أرشيف المقالات

أين أنت غدا؟

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2أين أنت غدًا؟
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.   ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].   ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].   ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾[الأحزاب: 70 - 71].   أما بعدُ، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهَدْي هَدْي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.   فناء الدنيا: أين أنت الآن؟ ثم أين أنت غدًا؟ أنت الآن في بيت فسيح، وغدًا في قبر ضيق وَحِيش. أنت الآن فوق الأرض، وغدًا تكون تحت التراب. أنت الآن في منظر جميل، وغدًا تسيل الأحداق على الوجنات. غدًا تنتفخ في القبر ثم تنفجر، ويبدأ الدود في مَهمَّته المنوطة به. غدًا ترتفع اليدان، وتيبس القدمان، وتشخَص العينان، وتتخرق الأذنان، وتنتفخ البطن.   غدًا تنزل مِن علياء قصرك إلى ضيق قبرك، ومن طول أملك إلى انقضاء أجلك، ومن التفكير في الناس إلى التفكير في نفسك.   ورغم ذلك ما زلت مشغولًا بالدنيا عن الطاعة، وبالمال عن الاستقامة، وبالهوى عن الالتزام، وبتنميق الظاهر عن إصلاح الباطن.   الميلُ إلى الدنيا طبيعة فيك، لا تُعدَّل إلا بضوابط الشرع، ولا تُبدَّل إلا بأوامر الرب. فالله يناديك: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 1 - 8].   ما زلت مشغولًا بالمال، والرسول صلى الله عليه وسلم يناديك: ((يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبِسْت فأبليت، أو تصدَّقت فأمضيت؟))[1]، وفي روايةٍ: ((وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس))[2].   ما زلت مشغولًا بالدنيا، والله يناديك: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20].   ما زلت مشغوفًا بالدنيا، والحسن البصري يُعرِّفك حقيقتها، فيقول: هي دارٌ من صح فيها سقم، ومن أمِن فيها ندم، ومَن افتقر فيها حزن، ومَن استغنى فيها افتتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العقاب.   ثم يخبرك عن أهل الآخرة، فيقول: رحم الله أقوامًا كانت الدنيا عندهم وديعةً فأدَّوْها إلى مَن ائتمنهم عليها، ثم راحوا خفافًا.   ما زلت مشغولًا بالأمل عن العمل، تفرح إذا حققته، وتحزن إذا أخفقته! فيُناديك أحد السلف قائلًا: يا بن آدم، فرحت ببلوغ أملك، وإنما بلغته بانقضاء أجلك.   ما زلت مشغولًا بالدنيا، والآخر يناديك: نسير إلى الآجالِ في كل لحظةٍ وأيامُنا تُطوَى وهنَّ مراحلُ ولم أرَ مثلَ الموتِ حقًّا كأنه إذا ما تخطَّتْه الأمانيُّ باطلُ فما أقبحَ التفريطَ في زمنِ الصبا فكيف به والشيبُ للرأسِ شاغلُ ترحَّلْ مِن الدنيا بزادٍ مِن التقى فعمرك أيامٌ وهنَّ قلائلُ   يا عبد الله، اتقِ الله تعالى، ولا تأخذ شيئًا إلا بحقه. يا عبد الله، اتَّقِ الله تعالى، ولا تظلِمْ مسلمًا. يا عبد الله، اتقِ الله تعالى، ولا تأكل حرامًا. يا عبد الله، اتق الله تعالى، ولا تقترف إثمًا. يا عبد الله، اتق الله تعالى، وغُضَّ بصرك. يا عبد الله، اتق الله تعالى، وطهِّر عما حرَّم الله سمعك. يا عبد الله، اتق الله تعالى، ونقِّ عن الرجس والدنس قلبك.   فالله يناديك: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36].   يا عبد الله، لا تتكبر على عباد الله تعالى، ولا تشمخ بأنفك فخرًا؛ فالله يناديك: ﴿ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴾ [الإسراء: 37 - 38].   أين أنت غدًا يا عبد الله؟ أنت غدًا مسجًّى على فراش الموت، وحولَك الأهل والأصحاب والأقارب والأحباب، لكنهم لا يملكون لك حولًا ولا طَولًا، ولا نفعًا ولا ضرًّا.   يعجز الأطباء فيك، ويحتارُ الحكماء في أمرك، ثم يقول أذكاهم: إنا لنظن أن أجله قد اقترَب، وساعته قد حانتْ، وإذا بك وقد شحب لونك، وضعُفَت قواك، وتصلَّبتْ رِجلاك، وتخدرتْ يداك، وشخصتْ عيناك، ثم يتقدَّم إليك ملك الموت يخترق الصفوف!   ملك الموت الذي يدخل على الرؤساء والأمراء، والملوك والوزراء، بلا استئذانٍ؛ لأن معه إذنًا مِن الواحد الدَّيَّان.   يتقدم إليك ملك الموت ليقبضَ روحك، وينقلك مِن دار المُهلة إلى دار الجزاء، فيقبض الروح من الرِّجلين إلى الفَخِذين، ثم إلى البطن وأنت حينذاك بين الموت والحياة، نصفُك مع الأموات، ونصفك مع الأحياء.   تذكَّر نفسك في هذا الموطن وأنت تودِّع أبناءك الصغار بنظرات، ولا تستطيع أن تتكلَّم. بل تودِّع الأهل والأحباب، والأقارب والأصحاب، بنظراتٍ ذات اليمين وذات الشمال.   وكأنك تقول لهم: لمِثْلِ هذا فليعمل العاملون، لِمِثْل هذا فليُصلِّ المصلون، لِمِثْل هذا فليتصدَّق المتصدقون، لِمِثْل هذا فليَصُمِ الصائمون، لِمِثْل هذا فليَقُمِ الليلَ القائمون، لِمِثْل هذا الموقف الرهيب فليجتهد المجتهدون.   أين مَن كنت تُجاملهم في معصية الله؟! قد تواروا من أمامك.   أين سماع الأغنيات الماجنة، ومشاهدة الأفلام الفاجرة؟! ذهبتْ لذَّتُها، وبقيتْ حسرتُها. أين أنت غدًا؟!
أمام ملك الموت وهو يقبض روحك، فإذا وصلت الروح إلى الحلقوم، وهي أصعب ما تكون الروح فيها، وهي المنطقة التي أخبر الله عنها، فقال: ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الواقعة: 83 - 85].   وقال سبحانه: ﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ [القيامة: 26 - 30].   فتذكَّر نفسَك وقد قبض مَلَكُ الموت رُوحَك، وترَكك جثةً هامدةً، فإذا بولدِك يُقلِّبُك، وأمك تنظر في عينَيْك، وأختك تضرب صدرك، ولكن هيهات هيهات، إنه قد مات، نعم مات؛ لأن القرار الإلهي قد صدر بأنه: ﴿ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [يونس: 49].   نعم، إنه قد مات؛ لأن الجبار تعالى قد أخبر بأنه: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].   فلن ينفعك حينذاك إلا ما قدمت في هذه الحياة: لا دارَ للمرءِ بعد الموت يسكُنها إلا التي كان قبلَ الموتِ يَبْنيها فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنُه وإن بناها بشرٍّ خاب بانيها   أخي: إنا لنفرحُ بالأيامِ نقطعُها وكل يومٍ مضى يُدْني من الأجلِ فاعمَلْ لنفسِك قبل الموتِ مجتهدًا فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ


[1] صحيح: أخرجه مسلم (2958)، والترمذي (2342)، والنسائي (3615)، وأحمد في (المسند) (4 /24، 26)، وابن المبارك في (الزهد) (497)، وابن حبان في صحيحه (701). [2] أخرجه مسلم (2959)، وابن حبان في صحيحه (3244)، والبيهقي في (السنن) (3 /368، 369).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣