أرشيف المقالات

القول السديد فيه صلاح الدنيا والدين

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2القول السديد فيه صلاح الدنيا والدين
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].   قال القرطبي رحمه الله؛ أي: قولوا: قصدًا وحقًّا، وقيل: صوابًا، وقيل: قولوا قولًا سديدًا في شأن زينب وزيـد، ولا تنسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحل، وقيـل: لا إله إلا الله، وقيل: هو الذي يوافق ظاهره باطنه، وقيل: هو ما أُريد به وجهُ الله دون غيره، وقيل: هو الإصلاح بين المتشاجرين، والقول السداد يعم الخيرات، فهو عام في جميع ما ذكر، وغير ذلك، ثم وعد جل وعز بأنه يجازي على القول السديد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب، وحسبك بذلك درجة ورفعةً منزلة، ومن يطع الله ورسوله فيما أمر به ونهى عنه، فقد فاز فوزًا عظيمًا[1].   وقال ابن كثير رحمه الله: إن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة كأنهم يرونه، وأن يقولوا قولًا سديدًا؛ أي: مستقيمًا لا اعوجاجَ فيه، ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلُح لهم أعمالهم؛ أي: يوفِّقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع منهم في المستقبل يُلهمهم التوبةَ منها، ثم قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 71]، وذلك أنه يُجار من نار الجحيم إلى الجنة النعيم المقيم.   كما أورَد ابن كثير رحمه الله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ مَكَانَكُمْ، فَاسْتَقْبَلَ الرِّجَالَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُنِي أَنْ آمُرَكُمْ أَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ، وَأَنْ تَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ثُمَّ تَخَطَّى الرِّجَالَ، فَأَتَى النِّسَاءَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُنِي أَنْ آمُرَكُنَّ أَنْ تَتَّقِينَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْ تَقُلْنَ قَوْلًا سَدِيدًا"[2] - [3].   المضامين التربوية: يخاطب الله عز وجل هنا المؤمنين بصفة خاصة، وهو نداء محبة وخير يقرُب من الله تعالى، وهذا النداء وأمثالُه في القرآن الكريم، يقول عنه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعـود رضي الله عنه: إذا سمعت الله تعالى يقـول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، فأرعها سمعَك فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه[4].   هذا النداء المفعم بالإيمان الخالص يوجه فيه الله تعالى المؤمنين بتقواه، فهي خير زادٍ وبوابة الخير والصلاح في الدنيا والآخرة، ولعِظَم قدرها ورِفعة منزلتها ودرجتها، فقد وردت في القرآن الكريم أكثر من مائتين وخمسين (250) مرة، وهذا يدل دلالة واضحة على أهميتها ومكانتها من جهة، والحرص والعناية على الالتزام بها من جهة أخرى.   ولا شك أن المتقين هم السعداء والمفلحون في الدنيـا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس: 62 - 64].   وتتضمن الآيتان الكريمتان مضامين تربوية عظيمة، ومنها: أولًا: تكريم الله تعالى ومحبته للمؤمنين من عباده، وهذا يتطلب من المُكرَّمين بهذا النداء الإلهي العظيم حُسن الاستجابة وحُسن الإذعان؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24].   وعلى المربين والمعلمين والدعاة والمصلحين العنايةُ بالتلطف مع الناشئة والشباب والمتعلمين، وألا يسمع منهم إلا أفضل القول وأحسنه، فهو مَدعاة للقبول وحسن الاستجابة، مع تأكيد أهمية طاعة الله تعالى والاستجابة لأوامره، واجتناب نواهيه في السر والعلن.   ثانيًا: الاهتمام بتحري القول السديد، ويشمل: (القول القصد والحق، القول الصدق، القول العدل، القول المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، القول المحدد اتجاهه وهدفه، القول الذي يراد به وجه الله تعالى، القول الموافق ظاهره باطنه، الإصلاح بين المتشاجرين، لا إله إلا الله).   إن تحرِّي القول السديد بما يشتمل عليه من معانٍ متنوعة سبق ذكرها - سببٌ لنشر المحبة والوُدِّ بين الناس، لِما يحمله من صفاء ونقاء في التعامل خالٍ من المكر والخداع والغيبة والنميمة والألفاظ النابية التي تعكِّر صفو الحياة، وتنشر العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع الواحد؛ لأنها ذات تأثير سلبي على نهوض الأمة وتقدمها.   وعلى المؤسسات التربوية بأنواعها المختلفة تفعيلُ القول السديد، وجعله واقعًا معيشًا وسلوكًا ممارسًا يلتزم به الجميع، والتنديد والإنكار الشديدان لكل من يخالفه.   ثالثًا: التوجيه بتقوى الله تعالى يشمل الجنسين الرجال والنساء على حدٍّ سواء، وثبت ذلك التوجيه في الحديث الشريف الذي أورده ابن كثير رحمه الله في تفسيره، وسبقت الإشارة إليه آنفًا، وينبغي أن يلتزم النساء بتقوى الله تعالى وبالقول السديد، فمكانتهن في المجتمع عظيمة فهي الأم والأخت والزوجة والبنت، وهنَّ عماد تربية الأولاد، وبصلاحهن تصلح الأسرة، ويصلح المجتمع بخاصة والأمة بعامة.   رابعًا: إثابة المحسن على العمل المثمر النافع، وإيقاع الجزاء المناسب على المسيء، وهذا هو مبدأ الثواب والعقاب، وهو مبدأ تربوي مهم جدًّا يَجدر بالمربين والمصلحين مراعاته والاهتمام به، مع مراعاة الحكمة في تطبيقه بحسب الحاجة والقدر المناسب من غير إفراط أو تفريط.   خامسًا: ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم التوجيه بقراءة هاتين الآيتين ضمن آيات خطبة النكاح لعظيم قدرها، ولِما تحتويه من معانٍ سامية مفيدة في إصلاح الأسرة والمجتمع[5].   سادسًا: وجوب طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59]، وبذلك تحصل الطمأنينة والاستقرار النفسي، والسعادة الدنيوية مقابل التجاوب والالتزام بذلك؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]؛ لأن الإعراض عن طاعة الله تعالى يُسبب ضيقَ العيش والهم والغم، بل إن جل الأمراض النفسية والعصبية مَردها البُعد والإعراض عن طاعة الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124]، وقال تعالى فيمن آمن وعمل الصالحات: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].   وعلى المربين تأكيدُ أهمية العناية التامة بطاعة الله تعالى، وضرورة التوجيه بالالتزام بها واجتناب نواهيه، فمن أراد الخير والفلاح والحياة الطيبة السعيدة والاستقرار النفسي، فهذا هو طريقها وهذا هو سبيلها، ومن حادَ عنها فلا يلومنَّ إلا نفسه، فماذا بعد الخير والهداية إلا الضلال والشقاء؟!   والحمد لله رب العالمين.



[1] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج14، ص 253. [2] ابن حنبل، المسند، حديث أبي موسى الأشعري، 18871، ج 40، ص 188. [3] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، ص522. [4] الجزائري، نداءات الرحمن لأهل الإيمان، ص 9. [5] انظر: ابن ماجه؛ سنن ابن ماجه، باب خطبة النكاح، حديث رقم 1892، ج 3، ص 87، وصححه الألباني في تذييله لسنن ابن ماجه بتعليق محمد فؤاد عبدالباقي.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣