أرشيف المقالات

حتى لا يحبط عملك وأنت لا تشعر

مدة قراءة المادة : 24 دقائق .
2حتى لا يحبط عملُك وأنت لا تشعُر   قال حذيفة رضي الله عنه: "كان الناسُ يسأَلون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الخيرِ، وكنتُ أسألُه عن الشَّرِّ مخافةَ أن يُدرِكَني" [1].   وقال أبو فِراس: عرَفتُ الشرَّ لا للشَّرِّ لكن لتوقِّيه ومَن لم يَعرِفِ الشرَّ من الناسِ يقَعْ فيه   فينغي على المسلم أن يتعلَّم الواجبات ليعمل بها، ويعلم المحرَّمات ليحذرها، يعلم المكروهات والمستحبَّات، يعلم التوحيد والشرك، والإيمان والنفاق، يعلم أسباب قبول الأعمال، وأسباب حبوطها، وهكذا.   والذنوب التي تحبط الأعمال على نوعين: ذنوب كفرية، وذنوب غير كفرية، فأما الذنوب الكفرية فهي محبطة للعمل جميعه، ولا تُبقِ لصاحبها خيرًا فَعَلَه.   وأمَّا الأعمال غير الكفرية، فهي من كبائر الذنوب، فإن العلماء يقولون: إنَّ حبوطَ العملِ في ذنبٍ وعيدٌ شديدٌ لفاعلِ الذنب، وهو عَلامةٌ على أنَّه كبيرةٌ؛ قال ابن تيمية رحمه الله [2]: "حبوط العمل لا يُتَوَعَّدُ به إلا على ما هو من أعظم الكبائر".   وقد استدلَّ بعض فرق أهل الإسلام بحبوط عمل مَن ارتكب هذه الذنوب على تكفيرِ مُرْتَكِبِ الكبيرةِ من أهلِ التَّوحيدِ، وقالوا: هو نظيرُ قولِه تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ [المائدة: 5]، فردَّ عليهم العلماءُ؛ فقالوا: مفهومُ الآيةِ أنَّ مَنْ لم يكفُرْ بالإيمانِ لم يُحْبَطْ عملُه، فيتعَارَضُ مفهومُها ومنطُوقُ الحَديثِ؛ فيتعيَّنُ تأويلُ الحديثِ؛ لأنَّ الجمعَ إذا أمكنَ أولى من الترجيحِ.   واختلفَ أهلُ العلمِ في معْنَى حُبُوطِ العملِ هنا على أقوالٍ [3]: 1- المرادُ مَن فعَلَ هذا الفعْلَ مُسَتخِفًّا مستهزئًا. 2- خرجَ الوعيدُ مخرجَ الزَّجرِ الشديدِ، وظاهرُه غيرُ مرادٍ. 3- هو من مجازِ التشبيه؛ كأنَّ المعنى: فقد أشبَه من حبِطَ عملُه. 4- معناه: كادَ أن يَحبَطَ. 5- المرادُ المبالغةُ في نُقصَانِ الثوابِ؛ إذ حقيقةُ الحبوطِ إنما هو بالرِّدَّةِ، وعبَّرَ بالحُبُوطِ وهو البطلانُ للتهديدِ والتشديدِ. 6- المرادُ بالعملِ عمل الدنيا الذي كان بسببِ فعلِه لهذا الذنبِ؛ أي: لا يستمتعُ به. 7- المعنى: أُسقِطَتْ حسناتُه في مقابلَةِ سيئاتِه، وسُمِّيَ إحباطًا مجازًا، وقيلَ: غير ذلك؛ فالله أعلم.   أسباب حبوط الأعمال غير الكفرية: 1- الرياء: قال الله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15، 16].   قال بعض أهل التفسير: نزلت في أهل الرياء، وذلك أن أهل الرياء يُعطون بحسناتهم في الدنيا، فمن عمل صالحًا التماس الدنيا، صومًا أو صلاةً أو تهجُّدًا بالليل، لا يعمله إلا التماس الدنيا، فإن الله يُوفِّيه الذي التمس في الدنيا، ويُحبط عمله الذي كان يعمله التماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين.   عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشُّركاءِ عن الشرك، من عمِلَ عمَلًا أشركَ فيه معي غيري تركتُه وشِركَه)[4].   وعن محمود بن لَبيد رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم الشِّرْكُ الأصغرُ))، قالوا: وما الشِّرْكُ الأصغرُ يا رسولَ الله؟ قال: ((الرِّياءُ؛ يقولُ الله عزَّ وجلَّ لهم يومَ القيامةِ إذا جزى الناسَ بأعمالِهم: اذهبُوا إلى الذين كنتم تُرَاؤُونَ في الدنيا فانظُروا، هل تجِدونَ عندهم جزاءً؟)) [5].   وعن أُبَي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بَشِّرْ هذه الأُمَّةَ بالسَّناءِ، والنصرِ، والتمكينِ، فمن عمِلَ منهم عمَلَ الآخرةِ للدنيا، لم يكُن له في الآخرةِ نصِيبٌ)) [6].   وعن أبي أُمامة الباهلي رضي الله الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي رضي الله عنه، فقال: أرأيت رجلًا غزا يلتمِسُ الأجرَ والذِّكرَ، ما لَه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا شيء له))، فأعادها ثلاث مراتٍ؛ يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا شيء له))، ثم قال: ((إن الله لا يقبَلُ من العملِ إلَّا ما كان له خالصًا، وابتُغِيَ به وجهُه)) [7].   وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ تعَلَّم علمًا مما يُبتَغى به وجهُ الله عز وجل لا يتعلَّمُه إلا ليُصِيبَ به عرَضًا من الدنيا، لم يجِدْ عرْفَ الجنة يومَ القيامة)) [8].   فاحذَر يا أخي الرياء؛ فإن خطره عظيم، وشرَّه كبيرٌ، فمع أنه يُحبط عمل صاحبه، فقد صحَّ أنه من صفات المنافقين، وأنه سبب لعذاب صاحبه في الآخرة، وأنَّ صاحبه متوعَّد بالويل، وأنه متوعَّد بالفضيحة.   قال أهل العلم: والرياء هو أنْ يعملَ عملًا مما يُتَقرَّبُ به إلى الله يريد به ثناءَ الناسِ عليه.
وحقيقةُ الرِّياءِ طَلَبُ ما في الدُّنيَا بالعِبادَةِ، وأصلُه طلَبُ المَنْزِلَةِ في قلوبِ النَّاسِ.   والرِّياءُ منه ما هو شِرْكٌ أكبرٌ مُخْرِجٌ من المِلَّةِ؛ كرياءِ المنافقين الخُلَّصِ، وفيهم قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142].   ومنْه ما هو شِرْكٌ أصغر؛ كرياءِ المؤمنِ الذي يعملُ العملَ لله تعالَى، ثم يدخُلُه الرِّياءُ، أو يكونُ فيه ابتداءً؛ لكنَّه لا يُرائي في جميعِ عملِه، وهذا وُصِف بالشِّرْكِ للتَّغلِيظِ والزجِر، وسُمِّي شركًا؛ لأنه يجِبُ أن تكون العبادةُ لله وحدَه؛ لكنَّ هذا المرائي جاءَ فأشْرَكَ مع الله تعالى أحدًا في العبادةِ.   2- التألي على الله: عن جُندَب بنِ عبدالله رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حدَّث ((أن رجلًا قال: والله لا يغفِرُ الله لفلانٍ، وإنَّ الله تعالى قال: من ذا الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفِرَ لفلانٍ، فإني قد غفرْتُ لفلانٍ، وأحبطْتُ عملَك))، أو كما قال [9]، معنى يتألَّى: يَحلِف.   وعن ضَمضم بن جَوْس رحمه الله قال: قال أبو هريرة سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كان رجلانِ في بني إسرائيلَ مُتَواخِيَين، فكان أحدُهما يُذنِبُ، والآخرُ مجتهِدٌ في العبادةِ، فكان لا يزالُ المجتهدُ يرى الآخرَ على الذنبِ، فيقول: أقصِر، فوجده يومًا على ذنبٍ، فقال: خلِّني وربي، أَبُعثْتَ عليَّ رقيبًا؟ فقال: والله، لا يغفِرُ الله لك، أو لا يُدخِلُك الله الجنةَ، فقبَضَ أرواحَهما، فاجتمعَا عند ربِّ العالمين، فقال لهذا المجتهدِ: أكنْتَ بي عالِمًا، أو كنت على ما في يَدِي قادرًا؟ وقال للمذنبِ: اذهب فادخُلِ الجنة برحمتِي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النارِ)).   قال أبو هريرة: "والذي نفسي بيدِه لتكلَّمَ بكلمةٍ أوبقَتْ دُنياه وآخِرتَه"[10]. وفي رواية ابن المبارك: قال ضمضم: دخلتُ مسجدَ المدينة، فناداني شيخٌ، وقال: يا بن أُمِّي! تعالَه، وما أعرِفُه، قال: لا تقولَنَّ لرجلٍ: والله لا يغفِرُ الله لك أبدًا، ولا يُدخِلُك الجنة أبدًا، قلت: ومن أنت يرحمُك الله؟ قال: أبو هريرة، قلت: فإن هذه الكلمةَ يقولُها أحدُنا لبعضِ أهلِه إذا غضِبَ، أو لزوجتِه، أو لخادِمه؟ قال: فإني سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وذكره.   فاحذر يا أخي أن تتكلَّم بكلمة تهلك بها، وتخسر بها آخِرتَكَ، وأمسِك عليك لسانَكَ، ولا تَلْقِ بنفسِكَ في التهلكة وأنت لا تدري؛ فقد صحَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ، ما يتبَيَّنُ ما فيها، يهوِي بها في النَّارِ أبْعَدَ ما بين المشرقِ والمغربِ)) [11].   3- رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2].   عن ابن أبي مُليكة رحمه الله قال: كاد الخيِّرانِ أن يهلِكَا: أبو بكر، وعمر، لما قدِم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَفْدُ بني تميم، أشار أحدُهما بالأقرعِ بن حابِس التميمي الحنظلي أخي بني مُجَاشِع، وأشار الآخرُ بغيرِه، فقال أبو بكر لعمر: إنما أردْتَ خِلافي، فقال عمر: ما أردتُ خلِافَك، فارتفعَت أصواتُهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلَت: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ [الحجرات: 2] إلى قوله: ﴿ عَظِيمٌ ﴾ [الحجرات: 3]؛ قال ابن أبي مليكة، قال ابن الزبير: فكان عمرُ بعدُ إذا حدَّث النبيَّ صلى الله عليه وسلم بحديثٍ حدَّثه كأخِي السِّرَار لم يُسمِعْه حتى يستفهِمَه [12].   وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال لما نزلت هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ [الحجرات: 2] إلى آخرِ الآية، جلسَ ثابت بن قيس في بيتِه، وقال: أنا من أهل النارِ، واحتبسَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ، فقال: ((يا أبا عمرو، ما شأنُ ثابت؟ اشتَكى؟)) قال سعد: إنه لجارِي، وما علمْتُ له بشكوَى.   قال: فأتاه سعد، فذكرَ له قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أُنزِلَتْ هذه الآيةُ، ولقد علمتُم أني من أرفَعِكم صوتًا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهلِ النارِ، فذكرَ ذلك سعدٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل هو من أهلِ الجنةِ، فقل له: إنك لسْتَ من أهلِ النار؛ ولكن من أهلِ الجنةِ))، قال: فكنَّا نراه يمشِي بين أظهُرِنا رجلٌ من أهلِ الجنةِ [13].   قال العلماء: كان ثابتُ رضي الله عنه جَهِيرَ الصوتِ، وكان يرفعُ صوتَه، وكان خطيبَ الأنصارِ، ولذلك اشتدَّ حذَرُه أكثرَ من غيرِه.   واعلَم يرحمك الله أنَّ من قدَّم قولَه وهواه على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو داخلٌ في هذا الوعيد، فهو وإن كان قد مات صلى الله عليه وسلم، فإن سُنَّته باقيةٌ، وأمرُه واجب الامتثال، والله أعلم.   4- ترك صلاة العصر: عن أبي المليح رحمه الله قال: كنا مع بُرَيدة في غزوة في يومٍ ذي غَيْمٍ، فقال: بكِّروا بصلاةِ العصر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((مَنْ تَركَ صلاةَ العَصْرِ فقد حبِطَ عملُه)) [14].   وقد اختلف العلماء في معنى الحبوط هنا، وأوَّلوه بما سبق بيانه، ولا شكَّ أنَّ هذا وعيدٌ وزجرٌ شديدٌ؛ فكن على حذَرٍ يرحمك الله.   5- المنُّ: قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264].   ذكر الرازي رحمه الله أنَّ الْمَنَّ عَلَى وجهين: أحدها: بمعنى الإنعام؛ يُقال: قد مَنَّ الله على فلان: إذا أنعم، ومنه قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 164]، ومنه أن يترك الأميرُ الأسيرَ الكافرَ من غير أن يأخذَ منه شيئًا.   والوجه الثاني: بمعنى النقص من الحق والبخس له، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ [القلم: 3]؛ أي: غير مقطوع وغير ممنوع.   قال الرازي: ومن هذا الباب المنة المذمومة؛ لأنَّها تُنقص النعمة، وتُكدِّرها، والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة، إذا عرَفت هذا فنقول: المنُّ هو إظهار الاصطناع إليهم، والأذى شكايته منهم بسبب ما أعطاهم [15].   فاحذَر يا أخي المنَّ؛ فقد ورد عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يُكلِّمُهم الله يومَ القيامةِ، ولا ينظرُ إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ))، قال: فقرأها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مِرارٍ، قال أبو ذرٍّ: خابوا وخسِرُوا، مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: ((الْمُسبِلُ، والمنَّان، والْمُنفقُ سِلعتَه بالحلف الكاذبِ))[16].   6- انتهاك محارم الله في الخلوة: عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لأعلَمَنَّ أقوامًا من أُمَّتي يأتونَ يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تِهامَة، بِيضًا، فيجعلُها الله هباءً منثورًا))، قال ثوبان: يا رسول الله، صِفْهُم لنا، جَلِّهم لنا؛ ألَّا نكون منهم ونحن لا نعلمُ، قال: ((أمَا إنهم إخوانُكم، ومن جِلْدتِكم، ويأخُذون من الليلِ كما تأخُذون، ولكنهم أقوامٌ إذا خَلَوا بمحارمِ الله انتهَكوها)) [17].   ويعارض هذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمِعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كُلُّ أُمَّتي مُعافى إلَّا المُجاهرينَ، وإنَّ من المجاهرةِ أن يعمَلَ الرجلُ بالليلِ عملًا، ثم يُصبِحُ وقد سترَه الله عليه، فيقول: يا فلانُ، عمِلْتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يسترُه ربُّه، ويُصبِح يكشِفُ سِتْرَ الله عنه))[18].   قلت: لكن يزولُ الإشكال - والله أعلم - بحمل حديث ثوبان على من فعل ذلك استخفافًا بالله عزَّ وجلَّ، وهم المنافقون الذين يُظهِرون الإيمان والإسلام، ويُبطِنون الكُفْر والنِّفاق، وفيهم قول الله تعالى: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ﴾ [النساء: 108]، قالوا: وهذا إنكارٌ على المنافقين في كونهم يستخفُّون بقبائحهم من الناس - لئلا يُنكروا عليهم - ويُجاهرون الله بها؛ لأنه مُطَّلِعٌ على سرائرهم، وعالم بما في ضمائرهم.   أسباب حبوط الأعمال الكفرية: 1- الشرك: قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65].   وقال سبحانه: ﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 88].   2- التكذيب بآيات الله ولقاء الآخرة: قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 147].   وقال سبحانه: ﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [الأحزاب: 19].   3- الموت على الكفر: قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217].   4- كراهة ما أنزل الله: قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 9].   5- اتباع ما أسخط الله: قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 28].   6- النفاق: قال الله تعالى: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 52، 53].   7- الصد عن سبيل الله ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 32].   8- قتل النبيين والذين يأمرون بالقسط: قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 21، 22].   قال العلماء: هذا ذَمٌّ من الله تعالى لأهل الكتاب فيما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديمًا وحديثًا، التي بلَّغَتْهم إيَّاها الرسل، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلَّغُوهم عن الله: ﴿ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 21]، وهذا هو غاية الكبر.


[1] أخرجه البخاري (3606)، ومسلم (1847). [2] "مجموع الفتاوى" (22/ 54). [3] "فتح الباري" (2/ 32، 33)، و"شرح صحيح مسلم" (16/ 174)، و"شرح سنن ابن ماجه"؛ للسيوطي (50)، و"مرقاة المفاتيح" (2/ 529). [4] أخرجه مسلم (2985). [5] صحيح: أخرجه أحمد (5/ 428). [6] إسناده حسن: أخرجه أحمد (5/ 134) والحاكم (4/ 311). [7] سنده حسن: أخرجه النسائي (3140). [8] حسن بشواهده: أخرجه أبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وأحمد (2/ 338)، والحاكم (1/ 85).
وفي الباب عن ابن عمر، وكعب بن مالك، وحذيفة، وجابر، وأنس، وفي كل أسانيدها مَقال. [9] أخرجه مسلم (2621). [10] صحيح: أخرجه أبو داود (4901)، وأحمد (2/ 323، 363)، وابن حبان (5712)، وابن المبارك في "الزهد والرقائق" (900). [11] أخرجه البخاري (6477)، ومسلم (2988). [12] أخرجه البخاري (7302)، وهو مرسل؛ لكنه وصله في (4847). [13] أخرجه البخاري (3613)، ومسلم (119). [14] أخرجه البخاري (553). [15] ‏‏انظر: مفاتيح الغيب (7/ 40)، والتعريفات (254)، والمفردات (474). [16] أخرجه مسلم (106). [17] إسناده حَسَنٌ، وأعلَّه بعض أهل العلم: أخرجه ابن ماجه (4245)، والروياني (651)، وأعلَّه بعضُ أهل العلم بتفرُّد عيسى بن يونس الرَّمْلي، وعقبة بن علقمة، قلت: عيسى مُتابَعٌ عند الروياني، قال شيخنا: والحديث في النفس منه شيء لتفرُّد الألهاني وعقبة به، ولا يحتمل تفردهما، لا سيَّما مع غرابة المتن، هذا محمول - لو صَحَّ - على نفاق الاعتقاد. [18] أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990).




شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢