبعدَه الجنةُ.
28- المغفرة والرحمة بيد الله سبحانه.
29- قوله: ﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾: يدلُّ على أن هناك رحمةً في البشر، وفي الحيوانات، لكن الرحمة الكاملة المطلقة هي رحمة الله سبحانه، وليس هناك أفضل، ولا أحسن من رحمة الله، فهو سبحانه خير الراحمين.
30- لا يجوز السخرية من عباد الله المؤمنين.
31- قوله: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ ﴾: الفريق هم الطائفة، أو المجموعة من الناس[17]، وهذا يدلُّ على أن أهل الإيمان قِلَّةٌ من الناس؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116]، وقوله: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103].
32- قوله: ﴿ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ﴾؛ أي: جَعلتموهم غَرَضًا وهدفًا لسُخريتكم، فهم يرمونهم بالسخرية بأقوالهم وأفعالهم، فهو تصويرٌ لاستمرار السخرية وتَكرارها، وهي سُخرية دائمة للمؤمنين.
33- أهميَّة الذكر في حياة المسلم.
34- تَخفُّ المَوازين بِقلَّة الأعمال الصالحة، وكثرة الأعمال السيئة.
35- المواعظ تُقرأ، والآيات تُتلى، والسعيد من فتح الله قلبَه، وأنار عقله، فاستفاد منها، واتَّبع منهج الله سبحانه، واقتفى أثر رسوله صلى الله عليه وسلم.   36- المغفرة والرحمة من صفات الرحمن جلَّ جلاله، فهو الغفور الذي يغفر الذنوب، ويستر العيوب، ويعفو عن الزلَّات، والرحمن الرحيم الذي وسِعت رحمته كلَّ شيءٍ سبحانه.   37- من أسماء النار جهنَّم.


[1] تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير 5/ 432. [2] تفسير التحرير والتنوير؛ لابن عاشور 18/ 127. [3] مستفاد من المرجع السابق. [4] جامع البيان؛ لابن جرير الطبري 19/ 73. [5] تهذيب اللغة؛ للأزهري 4/ 63، والمقاييس في اللغة؛ لابن فارس 5/ 134، وله متخيَّر الألفاظ ص 92، ولسان العرب؛ لابن منظور 2/ 574، وأساس البلاغة؛ للزمخشري 2/ 144، والمعجم الوسيط؛ لإبراهيم مصطفى وجماعة 2/ 795، مادة كلح. [6] المعجم الاشتقاقي المُؤصِّل لألفاظ القرآن الكريم؛ د.
محمد حسن جبل، 4/ 1913-1921. [7] تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير 3/ 350. [8] مفاتيح الغيب؛ للرازي 23/ 109. [9] المرجع السابق 1/ 327. [10] 11-12مستفاد من مقال أ.
د.
محمد خازر المجالي بجريدة الغد الأردني، (موقع الغد النسخة الإلكترونية)، عدد الجمعة 14 تشرين الأول/ أكتوبر. [11] المغني لابن قدامة 12/ 526. [12] قواعد وضوابط عقوبات الحدود والتعازير/ للمؤلف، ص 258، (رسالة دكتوراه منشورة في موقعَي: شبكة الألوكة، وصيد الفوائد). [13] تفسير الشعراوي 2/ 327 ، 3/ 1398. [14] المرجع السابق 16/ 10166. [15] المقاييس في اللغة؛ لابن فارس 3/ 202، وتاج العروس؛ للزبيدي 38/ 386 مادة (شقو)، ولسان العرب؛ لابن منظور 14/ 438 مادة (شقا). [16] تفسير الشعراوي 13/ 8315. [17] موقع معجم المعاني تعريف ومعنى كلمة (فريق).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن