أرشيف المقالات

مكان النصح في الإسلام (1)

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2مكان النُّصح في الإسلام [*] (1)
عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: ((بايعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، والنُّصح لكلِّ مسلم))[1].
وعنه رضي الله عنه قال: ((بايعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم على السَّمْع والطاعة، فلقَّنني - فيما استطعتُ[2] - والنُّصْح لكلِّ مسلم))؛ رواهما الشيخان[3].   مكانة جرير في الصَّحابة: روى الشيخان هذا الحديث بروايات عدَّة، لمناسباتٍ مختلفة، عن جرير رضي الله عنه. وجريرٌ أحدُ الصحابة الأجلَّاء ذَوي التاريخ الحافل بالمناقب العليَّة والهممِ الأبيَّة، وإنْ تأخَّر إسلامه - كما قيل - إلى السنة العاشرة.   كان سيِّد قومه بَجيلة، وَوَفد على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الإسلام فأسلم، وما حَجَبَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم منذ أسلم، وما رآه إلا تبسَّم[4]، وشكا إليه أنه لا يثبُت على الخيل، فضرب بيده الكريمة على صدره، وقال: ((اللهم ثبِّته، واجْعَلْه هاديًا مَهْديًّا))[5]، وحجَّ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم حَجَّة الوداع، فاختاره أن يستنصت له الناس؛ كي يَخطبهم خُطبته الجامعة.   وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى ذي الخَلَصَة - بيتٌ كان فيه صنم لدَوْسٍ وخَثْعمٍ وبَجيلة وغيرهم - فهدَمه[6].   وخرج مع أنسٍ في سفر، فكان يخدم أنسًا مع أنه أكبرُ منه سنًّا، ويقول: لمَّا رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء، آليتُ ألَّا أصحب أحدًا منهم إلا خدَمته.   وكان رضي الله عنه رجلًا طُوالًا وسيمًا، حتى قال فيه عمر رضي الله عنه: جريرٌ يوسُفُ هذه الأمة.   ووجد عمر يومًا رائحةً في مجلسه، فقال: عزمتُ على صاحب هذه الرائحة، إلا قام فتوضأ، فقال جرير: اعزم علينا جميعًا يا أمير المؤمنين، قال: عليكم كلِّكم عزمت، ثم قال: يا جرير، ما زلت سيِّدًا في الجاهلية والإسلام.   ومن دلائل سيادته وعظيم نصحه وورعه، أنه كان إذا اشترى شيئًا أو باع يقول لصاحبه: اعلَم أنَّ ما أخذنا منك أحبَّ إلينا مما أعطيناك، فاخْتَر.   وروى الطبراني أنَّ غلامه اشترى له فرسًا بثلاثمائة دينار، فلمَّا رآه جاء إلى صاحبه، فقال: إنَّ فرسك خيرٌ من ثلاثمائة، فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثمانمائة.   موضع الحديث في صحيح مسلم: روى مسلمٌ هذا الحديث - بروايتيه هاتين، وبينهما رواية ثالثة مختصرة - في "كتاب الإيمان" عقبَ الحديث المشهور الذي رواه تميم الداري رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((الدِّين النصيحة))، قلنا: لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم))[7]، وليس لتميم الداري حديثٌ ما في صحيح البخاري عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وليس له في صحيح مسلم غيرُ هذا الحديث ((الدين النصيحة))[8]، ونرجو أن نشرحه في الجزء الآتي بمشيئة الله تعالى وتوفيقه.   مواضعه في صحيح البخاري: وأما البخاري فرواه كذلك في "كتاب الإيمان" بالرواية الأولى، في باب قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة...
)
)
، وأتبعها في الباب نفسه برواية ثانية تُبيِّن سببه، فقال: عن زياد بن عَلاقَة قال: سمعت جريرَ بن عبدالله يقول - يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: عليكم باتِّقاء اللهِ وحده لا شريك له، والوقار والسكينةِ، حتى يأتيَكم أمير، فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: اسْتَعْفُوا لأميركم، فإنه كان يحبُّ العفو، ثم قال: أما بعد؛ فإني أتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط عليَّ: ((والنُّصح لكلِّ مسلم))، فبايعتُه على هذا، وربِّ هذا المسجد إني لناصحٌ لكم، ثمَّ استغفر ونزَل[9].   وكان المغيرة بن شعبة واليًا على الكوفة في خلافة معاوية، ولمَّا حضرته الوفاة اسْتَنَاب عنه ابنه عروة، وقيل: استناب جريرًا؛ ولذا خطب.   وكانت وفاة المغيرة سنة خمسين، وتوفي جرير سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة أربع وخمسين، والمسجد الذي يشير إليه جرير في قَسَمِه بربِّه - إنه لناصحٌ لهم - هو مسجد الكوفة؛ إذ كانت خطبته به، وقيل: هو المسجد الحرام، ويؤيِّده ما جاء في رواية الطبراني: ((وربِّ الكعبة))؛ وأيًّا ما كان الأمر، فقد وفَّى رضي الله عنه بما بايع عليه النبيَّ صلى الله عليه وسلم في كلِّ شأن من شؤونه عامَّة وخاصَّة، لم يدَّخِر في ذلك وسْعًا، ولم يَألُ جهدًا.   ثم رواه البخاري في باب "البيعة على إقامة الصلاة"، من كتاب "مواقيت الصلاة"[10]، وفي باب "البيعة على إيتاء الزكاة"، من كتاب "الزكاة"[11]، ورواه في باب: هل يبيع حاضر لباد؟ من كتاب "البيوع"، ولفظه فيه: "بايعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والسَّمع والطاعة، والنُّصْح لكلِّ مسلم"[12].   كما رواه في أوائل "كتاب الشروط"[13]، ثم رواه أخيرًا بالرواية الثانية التي اخترناها مع الرواية الأولى، في باب: "كيف يبايع الإمام الناس"، من كتاب "الأحكام"[14].   جانب من فقه الإمام البخاري: وإنما ذكرنا مواضعه من صحيح الإمام البخاري؛ تبيينًا لجانبٍ من فقه البخاريِّ رحمه الله، ودقيق صنعه في تَكرير الحديث الواحد في غير موضع من كتابه؛ وتحقيقًا لرغبة المُستزيدين من فقه الحديث وشرحه.   لِمَ لَمْ يذكر الصَّوم والحج في المبايعة؟ ولم يذكر الصَّوم والحجَّ في المبايعة - وهما ركنان من أركان الإسلام الخمسة - اكتفاءً بأهم الأركان ومعظمها، على أنهما داخلان في عموم المبايعة على السمع والطاعة.   تقييد السمع والطاعة بالاستطاعة: وتقييدُ السمع والطاعة بالاستطاعة موافقٌ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286].
وتلقينه صلى الله عليه وسلم[15] من كمال رأفته ورحمته بأُمته؛ لئلا يتكلَّفوا من الأمر ما لا يطيقون، فيقعوا في العُسْر والحرج: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وفي ذلك إشارةٌ إلى رفع المُؤاخذة بالخطأ والنسيان وما أُكره عليه المرء.   الرجال والنساء سواء في حق النُّصح: والمسلمة كالمسلم في وجوب السمع والطاعة والنُّصح؛ لأنَّ النساء شقائقُ الرجال وأخواتُهم في التكليف العام.   بل إنَّ للكافر على المسلم حقَّ النصح والإرشاد والدعوة إلى الحقِّ، ولا سيما إذا رَغِبَ في الهداية بلسان الحال أو المقال، وإنمَّا خصَّ المسلم؛ لأنَّ حقَّه أَوْجَب، واستجابتَه أقرب، وأُخوَّته أعظم شأنًا وألصق جوارًا.   أما بعد؛ فهذه مبايعةٌ نبويَّة على الدِّين كلِّه عامَّةً، وعلى النصيحة منه خاصَّة؛ لأنها عماده وملاكه … وتفصيل هذا في الجزء الآتي إن شاء الله.   منزلة هذا الحديث من السنة: منزلة هذا الحديث من السنة بمنزلة سورة (العصر) من الكتاب المبين؛ فقد أجملَ الدينَ كلَّه - أصولَه وفروعَه - في هذه المبايعة الجامعة التي اختتمها بالنُّصح لكلِّ مسلم، كما أجْمَلت السُّورةُ الكريمة الدين كلَّه - أصولَه وفروعَه كذلك - في الإيمان وعَمَل الصالحات، ثم اختصَّت من بين الصَّالحات بالذكر، تواصي المؤمنين بالحقِّ، وتواصيهم بالصبر، وفصَّل الكتاب ما أجْمَلته السورة، كما فصَّلت السنة ما أجمله الحديث ...
وقام الدين الحنيف كاملًا شاملًا صالحًا لكلِّ زمان ومكان، على كتاب الله وسنة رسوله معًا، لا يزيغ عنهما إلَّا هالك.


[*] مجلة الأزهر، العددان الأول والثاني، السنة التاسعة والعشرون (1377هـ = 1957). [1] أخرجه البخاري (57)، ومسلم (56) كلاهما في كتاب الإيمان. [2] قال النووي في "شرح مسلم": والرواية بفتح التاء، وقال صاحب "الفتح": رويناه بفتح التاء وضمها؛ (طه). [3] أخرجه البخاري (7204) في كتاب الأحكام، ومسلم (56) في كتاب الإيمان، وسيأتي ذكر موضع الحديث في الصحيحين. [4] أخرج البخاري (3035) و (6089)، ومسلم (2475) عن جرير بن عبدالله قال: "ما حجَبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، وما رآني إلا ضحِك". [5] أخرجه البخاري (3035) (3036)، ومسلم (2475). [6] انظر الحديث في البخاري (4355)، ومسلم (2476). [7] أخرجه مسلم (55). [8] وحديثه يبلغ ثمانية عشر حديثًا في السنن الأربعة، منها في "صحيح مسلم" (2942) في الفتن وأشراط الساعة حديث الجسَّاسة، وهي الدابة التي رآها في جزيرة البحر، وسمِّيت بذلك لأنها تجسُّ الأخبار للرجال. [9] أخرجه البخاري (58). [10] البخاري (524). [11] البخاري (1401). [12] البخاري (2157). [13] البخاري (2715). [14] البخاري (7204). [15] أي: إلقاء الكلام عليه وسماعه منه قوله: "فيما استطعتُ".



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١