أرشيف المقالات

التوحيد في سورة الأنعام

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2التوحيد في سورة الأنعام
من خصائص السورة الكريمة: 1- نزلت السورة الكريمة في أواخر المرحلة المكية (وترتيبها الخامسة والخمسين حسب ترتيب النزول، بعد الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم)، لتعالج قضايا هذه المرحلة من الإعراض والتكذيب والإيذاء، ولإقرار أمور التوحيد، خصوصًا ما يتعلق بالموالاة والتحاكم والنسك كما سيتبين.   2- تتسم السورة الكريمة بثلاثة أساليب في الخطاب والجدال والإقناع، وهي: أ‌- الحديث عن الله تعالى بضمير الغائب (الحاضر): "وهو الله"، "وهو الذي"؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ ﴾ [الأنعام: 3]، ومع كونه في السماوات، فهو يعلم السر في الأرض كما يعلم الجهر، وما يقع من أفعال وحوادث: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 3]، وكقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ﴾ [الأنعام: 60]، وكقوله تعالى: ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ [الأنعام: 13].   ب‌- أسلوب التقرير، إما بالجملة الإسمية؛ كما في قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1]، وإما بأداة التوكيد (إن)؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾ [الأنعام: 95]؛ كما في قوله تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِه ﴾ [الأنعام: 104].   ج‌- أسلوب التلقين: وهو قوله: (قل)، وقد تكرَّر في السورة الكريمة أربعًا وأربعين مرة، حتى إنه قد تكرر في آية واحدة أربع مرات؛ في قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 19]، ولعل الدلالة هنا هي احتدام المعركة وتصاعد المواجهة بين الإسلام والجاهلية، والجدال بين الحق والباطل، وبين التوحيد والشرك؛ فتنزل الآيات والتلقينات؛ ليقول الله تعالى لنبيه: قل لهم كذا، إنهم يقولون كذا فقل لهم كذا، وكان ذلك من تأييد الله تعالى لنبيه في هذه المرحلة القاسية من المواجهة.   أما القضايا التي عالجتها السورة وتتعلق بأساسيات توحيد الألوهية - فهي كما يلي: 1- الموالاة: قال تعالى: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 14].   والموالاة أو الولاية أو الولاء مِن "ولَّى": والولاء: القرابة، والولاء: النُّصْرة، والولاء: المحبة، والولي: النصير، والولي: المحب، والولي: الصديق، والولي: المطيع، يقال: المؤمن ولي الله؛ [انظر المعجم الوجيز].   والآية إنكار أن يتخذ العبد وليًّا غير الله، يصرف إليه المحبة والطاعة والنصرة، فهذه الأمور لا يصرفها العبد ولا يتوجه بها إلا إلى فاطر السماوات والأرض الذي يُطعم الخلائق ويَكلؤها ويحفظها، ويتولى شؤونها وتربيتها وتنميتها.   والموالاة أصل من أصول العقيدة لما يلي: أ‌- لأنها جزء من شهادة (أن لا إله إلا الله)؛ فشقها الأول: البراءة من كل ما يعبد من دون الله، والثاني: إثبات الولاء لله عز وجل وحده.   ب‌- أنها أوثق عرى الإيمان، فقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر رضي الله عنه: (أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله)، والحديث صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 998.   ج‌- أنها الصلة التي تجمع المؤمنين وتربط بينهم؛ قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [التوبة: 71].   د‌- أن الموالاة لها حقوق؛ منها: نصرة المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان، ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم، وأن يحب للمسلمين ما يحب لنفسه من الخير ودفع الشر، والحفاظ على مشاعرهم، وعدم السخرية منهم، وعدم غشهم وظلمهم، ولا يتتبَّع عوراتهم ..
وألا يتجسَّس عليهم، ولا ينقل أخبارهم إلى أعدائهم، وكف الأذى عنهم، وإصلاح ذات بينهم، والتعاون معهم، ونُصحهم.   هـ- أن الموالاة تقتضي المعاداة في الله (معاداة أعداء الله)، وهذا يقتضي بُغض الشِّرك، والمعاصي، وعدم اتخاذ الكفار أولياءَ، وعدم مودتهم (القلبية)، وعدم التشبه بهم، وعدم المداهنة لهم، وألا يناصرهم، ولا يعينهم على المسلمين.   2- التحاكم: قال تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [الأنعام: 114].   قوله تعالى في الآية: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ﴾: جملة حالية مؤكدة للإنكار، فالمعنى: إذا كان الله أنزل إليكم الكتاب مُفصِّلًا لكل شيء، ولكل حكم، فهل يجوز أو يليق أن أبتغي غيره حَكَمًا أتحاكم إليه وأرجع إليه؟ والمعنى أيضًا كقوله تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ [المائدة: 50]، كان الخطاب في الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الثانية لهؤلاء الذين يبغون حكم الجاهلية، والمعنى كذلك أنه إما حكم الله المنزل المفصل وإما حكم الجاهلية، فالنبي عليه الصلاة والسلام، ومَن تبِعه لا يبغون حكمًا غير حكم الله، ولا يقبلون غيره، أما الكافرون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهم الذين لا يبغون حكم الله، ويَبغون حكم الجاهلية...   وإذا كان الله تعالى هو الذي أنزل الكتاب مفصلًا، وأهل الكتاب يعلمون ذلك - وإن جحدوا ظاهرًا - وإذا كان الله تعالى حفظ الكتاب الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، فهو محفوظ بحفظ الله لم ينله التغيير ولا التحريف، وأن الكتب السابقة قد حرِّفت، فإنه لا يوجد كتاب يستحق أن يرجع إليه الجميع، ويتحاكموا إليه، إلا الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن المجيد...   3- النسك: قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].   معنى النسك: العبادة، وقيل: الذبح، وقيل الحج.   فقوله تعالى: (صلاتي ونسكي)؛ أي: صلاتي وذبحي، ويكون كقوله تعالى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر: 2]؛ أي: انحر لربك كما تصلِّي لربك.   أو المعنى: (صلاتي ونسكي)؛ أي: صلاتي وعبادتي، ويكون من باب عطف العام على الخاص.   وعلى هذا، فإن العبادة بكل أنواعها وأشكالها الظاهرة والباطنة، لا تُصرَف إلا لله، ولا يتوجه بها العبدُ إلا لله، وأن حياته كما أنها ملك لله، فلا يحيا العبد في هذه الدنيا ولا يتحرك إلا بمنهج الله، وبأوامر الله، وهذا يقتضي ما يلي: ♦ أن يكون في الدنيا عابدًا لله، ساعيًا لتحقيق العبودية لله عز وجل.
♦ أن يعبد الله كما أمره الله عز وجل، وكما فعل وأمر نبيُّه صلى الله عليه وسلم (المتابعة). ♦ أن يكون مخلصًا لله في عبادته، وأن يَحذَر الشرك.
(الإخلاص).   ومن هنا فإن توحيدَ الألوهية هو توجُّه العبد بصلاته ونُسكه وعبادته إلى الله ربِّ العالمين، لا شريك له.



شارك الخبر

المرئيات-١