أرشيف المقالات

التبكيت

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
2التبكيت   في المجلس التربوي كان الجمع كثيرًا، والحديث ساخنًا على الأوقع تربويًّا عن قضية شائكة، وهي: أيهما أَولى: الأسلوب المباشر، أم غير المباشر؟
قال أحدهم: لعلكم لاحظتم أن القرآن الكريم يستخدم الأسلوب المباشر، فهناك العديد من الآيات بدايتها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، ويأتي بعدها التوجيه بالفعل أو الترك.   وهنا قفز أحد الطلاب قائلًا: ذكرني كلامك هذا بآية كنت أبحث عن إجابة عنها منذ زمن، فلعلِّي أجد الإجابة عندكم؟ الحضور: تفضَّل. الطالب: في القضايا المهمَّة الأولى: الأسلوب المباشر، فكيف يرد القرآن الكريم عن فرية الكافرين بقوله: ﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ﴾ [الإسراء: 40]، أليس من الأجدى التعبير المباشر: الله لم يصطفِ ولم يتخذ؟ فلماذا الاستفهام والجواب معروف، ويُشاركه آخر بقوله: وعلى النظام نفسه وقف معي قوله تعالى: ﴿ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ﴾ [الصافات: 153]، فمن المسلَّم به أن الله لم يصطفِ، فلماذا عدل القرآن الكريم عن الأسلوب المباشر إلى أسلوب الاستفهام الذي سنصل منه إلى النتيجة نفسها وهي نفي الشُّبهة؟
ساد الصمت قليلًا، والتفت الحضور بأبصارهم إلى الشيخ الكبير في السنِّ والمخضرم في طلب العلم، الذي طلب مكبِّر الصوت ليبدأ الحديث قائلًا: شكرًا ابني العزيز على هذا السؤال الجميل، والذي يعني حُسْن قراءتك وتدبُّرك للقرآن الكريم، أما قولك: في القضايا المهمة الأولى الأسلوب المباشر، فهذا لا يسلم على إطلاقه، فلكل مقامٍ مقالٌ وطريقة بيان، وفي كلٍّ خيرٌ، ففي قضايا الحدود سيكون الأولى هو المباشر، وأما ما ذكرته من الآية الكريمة، فنحن أمام قضية وهي افتراء الكُفَّار على الله بأنه خصَّهم بالبنين، واتَّخذ من الملائكة إناثًا - تعالى الله عن هذا - فكان من اللازم ليس الرد على الشبهة فقط؛ بل البحث عن أفضل طريقة وأنسب أسلوب لقلع تلك الشبهة وإزالتها، والآن دعني أسألك ما الذي سيحدث لك عندما أسألك كما في الآية: ﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا ﴾ [الإسراء: 40]؟ الطالب: سأبدأ بالبحث عن الإجابة. الشيخ: وهي تحتمل أحد أمرين: نعم، وعليك بالدليل، أو "لا" فتعترف بسقوط الشبهة، هل هناك احتمال ثالث؟ الطالب: لا.   الشيخ: ولما لم يكن هناك دليلٌ على هذه الفرية، فقطعًا سيصل المنصف منهم إلى تكذيب تلك الفرية بنفسه، ويعترف بعدم الاصطفاء وعدم الاتِّخاذ، دون أن يُملي عليه القرآن الإجابة، وإليك القاعدة المهمَّة لئن أجعلك تصل بنفسك إلى نفي ما تعتقده - أوقع من أن أُمليه عليك، فهذا الأسلوب أوقع وأقنع وأوجع في الدلالة على المراد.   الطالب: يعني سأفكِّر وأراجع وأُدقِّق قبل الوصول إلى النتيجة. الشيخ: وهذا هو المطلوب، فإعمال الفكر وتوظيفه في الخير من أعظم مقاصد القرآن الكريم، ومن ذلك استثمار الفكر في قلع الشبهات وتجذير الحقائق.   فانبرى الطالب الآخر: يا شيخ، ماذا عن الآية التي ذكرتها؟ الشيخ: تقصد قوله تعالى: ﴿ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ﴾ [الصافات: 153]؟ الطالب: نعم.   الشيخ: ينطبق عليها الأسلوب نفسه، وسأدعك تُفكِّر وتطبِّق ما ذكرناه على الآية التي ذكرتها. أحد الحضور: جميل وبديع يا شيخ، هل هناك أمثلة أخرى.   الشيخ: نعم هناك الكثير، وهذا الأسلوب من أساليب "التبكيت". الحضور: وما التبكيت؟ الشيخ: التبكيت في اللغة هو التوبيخ والتعنيف والتقريع، وفي الاصطلاح هو الغلبة بالحُجَّة، والإلزام، والإسكات.   هنا استأذن صاحب المجلس وقال: تفضَّلُوا، فوقت الكلام انتهى يا شيخ. الشيخ: وهذا تبكيتٌ وإسكات من نوعٍ آخر، سأدعكم تُفكِّرون في الأمثلة، وأتفرَّغ للطعام. ضحك الجميع وتوجَّهُوا إلى حيث مضيافهم.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١